“زنار”.. فرقة نسائية تغني للمقاومة وتحمي التراث الشعبي من الاندثار

الأغاني المحلية، والأهازيج التراثية، والنغمات القديمة المنتشرة بيننا ونرددها في مناسباتنا، ما هي إلا تراكم للذاكرة الشعبية وللتجربة المتتالية، فإذا أصبحت موروثا شعبيا تتداوله الأجيال، غدت عميقة بعمق الفكر، وأصيلة بأصالة الفن وحاملة الوجدان الجمعي.
وعن هذا الفن الأصيل عرضت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما لنغمات رقيقة، شعبية الانتشار، تراثية الأداء، بعنوان “نغمات وردية” عن فرقة “زنار” النسائية في فلسطين.
ما يلفت الانتباه ويجذب الإعجاب ويحفز المشاهد على متابعة حالة هذه الفرقة، هو أنها تضم نساء كبيرات في السن تتراوح أعمارهن بين العقد الخامس إلى العقد التاسع، يؤدين الأدوار ويتبادلنها بإرادة عظيمة، وإقبال على الإنجاز بعزيمة الشباب الطموح.
تأسيس الفرقة.. بداية صعبة صعوبة الوطن المحتل
يمَّا أعطيني الفدائي لو بلاش .. يخش الأرض المحتلة حامل رشّاش
يمَّا أعطيني الفدائي لو بمنديل .. يخش الأرض المحتلة عفلسطين
يمَّا أعطيني الفدائي لو بقرش .. يخش الأرض المحتلة على القدس
بدي علم فلسطين يرفرف وسط جنينا .. وصلوا عالنبي يا ناس واسمعوا أغانينا
بهذه الأهازيج الشعبية التي تحفل بها الأغاني الفلسطينية والتي تعبر عن المكنون الوطني النفسي للشعب، تغني نساء فرقة “زنار” الفلسطينية في الأعراس وفي المناسبات الاجتماعية.
تقول إلهام درويش، وهي عضوة مؤسسة لفرقة “زنار”: بدأنا عام 2005 من قرية عصيرة الشمالية بالقرب من مدينة نابلس في الضفة الغربية، ومن أجل تشكيل الفرقة جمعنا أكبر عدد من النساء، وكانت البداية الصعبة حافزا لهن على التشجيع، وذلك بالإقبال المذهل من النساء الكبيرات في السن، إذ بلغ عدد المتقدمات للمشاركة في الفرقة ثلاثا وستين امرأة، قبل أن يتقلص إلى العدد الحالي البالغ بضع عشرة.
أغاني الماضي.. حماية التراث الشعبي من الاندثار
بعد تأسيس الفرقة بدأت بجمع كلمات الأغاني، ولكي تحصل على رصيد ثري من كلمات الأغاني الشعبية القديمة، لجأت الفرقة إلى الثمانينية أم العبد، وهي امرأة مسنة متمرسة ومتمكنة في الأغاني الشعبية، وكانت تحفظ كثيرا من أغاني الأجداد القديمة. ومن هنا كانت البداية.
بدأت الفرقة تدريب أعضائها، ويوما بعد يوم، شاركت في المناسبات المحلية للقرية، وبدأ الناس يعرفونها. وبما أن الأغاني الفلسطينية الشعبية تحاكي الواقع وتكسب كلماتها من أحداث الحياة اليومية، فإنك ستجد لها جوهرا ومنطقا وروحا تعيش به معك، وحتى لو كانت أغنية من “أغاني زمان” وتسمعها اليوم، ستشعر أن لها وجودا مستمرا، وأثرا يُحيي النفس، لذلك لاقت الفرقة القبول وزيادة الطلب.

