طبلة الست.. فرقة موسيقية تنهل من جدران المعابد وتراث الجدات

تخيل معي فتاة متعلمة تدرس الأدب الألماني، لا ينقصها الجمال ولا الاهتمام العائلي، وفي أول اختبار لها في الحياة وجدت أنها ستخسر كينونتها، فهربت مسرعة من هذا الكابوس وبحثت عن شغفها، وفتشت عنه في الآثار الفرعونية القديمة، حتى وجدته.

إنها سها محمد علي مؤسسة فرقة “طبلة الست” الفنية النسائية الذي عرضت عنها قناة الجزيرة الوثائقية فيلما ضمن سلسلة أفلام “نغمات وردية”.

جدران المكتب.. سجن يحبس الروح ويقتل الطموح

تقول سها محمد علي مؤسسة الفرقة إنها كانت منذ أيام الدراسة تهوى العزف على الطبلة، فكانت تجمع بعض الفتيات اللاتي في عمرها، وتذهب إلى أحد مقاولي الحفلات وتطلب منه المشاركة في إحياء حفلة، لكنها كانت لا تلاقي قبولا، وكان يطلب منها فيديوهات تثبت جدارتهن وكفاءتهن.

سها محمد علي مؤسسة فرقة “طبلة الست”

وهكذا استمر الحال حتى أنهت دراسة الأدب الألماني وبحثت عن عمل، وعندما حصلت عليه وجدت نفسها حبيسة مكتب وأربعة جدران فيما يسمى بالوظيفة المكتبية. فنفرت في الحال من هذا الحال، لأنه سيلغي حلمها، وتوقها لتحقيق إنجازات في الحياة.

أخذت سها تبحث عن ما يمكن أن تجد نفسها فيه، ففكرت بربط هوايتها في العزف على الطبلة بالتراث وبالتاريخ، فقامت بزيارة معابد الفراعنة في مدينة قنا بأقصى جنوب الصعيد، ومدينة المنيا، كي تتعلم فن “مربعات ابن عروس” والسيرة الهلالية.

جدارية المعبد.. رسالة إلهام قادمة من عمق التاريخ

حتى تستطيع سها محمد علي تحويل هوايتها وترفع مستواها إلى المستوى المحترف، كان عليها أن تدرس الإيقاع والغناء بشكل منهجي ورسمي. وأثناء دراستها للإيقاع والغناء زارت معبد دَنْدَرة في قنا، فاستوقفتها جدارية فرعونية كبيرة شدت انتباهها، وكان مرسوما عليها سبع سيدات واقفات بجانب بعضهن، يحملن الدفوف بين أياديهن، ويظهرن في الجدارية كأنهن كلهن يعزفن وينشدن معا في نفس الوقت.

جدارية فرعونية كبيرة في معبد دَنْدَرة في قنا كانت الإيحاء في إنشاء فرقة “طبلة الست”

شعرت سها بأن هذه الجدارية نُحِتت خصيصا من أجلها، وشعرت أنها تكلمها، وتقول لها إنها ينبغي أن تكرر نفس هذا العمل في عصرها بنفس الطريقة مع سيدات أخريات، وبنفس الإيقاع والغناء.

لقد كانت لحظة إلهام شخصية لها، أدت الغرض منها، وأوصلت لها رسالتها. فقررت ربط كل مكوناتها الشخصية من هواية وتعليم للغناء وإلهام وفن، من خلال الاتجاه بقوة نحو الفلكلور المصري وأداء تلك الرسالة، وقد اختارت اللهجة الصعيدية لتنفيذ ذلك.

بدأت بتجميع الفتيات وبتنفيذ فكرة تأسيس فرقة “طبلة الست” النسائية المتخصصة بالفلكلور المصري الصعيدي.

تكوين الفرقة.. ميدان التقاط المبدعات وصقل المواهب

تقول عضوة الفرقة دعاء الزيدي إنها شاهدت منشورا على الفيسبوك للفرقة، وكان المنشور جميلا وملفتا للانتباه وقويا، فاتصلت على الفرقة وطلبت الانضمام إليها، لكنها لم تكن تعرف حينها سوى الغناء والتمثيل، فقُبلت عضوة في الفرقة، ثم دُربت على الإيقاع.

وكان انضمام حبيبة عمرو شبيها لما حدث مع زميلتها دعاء، فقد شاهدت فيديو على الفيسبوك للفرقة تطلب فيها عضوات ذوات خبرة، فاتصلت بمديرة الفرقة، وأبلغتها بأنها تستطيع العزف على الطبلة، ومعها فيديوهات تثبت ذلك، فكانت النتيجة قبولها عضوة.

