“أحلام البيانو”.. كفاح الجيل الصيني الطامح في امتهان الموسيقى

يُقبِل الصينيون على تعلم فن العزف على البيانو، لا سيما صغار السن منهم، بمعدلات لم تشهدها البلاد من قبل، فقد وصل عدد الطلاب الدارسين للبيانو حوالي 40 مليون شخصا، كثير منهم لا توجد عندهم خطط مستقبلية بديلة عدا احتراف الموسيقى.

عاش المخرج الإيرلندي “جيري لينون” سنوات في مدينة شنغهاي الصينية، ولاحظ الإقبال الكبير على تعلم العزف على البيانو في معاهدها الموسيقية، وهي ظاهرة فنية جديدة أراد استكشافها في وثائقيه “أحلام البيانو” (Piano Dreams)، من أجل معرفة المحفزات التي تدفع ملايين من الأطفال والشباب للانغماس فيها، لدرجة أن النجاح فيها أضحى حلما يتمنون تحقيقه.

بروز الطبقة المتوسطة.. ثورة ثقافية لتحسين صورة الصين

يختار صانع الوثائقي ثلاثة صينيين من دارسي البيانو في مدارس مختلفة، وجميعهم يتمتعون بموهبة موسيقية لافتة في وضوحها، ويظل ملازما لتطورهم خلال مدة طويلة يتضح من خلالها شدة ولعهم بها، وحماستهم للنجاح والتفوق في المجال الذي اختاروه.

كما يستعرض المخرج ارتباط كل ذلك بالمتغيرات الحاصلة في المجتمع الصيني، لا سيما بروز الطبقة المتوسطة كقوة فعالة ومؤثرة فيه، تميل للعصرنة وترغب في وداع “الثورة الثقافية الصينية” التي كرسها الزعيم “ماو تسي تونغ”، بينما يريد قادتها الجدد استثمارها دعائيا لتقديم الصين أمام العالم، لا كبلد يتمتع بنفوذ اقتصادي وعسكري كبيرين فحسب، بل كبلد يتمتع بحضور ثقافي مهم.

يلازم الوثائقي الأطفال الثلاثة في بيوتهم ومدارسهم التي يرتبط بعضها بمعاهد موسيقية مختصة، لينقل عبرها تفاصيل دقيقة عن حياتهم وشدة ولعهم بالموسيقى، وبشكل خاص العزف على البيانو.

طموحات المستقبل.. جوائز عالمية تضيء طريق الحلم

ينقل الطفل “شي زيدي” (8 سنوات) لصانع الوثائقي أحاسيسه بعفوية، ويعبر عن رغبته في أن يصبح عازفا محترفا، رغم أنه يحب لعبة كرة السلة وألعاب الحاسوب، ويريد في الوقت نفسه أن يصبح طيارا يطير فقط في النهار، لأنه يريد العزف على البيانو في الليل، ولا يمكنه أن يتخلى عن حلمه في أن يصبح عازفا مشهورا في المستقبل، رغم وجود كثير من العازفين الماهرين غيره في مدينة وينزهون التي تعيش عائلته فيها، وتنظم مدارسها خلال العام الدراسي مسابقات للعزف على البيانو، يتمنى يوما الفوز بإحدى جوائزها.

ورغم التوتر الظاهر دوما عليها، فالطالبة “أكسي ينغينغ” (12 سنة)، تمتاز بإتقانها لتقنيات العزف المعقدة، مما يتيح لها المشاركة رغم صغر سنها في مسابقات موسيقية عالمية نالت عددا من جوائزها. وتشير أثناء دخول كاميرا الوثائقي بيتها إلى الميدالية التي حصلت عليها من مدينة بارليتا الإيطالية مؤخرا، ومثل غيرها من الجيل الصيني الجديد الطامح في تعلم العزف على البيانو واتخاذها مهنة له، لا توجد لديها أي خطة مستقبلية بديلة عن احتراف الموسيقى.

التمارين المنزلية تأخذ ساعات طويلة من وقت الطالب لتعمل العزف على البيانو

مثلها أيضا الشاب “تشو يوانغ” (19 سنة) طالب الثانوية والمتدرب في معهد الموسيقى في شنغهاي، فهو يطمح إلى أن يصبح عازفا محترفا في إحدى الفرق الموسيقية العالمية، لهذا يريد إكمال دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يخفي طموحه في أن يصبح عازفا مشهورا يجوب العالم ويحصل على الكثير من المال.

