“عودة فيراري”.. ما وراء ترميم السيارة الأسطورة لخوض السباق

في سباق مع الزمن ومواجهة الصعاب، تعود سيارة سباقات الفورمولا-1 الثورية “فيراري 312 بي” التي صنعت عام 1970 إلى حلبة موناكو عام 2016، تحت جناح مبتكرها المهندس الإيطالي “ماورو فورغيري”.

ورغم أن السيارة لم تفز بأي لقب في بطولة العالم للفورمولا، فإن الإيطالي “باولو باريلا” البطل السابق في سباقات الفورمولا أراد أن يعيد السيارة الشهيرة -التي كانت حجر زاوية في عقد فيراري الذهبي- إلى مضمار السباق.

يأخذنا فيلم “عودة فيراري” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية في رحلة ذهاب وعودة، تبدأ عام 1970 مرورا بالحقبة الذهبية لفيراري وعودتها إلى الفورمولا 1، وصولا إلى إعادة السيارة “312 بي” إلى الحياة والتنافس في مضامير السباق.

موسم العودة.. أكثر مواسم السباقات ثراء في التاريخ

يقول “ماورو فورغيري”، وهو المدير الفني لقسم السباقات في فيراري، وقائد فريق الفنيين الإيطاليين الذين حاولوا إعادة السيارة إلى الحياة: سأكذب إن قلت إنني أقنعت مدير فيراري، لأنه كان قد وصل إلى هذه الفكرة بنفسه، لكنه سألني عدة أسئلة، وكان جوابي: أرى أن علينا تغيير الأمور قليلا، وكان ذلك نهاية عام 1968.

أما “جاكي إكس” الفائز 8 مرات في سباق الجائزة الكبرى للفورمولا-1، فيقول: كانت لي تجربة عام 1968 مع فيراري، وفزت بسباق الجائزة الكبرى في فرنسا، وفي عام 1969 انتقلت إلى فريق “برابهام”، وفزت بسباقين وقتها، وحصلت على عرض من “إنزو فيراري” لأعود عام 1970 إلى مشروع جديد تماما كان اسمه “فيراري 312 بي”.

البطل “باولو باريلا” قائد الفيراري في سباق موناكو 2016

ظهرت سيارة فيراري الجديدة تزامنا مع سباق الجائزة الكبرى الإيطالية في مونزا، بيد أن مشاكل المحرك أبعدتها عن السباق، ولكن في سباق جنوب أفريقيا كانت السيارة جاهزة للمنافسة، إنها هيكل صغير مفصول بـ12 محركا مسطحا، وبحسب “فيراري” فإن هذه المحركات تمتلك قوة 460 حصانا.

وكانت بالفعل السيارة التي أعادت أمجاد فيراري، وشكلت عودتها إلى المشهد العالمي لسباق السيارات. يقول الصحفي الإيطالي “جورجيو تيروزي”: عام 1970 كان عاما انتقاليا مليئا بالحيوية والأبطال، وكانت البطولة مركزة بشكل كبير، وذلك لوجود الأبطال وعودة الكثير من السباقات. وبالنسبة للجمهور، يعتبر هذا الموسم أكثر مواسم السباقات الكبرى ثراء في التاريخ.

“أشبه بالذهاب إلى ساحة القتال من جديد”.. ترميم الأسطورة

يقول “باولو باريلا” السائق السابق لسيارات فورمولا-1 وصاحب مشروع عودة فيراري “312 بي”: هذه السيارة جزء من حياتي، لأنها كانت من أول الأهداف التي فكرت فيها في طفولتي عندما فتنت في عالم السباقات لأول مرة، وكان هذا الهدف شيئا لا يمكن الوصول إليه، لأن السائقين الذين كانوا يقودونها من عالم آخر، وكان السائق بالفعل شخصية أسطورية بالنسبة لي، وفي طفولتي كان ذلك مجرد حلم، وبعد أن قابلت “فورغيري” الرجل الذي صنع هذه السيارة أصبحت الأمور مختلفة، وعندما رأيت السيارة قلت له سنأخذ السيارة، ولكن يجب إصلاحها أولا.

