“قوة الموجة الكورية”.. نهضة فنية وثقافية تأسر العالم وتنعش الاقتصاد

لم تعد كوريا الجنوبية مشهورة بأطباقها اللذيذة فقط، بل إنها ستضيف لوجباتكم نكهة إضافية، إنها نكهة الغناء الشعبي، هل سمعتم عن الـ”بي تي إس”؟ في هذا المطعم الذي تستمتعون الآن بأطباقه اللذيذة، تجدون كل هذه الملصقات التي من حولكم تعود لفرقة “بي تي إس” (BTS)، وهي فرقة متألقة في فن البوب الكوري (K-POP)، وقد تربعت منذ تأسيسها عام 2013 على عرش الموسيقى العالمية.

في تلك الصالة التي أسفل المطعم كان أعضاء الفرقة يتدربون، وقد دأبوا على تناول وجباتهم هنا، إنهم محبوبون ولطيفون، وما زالوا يلقون التحية على رواد المطعم وأصحابه بتواضع رغم شهرتهم العالمية، ولقد أصبحوا مصدر اعتزاز لكوريا كلها وسفراءها في العالم.

ليسوا وحدهم، فشأنهم شأن الدراما الكورية والجمال الكوري أيضا، فقد ارتفعت الموجة الكورية لتغطي العالم أجمع، ولتعود بمليارات الدولارات تضخها في الاقتصاد الكوري. وهذا ما حدا بالجزيرة الوثائقية لتقدم هذه السلسلة الشائقة عن كوريا بعنوان “الهوس الكوري”، وسيكون موضوع هذه الحلقة من السلسلة بعنوان “قوة الموجة الكورية”.

“كوريا بوب”.. هوس عالمي للحاق بثقافة الشرق الأقصى

ترافقنا في هذه الحلقة الصحفية الأمريكية ذات الأصل الكوري “جو وي لي”، وستحاول معرفة سبب هذا الهوس العالمي بالثقافة الكورية في العقدين الأخيرين، وما هو الثمن الذي يدفعه النجوم الكوريون جراء هذا النجاح، إذ يقيم في كوريا اليوم أكثر من 2.5 مليون أجنبي، فضلا عن أعداد كبيرة أخرى يأتون بتأشيرات زيارة للحاق بثقافة “الهاليو”.

هنالك أكثر من 100 مليون إنسان حول العالم مولعون بالموجة الكورية “الهاليو”، وهم منتشرون حول العالم، ويسمون أنفسهم “كوريا بوب”، وبعضهم انتقل للعيش في كوريا مثل الأمريكي “كارل واين” الذي يعيش في كوريا منذ 6 سنوات، وهو مهتم بجمال الوجه على الطريقة الكورية. يقول: كنت لا أكاد أغسل وجهي، واليوم أصرف ساعتين على الأقل من وقتي يوميا للعناية ببشرتي.

أجانب مهووسون بالـ”كي-بوب” انتقلوا للعيش في كوريا الجنوبية لممارسة هذا الفن كي يحظوا بالشهرة

ويتحدث عن بدايات هوسه بالثقافة الكورية قائلا: كنت مهوسا بالثقافة الكورية في سن المراهقة، لدرجة أنني غيرت اسمي، أما اليوم، فقد خبا ذلك الوهج الذي يشدني إلى كوريا، بعد أن نضجت كثيرا، وعشت في كوريا مدة طويلة، فأرض الواقع ليست بالضرورة كما تصور الشاشات، وبالمجمل فكلٌّ له هويته الخاصة، والاندماج الكلي مستحيل إلى حد ما، وسيبقى لوني وملامح وجهي يشيران إلى أنني لست كوريا.

أما الصحفية الكورية “جو وي لي” فتقول: لطالما شعرت بالدونية من كوني آسيوية تعيش في أمريكا، فقد كنت أواجَه بالسخرية كثيرا. أما اليوم فقد تغيرت كثيرا وازددت ثقة بنفسي، بسبب ظاهرة الكوريا بوب وانجذاب الناس نحو الثقافة الكورية. وربما كان انجذاب الناس سطحيا، وبدون جذور عميقة، ولكنه في النهاية يتيح لهم أن يعرفوا شيئا ما عن كوريا وشعبها.

