“ورق وغراء”.. تجربة باريسية تطوع الفنون لخدمة الرسالة الإنسانية

هل يحن الفنّ اليوم إلى العصور البدائية التي كان فيها عملا تلقائيا يعرض وجوها من حياة إنسان العصور الحجرية اليومية، فيتضمّن مشاهد الصيد والرقص وطقوس العبادة والاستمطار، ويستجيب لحاجاته الروحية بعيدا عن حسابات الرّبح والخسارة؟ لا شك أنّ مثل هذا التساؤل يدفعنا إليه التشابه بين الجداريات وفن الغرافيتي اللذين ينجزان بعلب رذاذ الطلاء في الساحات العامة اليوم، وبين ما كان الإنسان الأول يخطّ على جدران الكهوف التي يسكنها.
يعدّ الفرنسي “جون ريني” المعروف بالاختزال “جي آر” (JR) أحد أبرز فناني الشوارع اليوم، ومدار فكرته بسيطة جدا تتلخّص في التقاط صور لأشخاص مجهولين، وجعلها ضخمة وإلصاقها في أماكن غير متوقعة، ولكنها مبتكرة جدا أيضا، فقد خوّلت له تقنية الكولاج الفوتوغرافي أن يجول بحرية في شوارع مختلفة من عواصم العالم وأن يجعلها أكبر معرض فنّي.
وفي الفيلم الوثائقي “ورق وغراء” (Paper & Glue) الذي أنتج عام 2021 يقدّم “جي آر” تجربته الفريدة، فينتقل بصوره من باريس، إلى سجن شديد الحراسة في كاليفورنيا، ثم إلى الجدار العازل على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، ثم إلى الأحياء الفقيرة في ريو دي جانيرو. ويوجه الكاميرا إلى عمله الخاص في فيلمه. فيحاول من خلالها أن يبلغ رسالته الفنية، وأن يبحث عبرها عن التّفاعل مع المارّة.
رضيع الجدار العازل.. إطلالة بريء على العالم الآخر
يستهلّ “جي آر” فيلمه بمغامرته الفنية في الولايات المتحدة، فقد وقعت عيناه وهو عند الحدود الأمريكية المكسيكية على رضيع بين ذراعي أمّه. وتساءل: هل يعي هذا الطفل دلالة الجدار الفاصل بين حدود الدولتين؟
وانطلاقا من تساؤله ذاك قرر أن يجعل صورة الطفل موضوعا لعمل فني إلصاقي مدين لسياسات الفصل. فاختار ناحية من الطرف المكسيكي، وبدأ الحفر عبر جرافة، ثم مدّ صقالة ضخمة بجانب الجدار الشّاهق، لنصب حوامل عملاقة تعرض صورة للطفل، فتجعله يتطلع من وراء الجدار ببراءة إلى ما يوجد في العالم الآخر.
وعلى عادته جعل الفنان “جي آر” الصورة ضخمة جدا حتى تجلب الانتباه. وبالفعل أصبح المارون عبر الطريق المحاذية للجدار ينتبهون إليها، فيتوقفون لتأملها ويجعلونها خلفية للصور التي يلتقطونها، حتى أن بعض الناس جعلوا يتبادلون هواتفهم عبر منافذ الجدار بين الدولتين، لالتقاط صور من مواقع مميزة عن تلك التي يوجدون بها، والحال أنّ تمرير الأشياء من هذه المنافذ يعدّ جناية لها تبعاتها القانونية.
مأدبة الحدود.. حفلة تصهر شطرين منفصلين من العالم
في مرحلة لاحقة قرر “جي آر” تنظيم مأدبة ضخمة في الفضاء على شرف المارين من الجهتين ومن الجنسيات المختلفة، ويستدعي فرقة موسيقية لإحيائها، وينصب طاولة كبيرة تمتدّ على طرفي الدولتين، أما شرطة الحدود الأمريكية، فقد كانت تراقب الحدث من بعيد، ولم تتدخل في ضرب من التواطؤ الدّال على انبهارها بالعمق الإنساني للتجربة.