من الموت إلى الحياة، سيارة فيراري “312 بي” تشارك في سباق فورمولا-1 بعد أكثر من 45 عاما

يقول “فورغيري”: كان شيئا مفاجئا، فقلت له: يسعدني القيام بذلك، وفي تلك اللحظة رأيت إمكانية أن يتحول الحلم إلى مشروع آخر. وما قدمه لي “باولو” كان بمثابة ولادة جديدة، فقد عدت إلى الفورمولا-1 من مدخل آخر، ولكن العودة كانت أشبه بالذهاب إلى ساحة القتال من جديد، حيث جهزت السيارة بجميع الإضافات السابقة، فإعادة سيارة “312 بي” إلى الفورمولا-1 أمر معقد للغاية. لكن أستطيع القول إن “312 بي” كانت وما زالت واحدة من سيارات فيراري القليلة التي ظهرت في ذلك الوقت، وأعيد ترميمها فقط باستخدام آلة صياغة وقلم رصاص.

ثم أضاف: من أجمل الأشياء العملية التي كانت ناجحة بشكل كبير في ترميم هذه السيارة التاريخية، رؤيتها تعود إلى المسار نفسه الذي كانت بطلته منذ زمن طويل. وقد قضى “باولو” فترة لا بأس بها سائق سيارات فورمولا-1، وقد حضرنا برنامجا له ليقوم بعدة تجارب، لأنه كان يريد العودة للتجارب من خلال سباقات الجائزة الكبرى التاريخي في مونتي كارلو.

الاستعداد للمشاركة في سباق فورمولا-1 موناكو 2016

ويتحدث الصحفي ومعلق سباقات فورمولا 1 “بوب كونستاندوروس”، عن أن محرك “في” المسطح كان مذهلا وميزة خالصة لفيراري. وكان لدى الأمريكيين محرك “في 8” وفيراري “في 12”. ثم قال معلقا: لطالما كان “إنزو فيراري” من المعجبين بالمحركات التي لها 12 أسطوانة، وأسطورة “فورغيري” كانت موازية لأسطورة “فيراري” نفسها، أظن أنه كان المترجم المثالي لفلسفة “فيراري”.

ويعود بذاكرته “جيسبيرتو ليوبادري” الميكانيكي السابق في قسم السباقات بفيراري، ويقول: مع المهندس “فورغيري” تمكنّا من بدء تشغيل سيارة ذات 12 أسطوانة على شكل 10 أسطوانات، وأغلقنا الثقوب حيث يكون الزيت مرتفع الضغط، واستخدمنا العصي الخشبية الرفيعة، ووضعناها على الكوب السفلي للمحرك الذي تعرض للكسر، ووضعنا أيضا شريطا لاصقا وبعض الورق المقوى للحفاظ على الزيت في الداخل، لقد استطعنا صناعة شيء جديد.

مهندس العصر.. صانع السيارة الأكثر أناقة في تاريخ السباق

يتحدث الميكانيكي السابق في قسم السباقات بفيراري “باولو سكاراميلي” قائلا: “فورغيري” كان لديه آلاف الأفكار والحلول، لأنه عندما كان يحدث شيء ما كان يطرح ألف فكرة، ثم يكتشف أن الفكرة التي استقر عليها لم تكن هي المناسبة، ولكن ذلك يحدث بعد فوات الأوان.

ويقول السائق “جاكي إكس”: ربما كان “ماورو فورغيري” أفضل مهندس في ذلك العصر فلم يعمل على فئة سيارات “بي-1” فحسب، بل عمل على عدة سيارات في فيراري. لقد أنتج “ماورو فورغيري” السيارة الأكثر أناقة في تاريخ الفورمولا-1.

“ماورو فورغيري” أفضل مهندس سيارات فيراري

ويؤكد دوره المحوري “جاكي ستيوارت” بطل العالم 3 مرات في سباقات الفورمولا-1، إذ يقول: لست متأكدا من أن فيراري من دون “ماورو فورغيري” كانت ستحقق هذا النجاح.

بينما يقول البطل السابق “باولو باريلا”: “فورغيري” عاش حقبة خطيرة للغاية، وقد كان هناك خطر اندلاع الحرائق في السيارة، ولم تكن السيارات قوية كما هي اليوم، ولكن في اليوم التالي كان عليهم المضي قدما.

وهذا ما حصل مع السائق “جاكي إكس”، فقد تعرض لحادث كبير في إسبانيا، بعد أن صدمه زميل آخر، وخرج حيا من هذا الحادث بأعجوبة مصابا بحروق بسيطة فقط، وكانت تلك معجزة، لأن السيارة الجميلة دمرت بالكامل، وكان على فيراري صناعة سيارة أخرى من الصفر، وهذا أعطاهم القليل من الوقت الإضافي للعمل على السيارة.

