“أيظن”.. صدفة جمعت ملك الشعر وسيد الألحان وبلبل الغناء

تروي الجزيرة الوثائقية في هذا الفيلم من سلسلة “حكاية أغنية” قصة تلك الصدفة الجميلة التي جمعت ثلاثة من العمالقة في مجالاتهم، وهم الموسيقار محمد عبد الوهاب، والشاعر نزار قباني، والمطربة نجاة الصغيرة.

يُقال في المثل: ربّ صدفة خير من ألف ميعاد. غير أن لسان حال نجاة الصغيرة ونزار قبّاني يقول:

“لكن الصدفة لم تجمعنا بعد؛ ذلك أن كلينا مرتبط بمواعيد كثيرة جدا، والألف ميعاد لم تجمعنا هي الأخرى؛ ذلك أننا لم نتصادف يوما ما لنضرب بيننا موعدا واحدا على الأقل، لكن هذا بالتأكيد لا ينفي أبدا أننا سنلتقي يوما ما بشكل أو بآخر”.

نجاة الصغيرة.. رسالة اعتذار من شاعر المرأة تحمل كنزا خفيا

لم يكن هناك فعليا لقاء على المستوى الشخصي بين نجاة ونزار، غير أنها كانت مهتمة بقراءة دواوين نزار، على الرغم من عدم إعجابها بصورة المرأة في شعره.

لكن قصيدة “أيظن” التي وصلتها مع رسالة شخصية من نزار -الذي كان حينها دبلوماسيا في الصين للجمهورية العربية المتحدة، بعد إتمام الوحدة بين سورية ومصر سنة 1959- ضربت بعمق في نفسها، كقصيدة جديدة مختلفة تحوي كنزا خفيا يستحق البحث عن مفتاحه.

كنز حملته نجاة بعناية وراحت تطرق أبواب الملحنين من محمد الموجي إلى كمال الطويل لعلهم يفكّون أسراره بأناملهم البارعة، لكن لم يقدِم أحد منهما على هذه المغامرة في سبر غور نمط شعري جديد ومختلف شكلا ومضمونا، إذ لم يخبراه من ذي قبل.

كلمات أغنية “أتظن” التي كتبها نزار قباني لنجاة الصغيرة خصيصا لكي تغنيها

رجعت نجاة خائبة بخفي حنين، مما ألجأها إلى صديقها المحرر إسماعيل الخبروك في الجريدة، فنشر هذا الصديق الرسالة والقصيدة مذيلة بتعليق منها.

محمد عبد الوهاب.. صدفة أكملت أضلاع مثلث الحكاية

وتشاء الأقدار أن تكتمل أضلاع مثلث الحكاية، حين يقرأ الملحن العظيم محمد عبد الوهاب الخبر صدفة في الجريدة، فيهاتف نجاة من فوره مستوضحا متسائلا عن صحة الخبر، لتؤكد له ذلك.

يغيب عبد الوهاب لفترة ثم يعود لنجاة بلحن صعب جديد للقصيدة لم يُسبق في تاريخ الأغنية العربية على شريط كاسيت وبصوته ويرسله إليها، وحينها ينتشر خبر الأغنية في الأوساط الفنية.

ونتيجة لخطأ إذاعيّ تقني يتسبب به جلال معوض يُعرض الكاسيت كاملا بصوت عبد الوهاب لتبدو كأنها له هو، مما يتسبب بلغط كبير في الوسط الفني واعتراض شديد من نجاة.

بعد أن لم تجد نجاة الصغيرة من يلحن لها أغنية “أيظن” نشرت قصتها في الجريدة فتلقفها محمد عبد الوهاب

لكن سرعان ما يقفز الجميع فوق هذه الأزمة لتخرج الكلمات من حنجرة نجاة الذهبية بصوتها الدافئ الحنون، صوت نجاة الذي هو طوق نجاة للعالقين بين مدّ الليالي وجزر الأيام.

أيظن أني لعبة بيديه

انا لا أفكر بالرجوع إليه

اليوم عاد كأن شيئا لم يكن

وبراءة الأطفال في عينيه

ليقول لي: إني رفيقة دربه

وبأنني الحب الوحيد لديه

نزار قباني يكتب قصيدة “أيظن” بشكل خاص لنجاة الصغيرة

لقد شكلت أغنية “أيظن” علامة فارقة في تاريخ الغناء العربي، وحازت إعجاب ملايين من الجماهير، تماما كما شكلت لنجاة هويتها الشخصية بعد أن كانت محض صدى لمحمد عبد الوهاب.

ونسيت حقدي كله في لحظة

من قال إني قد حقدت عليه؟

كم قلت إني غير عائدة له

ورجعت.. ما أحلى الرجوع إليه

نزار قباني.. أب يهنئه الناس بمولود لم يره قط

بالرغم من جماهيرية شعر نزار وتميزه وقوته، فإنه لم يسلم من النقد في الوسط الفني والأدبي والتخوف من أن يصبح شاعرا غنائيا وحسب.

نزار الذي عاتب نجاة في رسالته الشهيرة إليها مستغربا مستنكرا أن يسمع العالم كله ويرى مولوده “أيظن” تناغيه الموسيقى وتهدهده الألحان وتربّت الجماهير على كتفه الطريّة بالتصفيق؛ قبل أن يمارس هو أبوّته له ويسمعه ويراه.

بعد أن غنت له قصيدته “أتظن”، نزار قباني يطالب نجاة الصغيرة بنسخة من شريط الأغنية

وتبقى أغنية “أيظن” بحكايتها المنسوجة على نَوْل الصدفة، وكلماتها المنثورة على كتف اللهفة، ولحنها المنسابِ على شفة نجاة رشفة رشفة.. تبقى “أيظن” تُحفة.