“البحر السطيت”.. أغنية خالدة ترفض سطوة فيضان النيل

وتحدث إليه بندّية عالية، ووصفه بالظلم والسطوة. إنه الشاعر السوداني أحمد محمد الشيخ الذي حمل لقب الجاغريو.

خاطب الجاغريو النيلَ بـ”البحر السطيت” وهي من السطو أو السطوة، ولعل الشاعر أرادهما كليهما، وطارت هذه القصيدة في الآفاق، يغنيها الناس كلما فاض النيل، وحتى يومنا هذا.

 

وقد أفردت الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “حكاية أغنية” للحديث عن هذه الأغنية ذائعة الصيت.

“كشّفت العرايس”.. شاعر الموقف يصف الطوفان المدمر

كان الجاغريو شاعرا على البديهة، يرى الموقف فيصفه شعرا، ثم يلحنه ويغنيه في آن واحد، وعندما كتب قصيدته “البحر السطيت” كان يحكي بلسان حال المجتمع، وشدة الغضب مع حالة العجز التي انتابت الناس جراء سطوة النيل عليهم بالطوفان الذي يدمر المنازل ويحطم القلوب:

يا البحر السطيت
غيرك ما في ذكرى
كشّفت العرايس
العجوز والبِكرة
وهدمت الجسور

 

غنى الجاغريو هذه الأغنية بصوته لأول مرة في منتصف الأربعينيات، ولم تكن الإذاعة السودانية قد أنشئت آنذاك، ثم سجلت لأول مرة في الإذاعة بعد إنشائها في 1957، وكان المطرب خلف الله حمد ضمن المجموعة التي تردد وراء الجاغريو، ثمّ غنى من بعد جميع أغانيه، وكان من أشهرها “البحر السطيت”:

الخولي النشيط
صار ما عنده فكره
وأصبح ساهي حاير
ولّت عقله سَكره
والأفكار تدور
ما همّك حالهم
ما فيش ليك شكره
زمّلوا لرحالهم
عرفوك ناوي مَكره
خايضين للصدور

مشاهد الفيضان كأنك تراها.

“دمّرت البشاير”.. لوحة فنية لعروس محمولة على السرير

استمرت الإذاعة السودانية في بث الأغنية، وكان يتذكرها الناس كلما داهمهم النيل بالفيضان. كان الشاعر ابن لحظته، وقد شاهد أثناء الفيضان عروسا قد حملها أهلها على سريرها هربا، فسّجل تلك اللحظةَ في قصيدته لتتخلد كأنها لوحة فنية من العصور الوسطى:

حين يفيض النيل تغرق القرى وتهدم البيوت ويشرد الأهالي ويجوع الناس

ماكر جيتنا ساير

ليلك كله تسري

ودمّرت البشاير

وتعوّضنا حسرة

وتيّارك يفور

كل ما تشوف زراعة

عليها أخذْتَ كسرة

وتنشط لصراعها

كاتل ليك مسرة

وحكمك كله جور

حكم الديكتاتور.. دراما حقيقية من مشاهد الفيضان المتكرر

كانت الأغنية قوية، صوّر فيها الشاعر مشاهد درامية حقيقية لفيضان النيل، فأصبحت بذلك أغنية أسطورية، خلّدت مشاهد الفيضان المتكرر. وخلّدت الأماكن التي حصل فيها الفيضان في ذلك الزمان، وكانت تلك منطقة الدبيبة شرقي النيل. وقد دمّر الفيضان الزرع وخلّف حسرة في قلوب المزارعين، وأفنى الأنعام وحرم أهلها من ألبانها ولحومها:

حكمك الديكتاتوري
في الكون كله شرّة
ما بحبسوك كجور

الشاعر السوداني أحمد محمد الشيخ، الملقب بـ”الجاغريو مؤلف أغنية “البحر السطيت”

وهنا شبّه البحر بالدكتاتور، وهذه مفردة كانت جديدة على الشارع السوداني في منتصف الأربعينيات، لكنها كانت تصوّر تماما مظاهر التسلط والجبروت التي كان يمارسها النيل على الحجر والبشر والناس والدواب.

وادي النيل.. وحدة الشعوب في وجه سطوة الفيضان

كان خلف الله حمد أحد أعمدة الغناء الشعبي السوداني، وقد استطاع تجسيد معاني هذه الأغنية بأدائه المميز العابر للحدود، فكأنها هتفت بوحدة النيل ووحدة أراضيه وأبنائه، يغنيها السوداني والإثيوبي والمصري على حدّ سواء، فكلهم أمام سطوة النيل شعب واحد.

الخرطوم حاضرة النيلين الأبيض والأزرق

ورغم أن الذين شهدوا تمرد النيل ذاك ليسو على قيد الحياة الآن، فإن المشاهد التي صورتها أغنية “البحر السطيت” ظلت ماثلة إلى يومنا هذا، يعيشها الناس لحظة بلحظة كلما فاضت مياه النيل:

حايرين في جنايتك
الأدهى والأمرّ
التراب تلاشى
وانعدم بالمرة
ما بينفع عذر
وين يا نيل عنايتك
مزارعيك قرّوا
كايس للصبر