فتلك السيارات -بحسب “فورغيري”- كانت تتطلب كثيرا من الوقت لإعادة صناعتها بالطريقة الصحيحة فهي لم تصنع بمعدات موجودة مسبقا، بل صنعت باستخدام شريط قياس ومطرقة، فصنعت فيراري سيارة كاملة من حيث الهيكل والمحرك قطعة تلو الأخرى بحرفية ودقة وبراعة غير عادية، وانحصرت المنافسة سنوات عدة بين فيراري والإنجليز مالكي مصانع السيارات الإنجليزية.

السائق “جاكي إكس” قائد فيراري يتعرض لحادث كبير في إسبانيا فتحترق سيارته الفيراري

يقول الصحفي “بوب كونستاندوروس”: لم تكن فيراري تقدر هؤلاء الإنجليز لأنهم لم يصنعوا محركات سيارات بالفعل، ولم يصنعوا سيارة بأكملها، لقد كانوا مصنعي هياكل سيارات واشتروا محركات. ولكن هذا لم يكن الشيء الذي يجب فعله بالنسبة لفيراري، فهناك عدة سيارات تميزت في ذلك الوقت من حيث الشكل والتصميم والألوان، وكانت جميلة ومنسجمة.

“هذه السيارة لديها سحر الصاروخ”.. حلم السائقين

يقول السائق “جاكي ستيوارت”: صنع سيارة وتجهيزها لسباقات الفورمولا-1 يشبه تجهيز مركبة للصعود إلى القمر، فلا يجب أن تكون سريعة فحسب، بل يجب أن تتمتع بالمتانة، وتكون قوية في مواجهة الظروف الجوية.

وليس “ستيوارت” فقط، بل يذهب إلى ذلك أيضا السائق “باريلا”، إذ يقول: حين أعود بالزمن إلى الوراء، أتذكر خلال طفولتي أنني أنجذب إلى الصاروخ كحال كل الأطفال، وهذه السيارة لديها سحر الصاروخ.

فيراري “312 بي” في حلبة سباق موناكو قبيل انطلاق السباق 2016

لقد كان لدى عدد من صانعي سيارات الفورمولا-1 الرغبة أو الشغف بالعمل في مجال الطيران، وربما كان هذا المجال حلم طفولتهم أيضا.

أما “فورغيري” نفسه فيقول: الأشياء التي كنت أرسمها هي الطائرات ومحركاتها، وقد انجذبت إليها أكثر من غيرها، وكان المحرك المسطح “في-180” قد ظهر حينها لدى شركة فرانكلين الأمريكية التي تصنع الطائرات، وطلبت منا الشركة محركا يمكن إدخاله في الجناح، لأننا لم نكن نصنع محركات ذات إمكانيات كبيرة للفورمولا-1 فقط، وكان هذا الطلب فرصة لنا للتعرف على محركات عالم الطيران واستخدامها، ولم تكن هناك محركات من هذا القبيل في سيارات السباق.

“إنها الثقة التي لا يتطرق إليها”.. بطل الميدان الذي يحمي السائق

يحتاج السائق إلى حليف من خارج مضمار السباق، لأنك تشعر بالارتياح لوجود شخص يقف من أجلك، و”ستيفانو” هو أفضل شخص لهذه المهمة. ولهذا يجب أن تكون هناك علاقة وثيقة تربط السائقين بالميكانيكيين لأن أي خطأ في التركيب أو عدم شد البراغي قد يشكل خطرا على حياة السائقين.

المهندسون يبذلون قصارى جهدهم لإعادة فيراري إلى حلبة السباق بعد عقود من الانقطاع

يتحدث عن ذلك السائق البريطاني “دامون هيل” بطل العالم السابق في سباق الفورمولا-1 قائلا: إنها الثقة التي لا يتطرق إليها، فأنت لا تتساءل عن ما إذا كانت هذه السيارة جيدة، وتبدأ في طرح الأسئلة على الميكانيكيين، لأنك تعرف بصورة تلقائية أنهم يبذلون قصارى جهدهم، لمنحك سيارة تنافسية وآمنة. تركب السيارة وهم يحبسون أنفاسهم، وعندما تسير السيارة يراقبون ويقولون: نتمنى أن نكون قد قمنا بعملنا على ما يرام ولا تحدث أي مشاكل.. إنهم يتحملون كل هذا الضغط.

ويقول “باولو سكاراميلي” الميكانيكي السابق في قسم السباقات بفيراري: يجب على السائق الوثوق بالميكانيكي، فنحن نقوم بعملنا بشكل سريع، لأن المهندس يقول إن هناك 3 دقائق باقية و3 جولات فقط من السباق، عليك القيام بكل شيء على عجل. ومن أجل أن يثق بك السائق، يجب أن لا تخطئ أبدا.