صناعة الدعاية.. استثمار الفن لترويج أغراض عسكرية

ينتبه صانع الوثائقي إلى شدة الضوابط التي تفرض على الطلاب أثناء التدريب الذي تصل ساعاته أحيانا إلى عشر ساعات، ويستوجب منهم التزاما دقيقا بمواعيدها، وبحضور الدروس المسائية، إضافة إلى المواظبة على التمارين المنزلية. إنه وضع متعب يفرض على أهاليهم التزاما إضافيا، ومتابعة مستمرة لأولادهم، لا سيما صغار السن منهم الذين يشعرون أحيانا بالإرهاق وعدم القدرة على الاستمرار بذات الوتيرة.

خلال متابعته وتوثيقه لبعض المسابقات المحلية يلاحظ صانع الوثائقي الاهتمام الرسمي المتزايد بهذه المجموعة من العازفين، ورغبة قادة البلاد باستثمار مواهبهم لأغراض دعائية، يبدو بعضها متناقضا مع قيم الفن وروح الموسيقى.

ينقل الفيلم تسجيلات يظهر فيها عازفو البيانو الصغار على المسرح، وقبل البدء بالعزف يقدم أطفال آخرون إلى جانبهم مشاهد تحاكي الاستعراضات العسكرية مصحوبة بتسجيلات دعائية مصورة تظهر على الشاشة خلفهم.

قسوة الدرس.. صرامة المعلم المرشد الناصح

يقابل الوثائقي معلم “شاي زيدي” للبيانو، ويوثق بعض اللحظات التي تعكس الضوابط الصارمة التي يفرضها على تلميذه، في الوقت ذاته يعبر عن إعجابه به وببراعته وإصراره على التعلم، رغم ما يبديه أحيانا من قسوة ضده.

شكر للمعلمين الأوائل الذين اكتشفوا مواهب الطلبة مبكرا

يشير المعلم إلى انتشار ظاهرة إقبال الصينيين على تعلم العزف على آلة البيانو التي يتوقع لها أن تصبح مستقبلا شيئا مألوفا في البيوت، وسيغدو وجودها عاديا مثل وجود الحواسيب أو التلفاز الذي دخل إلى كل البيوت خلال فترة زمنية قصيرة من ظهوره.

يربط المعلم بين شدته مع طلابه وبين تضحيات أولياء أمورهم الذين يتقبلون سلوكه انطلاقا من معرفتهم به كمعلم لا يتوانى عن تطبيق مبادئه التعليمية، وفي الوقت ذاته كونه مرشدا وناصحا موثوقا لهم، وهذا ما يتوافق مع رغبتهم في رؤية نتائج تضحياتهم مجسدة بنجاح أبنائهم، وبتحقيق أحلامهم في أن يصبحوا عازفين محترفين ومشهورين.

نعمة الأمهات.. تضحيات جسيمة تفرش الطريق بالورد

من سياق متابعة العازفين الثلاثة يظهر دور أمهاتهم في تحقيق ما يصبون إليه، وحجم التضحيات التي تقدمها كل منهن، إذ تظهر الأمهات طيلة زمن الوثائقي وهن يحرصن على إتمام أولادهن ما بدأوا به، حيث يشاركن معهم قلقهم، ويتابعن بحرص دروسهم.

والدة الشاب “تشو يوانغ” مثال على التضحية من أجل توصيل ولدها إلى الهدف الذي وضعه لنفسه. في بداية مساره وأثناء عزفه في إحدى المسابقات الخاصة بالصغار، أُعجب أستاذ مختص بالموسيقى بأدائه، وتطوع لتطوير مهارته، لكن المشكلة التي واجهت الأم تكمن في أنه يقيم في مدينة بعيد جدا عن مدينتها، ومع ذلك كانت تأخذ ابنها كل يوم جمعة معها في رحلة طويلة وشاقة، تركب القطار الليلي الذي تبيت فيه ليلة الجمعة، وفي الصباح يذهب الصبي ليتلقى دروسه، وفي اليوم التالي تعود بنفس الطريق ليلا.