وحينما تقترب من المحتفلين عند نهاية الوليمة، يتحدّث أحد أفرادها مع مهاجرة غير شرعية بتسامح، فيعلمها أنه ابن مهاجر، وأن لديه عائلة في الجانب الآخر من العالم، وهذا يعني لصانع الفيلم “أنّ الفنّ يمكنه أن يخترق القوانين والقواعد والحدود أيضا، لأنه ربما، ليس جزءا من أي منظمة أو أي دولة”.
لقد عمل “جي آر” على البرهنة بطريقة ذكية بعيدة عن كل أسلوب تعليمي على جعل الحدود تزول للحظات، فيظهر التواصل السلس بين الجميع ضمن احتفال مشترك، ويصهر شطرين من العالم انشطرا اصطناعا وتعسّفا.
ولعل هذا ما يكشف انخراطه في تلك الفلسفة التي ترى أنّ لا وجود للحدود إلا بفعل البشر وفي أذهانهم، فكل ما في الكون يرفضها، فالطيور والأنهار والأوبئة والكوارث والعوامل المناخية جميعها لا تعترف بسلطتها. إنها باختصار عنصر مصطنع أوجده البشر، وفرضه الأقوياء على الأرض، للمحافظة على امتيازات استأثروا بها.
أحاديث السجناء.. عالم سفلي يتطلع إلى سماء الحرية
لم يكن “جي آر” يعرض تجربة الحدود للمتفرّج مباشرة. فقد أوردها وهو يتحدّث إلى السجناء، في واحد من أخطر سجون في الولايات المتحدة الأمريكية وأكثرها تحصينا، فلا تزال دماء أحدهم ممن طعنوا مرسومة على الإسفلت.
والتحدي الذي يرفعه هو كيف يجعل فنه وسيلة لإخراج هؤلاء المساجين من استلابهم، ويدفعهم إلى الوعي بأهمية الحرية، وضرورة الحفاظ عليها، بالانضباط والتزام ما يطلبه منهم القانون والمجتمع. ويكون الذهول باديا على ملامح سجناء كاليفونيا أول الأمر وهو يعرض عليهم مشروعه المتمثل في أن يلتقط صورا لهم ولمن غادروا السجن أو توصلوا إلى تسوية مع خصومهم كفلت حريتهم.
يسأله أحدهم “لماذا تفعل هذا؟ ماذا تريد بصورك تلك؟”، فيعرض عندها تجربته على الحدود الأمريكية المكسيكية، ومن خلالها يجعلهم يكتشفون أنهم هم أيضا يصطنعون تلك الجدران التي تفصلهم عن العالم الخارجي، فيقرّ أحدهم أنه لم يتواصل مع أحد من هذا العالم منذ 14 سنة، ويعترف آخر بأنه بات يشعر بالخزي للصليب المعقوف (رمز النازية) الذي يرسمه على خدّه، فيعتذر ويقول إنه كان ضربا من التحدي للمجتمع لا يعكس حقيقة مواقفه، وأنه ليس الوحش الذي يظنه الآخرون، وأن عليه أن يبحث عن سبيل لإزالته.

يبدو حرص السجناء على التّخلص من العنف والكراهية جليا، فيتواصلون فيما بينهم تواصلا سلسا، ويتبادلون الأحاديث والنكات بعيدا عن العنف، ويظهر انضباطهم في الامتثال لأوامر “جي آر” والعمل بروح الفريق الواحد لإلصاق الصور في باحة السجن.