“هذه السيارات مثل القطع الفنية”

يقول “فورغيري” إن “باولو باريلا” قرر الاحتفاظ بهذه السيارة، وبهذا فهو يشبه والده الذي كان يشتري الأعمال الفنية ويضعها جانبا ليراها الجميع، فقد صنع من تلك السيارة 4 نسخ فقط.

ويتحدث السائق “ستيوارت” عن ذلك قائلا: هذه السيارات مثل القطع الفنية لم يصنع الكثير منها بعد ذلك، لكنها كانت جميلة وناجحة، لدرجة أن أفضل السائقين كانوا يقودونها، وأرى أن إعادة تصنيع هذه السيارة هو ما ينبغي فعله، وهذا المشروع للذين يريدون القيام به أمر لا يصدق، إذ يريدون إعادة تجميع قطع الأحجية والروح القديمة لتلك السيارة. وإذا بدأت السيارة تسابق وتتحرك فستجذب الجمهور.

وعن “باريلا” يقول الصحفي “بوب كونستاندوروس”: كان “باولو” جيدا جدا، بيد أنه لم تكن لديه تلك اللمسة الأخيرة، ولكنه لم يكن أيضا في آخر قائمة السائقين، يمكن القول إنه كان في منتصف القائمة.

بعد تجارب السيارة على الحلبة ظهرت عدة مشاكل ميكانيكية، واحتاج الطاقم الفني لإعادة تفكيك المحرك وإصلاح الثغرات، وبعد 8 أشهر من التجهيز والإصلاحات والتعديلات وترميم السيارة باتت فيراري “بي 312” جاهزة لخوض سباق الجائزة الكبرى في مونتي كارلو بفرنسا.

“بسبب أمر غبي ضاع الحلم”.. أعطال اللحظة الأخيرة

حان وقت سيارات الفورمولا-1 ذات المقعد الواحد التي ميزت الفترة من 1964-1972، ودخلت هذه السيارات إلى الحلبة، فبالنسبة لهؤلاء، فإن الزمن يعود إلى الوراء، فقد شاركت السيارة بقيادة “باولو باريلا” في الدور التأهيلي الأول، وحلت ثالثة.

وبعد استبعاد السائق الياباني الأسرع في السباق إثر حادث تصادم بأحد الحواجز، تراجع “باريلا” مع نهاية المرحلة التأهيلية الأولى، وحل في المركز العاشر وسط أعطال ميكانيكية أصابت السيارة، وهذه الأعطال منعت “فيراري” و”باولو باريلا” من المشاركة في الجولة التأهيلية الأخيرة التي بقيت نتائجها كالسابقة، بعد عجز السائقين عن تحسين نتائجهم.

على الرغم من عدم فوز فيراري في فورمولا-1 موناكو 2016 إلا أن الجميع صفق لهذه السيارة الصامدة

وقد عبر “باولو باريلا” عن خيبة أمل كبيرة وقال: هذا المشروع لم يكتمل، فقد كان لدينا كل هذه الآمال والعمل والجهد المشترك الذي قام به عدد كبير من الأشخاص، ولا يمكنني إلا أن أقدره وأعبر عن أسفي للجميع، خصوصا أولئك الذين عملوا بجد، وبالنسبة لي فقد تعاملت مع الأمر على أنه امتياز كبير، لأن إحضار سيارة فيراري إلى موناكو للسباق أمر غير عادي. والشي الجميل أنه في نهاية السباق صفق الجميع للسيارة، وهذا يمنحك فكرة عن أهمية ما تفعله. وما حدث لم يكن مهما، بل يجب أن تعبر سيارة فيراري عن نفسها في مسار السباق، فنحن نريد أن نعيد السيارة إلى الحياة وبأقصى حدودها كما كانت من قبل”.

أما “ماورو فورغيري”، فيقول: بسبب أمر غبي ضاع الحلم، وقد أزعجني أن السبب تافه، لم نعالج الأشياء الصغيرة، وتفاقمت حتى وصلنا إلى بداية الجولة التأهيلية، ولم يبق لدينا الوقت الذي يمكننا من فعل أي شيء.

ويختم أحد الفريق الفني الذي اشتغل على إعادة إحياء فيراري “بي 312” قائلا: الأمر محبط، فبعد عامين من العمل يحدث هذا الشيء الغبي، تحطمت مضختان خلال عدد قليل من اختبارات الطريق.