ثقافة الهاليو.. نفوذ عالمي للقوة الناعمة الكورية

في أقل من قرن، تحول هذا البلد الذي دمّره الاحتلال الأجنبي، وأحرقته الحروب الأهلية، واستبدّت به الديكاتوريات المتوحشة، إلى أحد أكبر اقتصادات العالم، وأبرز البلدان المؤثرة ثقافيا. فكيف غيرت هذه القوة الناعمة البلاد؟

تجيب الدكتورة “إي يونغ” -أستاذة الفلسفة الإعلامية- على هذا التساؤل قائلة: في الماضي كان ذوو البشرة البيضاء والمتحدثون بالإنجليزية محور الكون، وكنا نحن الكوريين مجرد شخصيات ثانوية مساعدة، ولكن عندما رأيت أداء فرقة “بي تي أس” شعرت أنه يمكن الإطاحة بهذا السلّم الاجتماعي، وأن التفوق الأبيض لم يعد من المسلَّمات. لقد استعدنا شعور الفخر والعزة الذي سُلِب منا، منذ أن تحررنا من الاحتلال الياباني في منتصف القرن العشرين، فلقد أعادت لنا هذه الفرقة الثقة بأنفسنا، وهي ثقة آخذة في الازدياد.

فيلم “باراسايت” يفوز بالأوسكار ويعكس القوة الناعمة التي تضغط بها كوريا الجنوبية على العالم

في عام 2020 أنشأت وزارة الثقافة قسم دعم ونشر “الهاليو”، للاستفادة من هذه القوة الناعمة التي اخترقت المعاقل الشعبية الغربية، وتجلى ذلك في فوز فيلم “الطُفَيْلي” (Parasite) بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم في 2020، وفوز “يون لي” كأفضل ممثلة مساعدة في السنة التي تلتها، وهو الأمر الذي حشد مزيدا من القلوب في العالم حول “الهاليو”.

ومع ارتفاع موجة “الهاليو”، بات في مقدور الذين يرغبون بالنجومية حول العالم أن يتعلموا “كيه- بوب” للوصول إلى حلمهم، ولذلك افتُتح كثير من المعاهد في كوريا، لتدريب الأجانب على الرقص الكوري، ويستمر التدريب بضعة أشهر أو حتى سنوات، ليتخرج المهتمون نجوما معشوقين في الرقص الكوري، والأعداد في ازدياد.

“أليكس”.. مطربة سوداء تخترق العوالم الكورية

اندمج عدد من المتدربين الأجانب في فرق كورية عاملة من الصين وتايوان وتايلاند، ولم تعد اللغة والجنسية عاملا فارقا في أن تكون محبوبا للجماهير من خلال فرقة كورية، فما عليك سوى التدرب وبذل المزيد من الجهد لتندمج مع النجوم وتصبح من المحبوبين، وليس شرطا أن يكون صوتك جميلا، المهم أن تتقن الأداء وتكون منسجما مع الفريق.

لكن هناك عقبات قد تحول دون أن يصبح أحدهم نجما محبوبا، فجميع النجوم الناجحين جماهيريا هم كوريون أو شرق آسيويين، ولكن هنالك حالات نادرة استطاعت أن تتجاوز هذه العقبة. ومن أجل ذلك تلتقي الصحفية “جو وي لي” مع “أليكس ريد”، وهي أول نجمة سوداء في كوريا، وقد انضمت في 2015 لفرقة “رانيا”، ثم عادت إلى الولايات المتحدة بعد قضاء سنتين مع هذه الفرقة.

