“واه يا عبد الودود”.. رسالة من صعيدي لابنه على الجبهة بعد النكسة

حين يجتمع الشيخ إمام مع الشاعر أحمد نجم، فاعلم أن عملا وطنيا مميزا سيرى النور، أو أن نقدا لاذعا سيلسع الحكومة بسخرية عفوية على الطريقة المصرية، فقد عوّدنا هذا الثنائي المتألق على تقديم فنّ رفيع، تغنّى به المصريون والعرب في كثير من المناسبات القومية والوطنية.
وقد جاءت أغنية “واه يا عبد الودود” في هذا السياق. فبعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 كان لا بدّ تضافر الجهود، كلّ في موقعه، من أجل لملمة الجراح والانطلاق من جديد.
وقد قدّمت الجزيرة الوثائقية هذه القصيدة في حلقة من السلسلة التي أنتجتها بعنوان “حكاية أغنية”، وتناولت فيها أعمالا فنية تركت بصمة في ذاكرة الشعوب.
عبد الودود.. رسالة من أب صعيدي لابنه على الجبهة
تعتبر أغنية “واه عبد الودود” من أجمل القصائد التي كتبت باللهجة الدارجة الصعيدية، وقد ظهرت لأول مرة في توقيت شديد الحرج للوطن والمواطن على السواء، ففي يونيو/حزيران 1967 اشتعلت الحرب بين العرب والصهاينة، وحدث ما حدث، وتبلورت حقيقة الهزيمة العسكرية العربية كأشد ما تكون.
كان ثمةَ وعي يترنح، وهزيمة وانكسار مذل، فاشتعل الغضب في الصدور. وبما أن الشاعر ذو إحساس أكثر من العامة بمرارة الواقع، فقد كان أحمد فؤاد نجم نبض الشارع في تلك الفترة العصيبة.

خرج أحمد إلى الشارع فرأى الناس تعلو وجوههم حالة من الذهول والصدمة، وركب الحافلة والركاب يخيم عليهم الوجوم والحزن، والمحصّل قد فارقته ابتسامته وروح الدعابة التي اعتاد عليها، فتوجه إلى مكتبه وخط كلمات هذ القصيدة التي اشتهرت فيما بعد باسم “واه يا عبد الودود”. وتمثلت القصيدة في رسالة موجهة من أب صعيدي لابنه على الجبهة يقول له:
واه يا عبد الودود.. يا رابص عالحدود
ومحافظ عالنظام
كيفك يا واد صحيح.. عسى الله تكون مليح
وراقب للأمام
أمك عا تدعي ليك.. وعا تسلم عليك
وتقول بعد السلام
خليك جدع لأبوك.. ليقولوا منين جابوك
ويمسّخوا الكلام
حسن محارب.. شمعة مضيئة في ليل حالك الظلام
كان عبد الودود ذلك الجندي الصامت الذي لا يعرف إلا العمل، كان ابن مصر كلها، وكان حسن محارب أبوه يمثل أهل مصر جميعها، ويصر على استمرار المسيرة وعدم الاستسلام للانتكاسة، ويوصي ابنه بالأخذ بالثأر وعدم الرضوخ:
واه يا عبد الودود
عقولَّك وانت خابر.. كل القضية عاد
ولسا دمّ خيَّك.. مشرباش التراب
حِسّك عينك تزحزح.. يدّك عن الزناد
خليك يا عبدو راصد.. لساعة الحساب
آن الأوان يا ولدي.. ما عاد الا المعاد
تنفضّ الشركة واصل.. وينزاحوا الكلاب
إن كنت وادّ أبوك.. تجيبلي ثار أخوك
والأهل يبلّغوك.. جميعا السلام

كانت القصيدة شمعة مضيئة في ليل حالك الظلام، وقد نُشرت في مجلة “آخر ساعة” في نفس اليوم الذي أعلن فيه عبد الناصر خطاب “التنحّي”، وهو الخطاب الذي أثّر في المصريين وهم يرون القائد يغادر المسيرة، في الوقت الذي كانوا فيه بأمسّ الحاجة إلى قائد ينهض بهم:
ومن هنا القرايب.. والعيلة والعيال
عايبلّغوك سلامهم.. ولتِمَّة الرجال
كيفك وكيف زمايلك.. عسى الله طيبين
نجم وإمام.. ثنائي عبقري غيّر سبيل الكلمة واللحن
لم ينسحق الشاعر أحمد فؤاد نجم تحت وطأة الهزيمة الثقيلة، وهو بهذا يحاول تمثيل جميع الشعب المصري، وجاءت قصيدته من أجل إعادة تأهيل الجماهير للثأر من الغاصبين.
وهنا لا بد من الإشادة بدور الشيخ إمام، فقد أبدع في ترجمة القصيدة إلى أغنية خالدة لاستنهاض الهمم وبث الأمل بعد كل كبوة، وقد شكّل الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام مرحلة مفصلية في تاريخ الأغنية المصرية، إذ حوّلا طريقها من الاتجاه الهابط نحو اللهو والعبثية، إلى الطريق الصاعد باتجاه بث الوعي، والحس الوطني الرفيع.

كان الشيخ إمام ذا قدرة فريدة على اختيار اللحن المتمرد على صدمة الهزيمة، واستطاع بصوته الدافئ وتقمُّص لهجة ابن الصعيد الواثق أن يرتفع بالأغنية من ربقة الذل ووحل الانكسار، إلى سماء النصر والأخذ بالثأر، وجاءت عبقرية الكلمات لتطمئن الابن في الجبهة على أوضاع الجبهة الداخلية في عموم البلاد:
خالك زناتي جايلك.. ضمن المطَّوّعين
واختك تطلع يوماتي.. عالمستشفى القديمة
حاكِم هيعيّنوها.. في العركة تكون حكيمة
ومحمدين موافي.. يتعلَّم المطافي
ويقولّك شدّ عزمك.. ويقولّك العوافي
“غفير برج الحمام”.. سلام وحرب في توقيع القصيدة
جاءت النهاية العبقرية بتوقيع الرسالة من حسن محارب والد عبد الودود، وهو غفير يرج الحمام، وإذا كانت رمزية الاسم تحمل الحُسْن في السلم مع الشدّة في الحرب، فإن المهنة كذلك جاءت لتدل على الغفير الفطن، الحارس لبرج الحمام وهو رمز السلام:
وآخِر الكلام.. بنقولّك في الختام
الله ينصر بلدنا.. ويحرس السلام
والدك حسن محارب.. غفير برج الحمام
استمر الجنود يرددون الأغنية طيلة فترة حرب الاستنزاف، وكانت وقودهم على الجبهة أثناء حرب رمضان المجيدة 1973، وما زال الأحرار يرددونها في أرجاء مصر والوطن العربي عموما، وهم يمنّون النفس بالثأر لكل “عبد الودود” سقط شهيدا دفاعا عن وطنه، ولكل “حسن محارب” شيّع ابنه إلى ساحات الوغى.