وحاصل التجربة صورة غطس تظهر السجناء كأنهم في عالم سفلي يتطلعون إلى الأعلى، إلى عالم الحرية، وعبرها يظهر “جي آر” أنّ الجميع عالق في الحفرة، وأنّ الترابط الذي يصل بين جميع البشر وحده الكفيل بإخراجنا منها، فلا سبيل لتحقيق إنسانيتنا الكاملة إلا بإزالة تلك الجدران التي تحول دون تحررنا من مشاعر الكراهية، وبالتخلّص من الجريمة والعنف.
“جي آر”.. كاميرا منسية تخلق مبدعا متمرّدا
التجربة الثالثة التي يعرضها في الفيلم على صلة بحياة الفنان الفنية في الدائرة 11 من ضواحي باريس، فقد كان الفتى بصدد اكتشاف فن الغرافيتي وإنجاز نقوشه ورسوماته الأولى على جدران المدينة وأسطحها في مطلع القرن الحالي، وكان يريد أن يترك أثرا ما، ويبحث عن اعتراف من المدينة بهذا الطفل المنحدر من عائلة مهاجرة.
وتشاء الصّدفة أن يحصل على كاميرا نسيها شخص في محطة المترو لتتغير حياته كليا، فعبرها أخذ يلتقط صوره الأولى ويلصقها على جدران المدينة، بدل أن يخط رسوماتٍ ما بنفسه، ووجد أنّ الناس ينتبهون إليها ويتوقفون عندها طويلا، ولئن عبّروا عن ردود مختلفة بين استحسان ورفض فإنها عكست وجوها من التفاعل على كلّ حال. ووجد أنّ الجدار الذي قُدّ من إسمنت مسلح لم يعد أخرس بعد، فقد بات مَحملا طيّعا يبلّغ صوته ورؤيته إلى الجمهور.
أخذت تجربة “جي آر” بعدا جديدا لاحقا، فقد كان يلصق صوره في جبل مونفيرميال أحد أحياء باريس، حين التقى بالشاب “لادج” ذي الأصول الإفريقية الذي يصوّر فيلما وثائقيا حول الحي، وطلب منه أن يضمّ صوره إلى مادته، وعبر هذه الشراكة غاص أكثر في أزقة الحي، فإذا هو مستنقع قذر محروم من النور، وعمارات آئلة إلى السقوط وبيئة غير صالحة للعيش.
تأسيس الجامعة الشعبية.. وسيلة انتشال الشباب من الواقع
اكتشف “جي آر” واقع الفصل العنصري غير المعلن الذي يعيشه أبناء المهاجرين في مدينته باريس، ووجد أنه من الطبيعي أن يسقط شبابه في عالم البؤس والجريمة والمخدرات، وأن ينجرّ إلى الصدام المستمر مع رجال مع الشرطة.
وفي تلك الأثناء يصعق شابان كانا يختبئان في محطة كهرباء إثر إحدى الملاحقات. فعمّقت صور البؤس وعيه، بقدر ما عمّقت صوره وعي أبناء الضواحي بالاضطهاد وانعدام العدالة الاجتماعية في فرنسا وفي العالم بأسره.
لذلك حرص على تأطير موجة الغضب العارمة التي انتابتهم إثر مقتل الشابين وتحويلها من التّدمير والانتقام إلى غضب واع يعبر عنه فنيا، لإدراك وجوه الخلل في واقعهم والعمل على تداركها، وقد أسس ما يشبه الجامعة الشعبية، لتكوين الشباب في مختلف الفنون البصرية.
ثم أعاد التّجربة نفسها في العاصمة البرازيلية ريو دي جانيرو، فيتبع خطى أحد طلابه البرازيليين بعد أن عاد إلى هناك إثر جائحة كورونا، ويختار حيا شبيها بحي مونفيرميال، تخلت فيه الدولة عن مسؤوليتها، وتركته عرضة لانتشار الجريمة والمخدرات، وعند وصوله إلى هناك كانت المدينة تعيش على وقع مظاهرات عنيفة، لانخراط الشرطة في صراعات بين عصابات متناحرة.