تقول “أليكس”: كنت أسجل أغاني في أمريكا، وأديت واحدة من أغاني “كيه- بوب”، وقد اكتشفني وكيل إحدى مؤسسات المواهب الكورية، ولم يتردد في دعوتي إلى كوريا، قال لي لدينا مؤلفو أغانٍ ومنتجون من السود، فلماذا لا تكون لدينا مغنية من السود أيضا؟

النجمة السوداء “أليكس” هي الوجه الجديد لفرقة “رانيا”، وتظهر في وسط الملصقات الترويجية للفرقة وعلى أغلفة الألبومات

أصبحت “أليكس” وجه فرقة “رانيا” الجديد، وكانت تظهر في مقدمة ووسط الملصقات الترويجية للفرقة وأغلفة الألبومات، لكنها وجدت نفسها مهمشة في العمل الحقيقي، فبعد دقيقة أو اثنتين من الغناء تجد نفسها في الزاوية البعيدة.

تقول” أليكس”: لكنها كانت تجربة جيدة للغاية، وجدتُ نفسي بين أناس يتقبلونني ويقبلون عليّ كملهمة لهم، فلقد انتظم كثير منهم في برامج تدريبية للـ”كيه- بوب” من أجلي فقط. لقد منحت الأمل للكثير من الأجانب كي يصبحوا نجوما في كوريا.

لكن هل يتقبل الشارع الكوري حقا مزيدا من النجوم الأجانب في لون الـ”كيه- بوب” أم أنها مجرد خدعة تسويقية من أجل نقل ثقافة الـ”كيه- بوب” إلى عوالم أخرى خارج آسيا؟

“ويب تونز”.. رسومات كرتونية تشكل موجة فنية عاتية

يعتبر الكوريون من أكثر شعوب الأرض تواصلا من خلال الهواتف الذكية، ويقضي الفرد الكوري ما معدله 4 ساعات يوميا يتصفح هاتفه، وهناك وجه آخر من أوجه الثقافة الكورية يشد انتباههم، إنها القصص المصورة الرقمية ذات الشخصيات الكرتونية “ويب تونز”، التي يمكن تصفحها عبر الهاتف الذكي.

فكثير من قراء هذه القصص يميل إلى وجود الجانب الرومنسي فيها، ويتعاطفون كثيرا مع شخصياتها الكرتونية، إلى درجة البكاء والتوتر في انتظار ما سيحدث لأبطالهم المحبوبين في القصة. ومن أشهر القصص التي انتشرت في كوريا وتعاطف معها الناس كثيرا قصة “تقليد”، وهي قصة نجمة رقص تبدأ حياتها مقلدة لنجمة أخرى، ثم تستقل بشخصيتها لتصبح نجمة محبوبة.

تدرّ صناعة المسلسلات الكورية 20 مليار دولار سنويا، وترتكز أساسا على تجسيد قصص الـ”ويب تونز” المصورة

ومثلما صدرت أعمال درامية عن قصص الـ”ويب تونز” المصورة، فإن المنتجين يعملون حاليا على تصوير عمل درامي يرتكز على قصة “تقليد”، وسيقوم بالأداء ثلة من مشاهير كوريا في الرقص والغناء، فصناعة المسلسلات الكورية تدرّ 20 مليار دولار سنويا، بحجم إنتاج يزيد عن 100 مسلسل، وكلما زادت الموجة الكورية عالميا تعاظم حجم المسؤولية الملقاة عليها، وتسبب ذلك بسقوط ضحايا، فقد عمد كثير من النجوم إلى الانتحار جراء الضغط الكبير الذي يواجهونه.

انتحار النجوم.. قوانين عاجزة عن ضبط الشهرة القاتلة

“كوان شان” نجم كوميدي محبوب، تحول بفعل عاصفة الانتحار التي تعصف بالنجوم إلى مستشار نفسي، للتخفيف من حدة هذه المعاناة. يقول: قدمتُ خدماتي الاستشارية لأكثر من 300 شخص، فالمشاهير الكوريون يتعرضون لضغوط كبيرة، ودوري يتجلى في مساعدتهم على تقبل آلامهم والتغلب عليها، وكلما زادت الشهرة زادت المنافسة واشتدت الضغوط. ولكن كيف يؤثر تعاظم الموجة الكورية عالميا على المشاهير؟

يجيب “شان”: نحن نعيش في منظومة تركز على احتلال المرتبة الأولى في كل شيء، وليس في مجال الترفيه فقط.