فرقة “طبلة الست” أثناء التدريب والبروفات

أما العضوة ريتا ناجي صادق فتقول إنها كانت تعزف على الطبلة عند أحد معلمي هذا الفن، فتعرفت على سها مؤسسة الفرقة عنده، ولكن من دون الانضمام إليها، لأنها لم تكن قد أسستها بعد.

وبعد حين، وعندما تركت العمل عند ذلك المعلم، رأت إعلانا عن حفلة تقيمها فرقة “طبلة الست”، فذهبت وحضرت الحفلة فأعجبتها، فقامت بمراسلة “سها” برسالة نصية تخبرها فيها برغبتها في أن تنضم إلى الفرقة، وهكذا كان الأمر مقدرا بسرعة، وبدون ترتيب مسبق.

بهجة التفاعل.. حين يصبح الجمهور جزءا من الفرقة

عندما بدأت الفتيات إحياء الحفلات كان أكبر همهن في البداية أن يلاقي أداؤهن استحسانا من الجمهور، وأن يقبل بهن، لذلك كان مستوى التوتر قبل الحفلة يصل أعلاه، فتشعر إحداهن بالأدرينالين يطير بها ويفصلها عن الواقع تماما، وكأنها في عالم آخر.

فرقة “طبلة الست” تغني في إحدى الحفلات الكبيرة

 

وأخرى تقول إنها تشعر كأنها في يوم زفافها، وثالثة تقول إنها قبل الحفلة تكون خائفة ومتوترة، حتى إذا فُتحت الستارة وبدأت أول أغنية بدأت باسترجاع الثقة، ثم تعتاد الموقف. ولكن بعد فترة، وبعد تجاوز مرحلة البداية، لم يعد الخوف والتوتر يطرق قلوبهن، بل كانت الحفلات علامات تشجيع على الاستمرار.

ومن ذلك أنهن أثناء العرض على المسرح كُنّ يتوقفن عن الغناء وعن الإيقاع، ويتركن الجمهور يردد الأغنية لوحده بشكل جماعي، فكان ذلك يُشعرهن بأن الجمهور صار جزءا منهن، وهو ما يُدخل السرور والفرح على نفوسهن وعلى الجمهور في نفس الوقت، ويشعرهن بالحفاوة والاحتفاء.

تصميم الأزياء.. فلكلور مستوحى من ثقافة الأجداد

تحاول الفرقة تصميم أزيائها بنفسها، وتقوم بذلك مديرة الفرقة ومؤسستها، بحيث يكون الفستان بسيطا ومستوحى من جدران المعابد ومن لباس جداتهن القديمات. وهي تحرص كذلك على أن لا يكون مكشوفا ولا محجبا، بل كأنه جزء من الفلكلور.

تصمم الفرقة زيّها بحيث يكون طويلا وساترا وكلاسيكيا ومستوحى من جدران المعابد

والفلكلور الشعبي المصري بمفهومهن هو عبارة عن قيم موسيقية وشعر مجهول المصدر، فلا ملحن له ولا كاتب له، والسبب الوحيد في الحفاظ عليه هو الشعب الذي يتناقله ويستمر في ترديده.

وكما حافظ الأجداد على الفلكلور المصري فهن يشعرن بأن عليهن واجب المحافظة عليه ونقله من جيل إلى جيل ومنعه من الاختفاء أو النسيان أو الانقراض.

طموحات العائلة.. صعاب تثقل طريق الآمال الوردية

رغم أن بعض عضوات الفرقة واجهن الصعاب من المجتمع ومن العائلة لاشتراكهن مع الفرقة، بسبب آمال الأهل وطموحهم بأن تكون بناتهم في مهن أكاديمية، فإن بعض العضوات أيضا لاقين التشجيع من الزوج أو الوالد والمقربين. فكُنَّ متفاوتات في ذلك كبداية، ولكنهن موحدات في النتيجة كنهاية، حيث لاقين جميعا القبول والتشجيع والافتخار فيما بعد.

جماهير كبيرة تحضر حفلات فرقة “طبلة الست”

وبخلاف آمال الأهل فإن فتيات الفرقة يشعرن بالرضا والسرور على إنجازهن هذا، وما زالت إحداهن تحلم بأن تصبح ممثلة يوما ما، بينما تأمل أخرى أن تكون مطربة، وثالثة تطمح لتحقيق نجاحات أكثر على المستوى الشخصي.

أما مديرة الفرقة ومؤسستها فتطمح أن تكبر فرقة “طبلة الست” وأن تنضم إليها عضوات أخريات، وأن تمثل مصر في المهرجانات العالمية التي لها علاقة بالفلكلور ذي الصبغة النسائية.


إعلان