فن الشوارع.. عالم من الإبهار النضالي لعامة الشعب
يعرض الفيلم تعاملا مختلفا مع الفنون البصرية والتشكيلية، فالتجربة التقليدية تقتضي أن تُعرض اللوحات في الصالونات الفخمة، وتنتظر مجيء الناس إليها، وأن تعرض رؤى فنية عميقة أو سطحية، ولكنها لا تضع الإصبع على مشاكل الناس بشكل مباشر إلاّ نادرا.
أما فنّ الشوارع فهو لجوج لا ينتظر الجمهور، بل يذهب إليه هو حيث يوجد، في الأحياء والأزقة وفي محطات المترو وعلى الجسور، ليمارس دورا تثقيفيا توعويا ولينشر ثقافة الاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والحقوقية بالأماكن العامة، من المكسيك إلى باريس ونيويورك.
وممّا يميّز هذا التصوّر تغيير وظيفة الفن من البحث عن الجميل الممتع في ذاته ولذاته، إلى البحث عن الناجع والمفيد الذي يعمل على تحرير الناس من أوهام خلقت لتكبل طاقاتهم، وفي الآن نفسه تغيير رواد هذه العروض البصرية من الطبقات الأرستقراطية أو الشرائح النخبوية إلى عامة الناس، إلى قاع المجتمع، حيث يقيم المنبوذون، ومن هاجس الرّبح إلى العرض التطوعي النضالي، فالفنان هو من يموّل مشاريعه الفنية ويتنقل على حسابه، ليعرض تجربته بحثا عن التفاعل مع الجماهير.
وتجربة “جي آر” تجربة متفرّدة ضمن هذا الاتجاه، فهي تحول فن الشوارع إلى مهرجان فنون تتراشح وتتراسل، فتشمل فن التصوير الفوتوغرافي وفن الإلصاق، ومما يضيفه إلى فنّ الشوارع الفن السينمائي وما يقتضي من قدرة على القص، فقد كان يوثّق أعماله الفنية، ويقاوم من خلالها الجانب الزائل والعارض من هذا الفن، ليمنحه الديمومة والبقاء، بل كان يُكسبه أجنحة ليتنقّل بين أصقاع العالم المختلفة عبر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
فن الورق والغراء.. مواد رخوة ترسم رسالة صلبة خالدة
تدور أعمال “جي آر” مع اختلافها على فكرة تحرير الإنسان المعاصر من حالة اليأس وعدم المبالاة، وتحثه على أن يواجه بوعي كل ما يتعرّض إليه من حيف في عالم ليبرالي متوحش، بدل السقوط في عالم الجريمة والمخدرات. فيكون هذا الفنان الشّامل مثالا للمثقف الطلائعي، أي قاطرة تجر المجموعة لتحررها من اغترابها ومن تدهورها.
ولئن كانت هذه الرؤية للفن تتنزل ضمن الخلفية الاشتراكية للفن باتجاهاتها المختلفة كالماركسية والبراشتية وضمن تصورات “غرامشي” (فيلسوف ومناضل) لدور المثقف، فإنها تنخرط في الآن نفسه في التحولات التكنولوجية الحديثة، مستفيدة من يسر التّصوير اليوم وسرعة استخراج الصور، بفضل الطباعة الرقمية، ويسر التواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي، للوصول إلى المتقبل في كامل أنحاء المعمورة.
وباختزال نقول إنها تمثّل فنّا جديدا يحول -بواسطة التقنيات الحديثة- الورق والغراء بما فيهما من رخاوة إلى وسيلة تأثير قوية وناجعة. فتتغير محامل الفنون وتقنياتها بتطوّر العقول وتقدّم العلوم، ولكن جوهرها يظلّ واحدا، فالفنّ الحقيقي هو الفنّ الذي يلتصق بهموم الإنسان وبحياته اليومية على نحو ممتع جميل ومؤثر نافع في الآن نفسه.