أمهات يضحين بالغالي والنفيس من أجل أولادهن

هكذا استمرت لمدة خمس سنوات متواصلة، وبعد قبوله في معهد الموسيقى في مدينة شنغهاي قررت ترك مدينتها ووظيفتها في أحد مصارفها والانتقال معه، وهي تشعر أحيانا بالحزن لتركها مدينتها وأهلها، لكن رغبتها في توصيل ولدها لما يريد تبدد أحزانها، وتشجعها على المضي في خيارها الصعب.

حميمية الروابط العائلية.. جدات يدعمن مسيرة الأحفاد

على نفس المسار تكرس عائلة الطفل “شي زيدي” كل وقتها لرعايته والاهتمام به، فقد انتقلت جدته إلى بيت ابنتها من أجل البقاء مع حفيدها الذي تأخذه بعد الظهر كل يوم إلى معلم الموسيقى بنفسها، وترجعه بعد إتمام دروسه إلى البيت.

ساعات التدريب المنزلي طويلة، ومع ذلك تصر والدة الطالبة “أكسي ينغينغ” على توفير الجو المناسب لها والبقاء بقربها لساعات، وبسبب طول الملازمة أخذت تتذوق بشكل جيد الموسيقى، وتتعلم بعض الجوانب الخاصة بتقنياتها، لدرجة أنها صارت تقدم أحيانا وجهات نظر معقولة حول أداء ابنتها.

يتتبع الوثائقي الصلات العائلية التي خفّت بسبب اهتمام الأمهات بأولادهن وتركهن للقرى والمدن التي كن يعشن فيها، من خلال مرافقتهن في بعض زياراتهن للأهل والأقارب، وتسود تلك الزيارات حميمية تشي بشدة الروابط العائلية الصينية، وحرص الأجداد على تحقيق أحفادهم لما يصبون إليه. كما لا ينسى أولياء أمور الطلبة مدرسي أبنائهم الأوائل الذين اكتشفوا مواهب أطفالهم في سن مبكرة، واهتموا بهم قبل أن يلتحقوا بمدارس موسيقى مختصة بالعزف على البيانو.

تلك الصورة الاجتماعية المذهلة تنعكس على الأمهات اللواتي لا يفارقهن القلق عند وصول أطفالهم إلى مراحل حاسمة من حياتهم.

نتائج اختبار المعاهد الموسيقية.. من زرع حصد

ينتظر الوثائقي مع والدة الشاب الموسيقي “تشو يوانغ” ظهور نتائج تقديمه لأحد المعاهد الموسيقية في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ترقب الأم وخوفها ينتهيان بوصول خبر قبوله، وفي مرحلة متأخرة من زمن الوثائقي يظهر الشاب في مدينته وقد أنهى دراسته للتو.

إقبال على تعلم العزف على البيانو لم تعرفه الصين من قبل

والدة الصبية “أكسي ينغينغ” تنتظر ظهور نتائج الدراسة المتوسطة، ومعها في الوقت ذاته نتيجة اختبار معهد الموسيقى، لأن النظام المدرسي الخاص بقبول طلبة الموسيقى يشترط النجاح في القسمين. تحقق الصبية ما تريد، وتشعر الأم حينها بسعادة يصعب عليها وصفها أمام صانع الوثائقي.

يذهب الفيلم برفقة الطفل الثالث “شاي زيدي” إلى القاعة المخصصة لاختيار أفضل عازف بيانو خلال العام الدراسي، ورغم أنه لم يحصل على المرتبة الأولى، فقد فرحت عائلته بمشاركته المميزة، بينما وجد معلمه في أدائه تطورا ودليلا على قدرته على التعلم والصبر على الضوابط وصرامتها.

منجز المخرج الإيرلندي “جيري لينون” مذهل في جماله، وفي بساطته وصدقه الذي أبعده عن الخوض في الجانب السياسي كثيرا، مفضلا عليه تقديم جانب إيجابي يشهده المجتمع الصيني، ويتمثل في بروز الطبقة المتوسطة التي تميل بطبعها إلى كسب المعارف والانفتاح على بقية الثقافات، وهذا ما أظهره وثائقيه خلال زمنه المليء بالمقطوعات الموسيقية الساحرة، والأجواء الإنسانية التي تذكر بأن الموسيقى تسمو حقا بالكائن إلى مستويات أعلى.


إعلان