عالم النفس “كوون تشان” يستقبل حالات الاكتئاب الكثيرة بين نجوم الـ”كيه- بوب” خوفا من انتحارهم

وليست التحديات محصورة في الضغط النفسي فحسب، بل هنالك تهديدات ومضايقات يواجهها المشاهير عبر الإنترنت، مما اضطر اثنتين من نجمات البوب إلى الانتحار، وللأسف فما زالت القوانين الكورية عاجزة عن التصدي لهذا النوع من المضايقات، ولذا فالشكاوى المقدمة إلى الشرطة تصنف “مشاكل شخصية”.

إن هذا النجاح الباهر في صناعة الترفيه يخفي عواقب وخيمة، ولكنها لا تمنع أجيالا صغيرة من السعي المحموم وراء الشهرة ونيل الإعجاب. فهذه فرقة “بيرفي” المؤلفة من فتيات في عمر 10-11 سنة فقط، ترى ما هي التضحيات التي ستقدمها هذه الفتيات في عمر الزهور؟ وهل تستحق الشهرة كل هذه التضحيات؟

تتدرب الفتيات أربع ساعات بعد المدرسة ليومين في الأسبوع، ويستمر عقدهنّ مع مدرسة تدريب الأطفال حتى يبلغن عامهن الرابع عشر، بعدها يطلب منهن شقّ طريقهن بأنفسهن، والمحظوظات منهن هن من يتلقين طلبات من منتجي الـ”كيه- بوب” لتسجيل أغانٍ احترافية معهن.

“يوجين”.. مستقبل فني مرهون بضرائب الشهرة المرهقة

تتحدث إحدى المغنيات قائلة عن معاناة الوسط الفني قائلة: أنا “يوجين”، طالبة جامعية وعمري 21 عاما، كنتُ عضوة في فرقة “بونس بيبي”، وقد حققنا بعض النجاحات المتواضعة، ولكنني لم أستطع الاستمرار، إذ كنا نخضع لحميات غذائية صارمة، رغم أن وزني خفيف، لكنني خسرت الكثير من وزني حتى بلغت 42 كغم، فقد كان غذائي اليومي 6 حبات من اللوز وعبوة صغيرة من حليب الصويا. كنت أتضور جوعا دائما.

ولا يقتصر الأمر على الحميات القاسية فحسب، بل إن شركات الـ”كيه- بوب” تفرض رقابة صارمة على الحياة الاجتماعية لأعضائها، وتضيق عليهم حريتهم في التحرك، مما يجعلهم عرضة للاكتئاب، والخوف من مواجهة الناس، حتى أثناء ركوب المواصلات العامة.

“يو جين” طالبة جامعية وعضوة سابقة في فرقة “بونس بيبي”، تتحدث عن الظروف القاسية جدا لأعضاء الفرقة

تقول “يوجين”: أتفهم سعي الأطفال للشهرة المبكرة، واستمتاعهم في البداية بما يقدمون، ولكن قلبي يتفطر عليهم مما سيواجهونه حين يبلغون سن الرشد، ويقاسونه من الحميات والتمارين المرهقة وعمليات التجميل الكثيرة التي سيخضعون لها.

وتأمل “يوجين” أن تشق طريقها في مجال الغناء باستقلال، إذ توفر لها القنوات الرقمية مثل يوتيوب فرصة الانعتاق من سيطرة وكالات الترفيه، وتشعر بالفخر الشديد لأن بلدها خرج من المعاناة، واستقل عن سيطرة القوى الأخرى، وشق طريقه بثبات نحو القمة، وبذل أبناؤه تضحيات جسيمة من أجل الوصول لدائرة الضوء العالمية.