ولمزيد من الحرفية والمهنية صارت الفرقة عندما تتلقى طلبا لإحياء حفل، تجتمع في بيت إحداهن أو في جمعية القرية لعمل حفل تجريبي “بروفات” من باب الاستعداد والجاهزية.
أفراح المجتمع.. بهجة تحيي قيمة الأغنية القديمة
تقوم الفرقة بإحياء عدد من المناسبات مثل النجاح والزواج والعودة من الحج والعمرة، وغيرها من المناسبات الاجتماعية. وفي العادة تبدأ الفرقة السهرة بالأغنية الشهيرة “عاليادي اليادي”:
عاليادي اليادي يا بو لِعبيدية
الله أكبر على من ظلم صبية
عاليادي اليادي يا امي لِعبيدية
يا سهر ما أبطلك لو صار عمري ميّة
وتتنوع إنتاجات الفرقة بين الأغاني عن الزراعة، والنزول إلى الحقل، والغناء لأم العريس بمناسبة حصولها على زوجة لابنها، وتسمى باللهجة المحلية الدارجة “كِنّة”، والتهنئة بالمناسبات الكثيرة التي تحصل في المجتمع.
وتختلف الأغنية النسائية الفلسطينية عن أغاني الشباب، فهذه الفرقة في العادة تكون في قسم النساء، ومفصولة عن حفل الشباب، ولكن لخصوصية هذه الفرقة صار الناس يطلبون أغانيها التراثية بالذات، فاستُرجعت قيمة الأغنية القديمة من خلالها، وأصبح الجيل الجديد يحبها، وصار الجميع يسمعونها، وبدؤوا يحفظون كلمات أغانيها.
زنار الخصر.. اسم مستوحى من أزياء التراث الفلسطيني
تطور تشكيل الفرقة بإضافة عدد من كبار السن الرجال الذين تناهز أعمارهم أعمار النسوة، فشاركت بذلك فرقة “زنار” في حماية تراث قرية عصيرة الشمالية من الاندثار، وساهمت في إعادة إحيائه وانتشاره.
وعن سبب تسمية الفرقة بهذا الاسم، تقول إحدى العضوات بأن الزنار هو اسم الحزام الذي تتوشح به عضوات الفرقة، وهو ما تربط به المرأة الفلسطينية وسطها، ويكون عريضا ومكونا من طبقات من القماش السميك المتراكمة، وهو نطاق تحمي به المرأة الفلسطينية ظهرها من الأخطار، بسبب الأعمال الكثيرة التي تقوم بها، وتشد بها ظهرها.
وزي الفرقة مكون من منديل أبيض ترتديه النساء على الرأس يدل على السلام، وعصابة رأس مكونة من لونين؛ الأخضر الدال على خضرة أرض فلسطين، والأصفر الدال على جبال فلسطين، والثوب الفلسطيني الفلاحي الذي تستعمله النساء الفلسطينيات كخُرج أو كسلة لجمع الزيتون فيه.
في عام 2021، وبسبب مرض بعض العضوات كبيرات السن ووفاة بعضهن، وبسبب الخوف على الفرقة من الذوبان والتشتت وخسارة هذا الرصيد وهذا الموروث الشعبي واندثاره، ظهرت فكرة إنشاء فرقة “شَلَبِيَّة” للفتيات الصغيرات، كي يشاركن في أداء الأدوار الرديفة والمشاركة في أغاني ورقصات “زنار”، فصارت الفرقة كبيرة ومتنوعة، وبدأ تعليم الفتيات الصغيرات الاهتمام بلباس الفرقة وإشراكهن في الحفلات والأمسيات.
تحرير التلة.. معركة وطنية على أهازيج الفرقة
بحسب تصريح بعض أعضاء الفرقة، فإن جميع أعمال “زنار” تُعتبر مُقاومة، فإحياؤها للتراث الفلسطيني الشعبي هو نوع من المقاومة، وأهازيجها الوطنية الحماسية مقاومة، ومساندتها للوطن مقاومة. ففي أحد الأيام وقعت محاولة استيلاء على تلة فلسطينية من جانب المستوطنين، تقع تلك التلة المرتفعة المطلة على القرى والبلدات المحيطة بها بجانب قرية عصيرة الشمالية (موطن الفرقة)، وهي مطمع للمستوطنين، ومحل تهديد بالمصادرة من قوات الاحتلال الإسرائيلي لإقامة مستوطنة عليها.

فلما جاء المستوطنون وأحضروا أغنامهم وحاولوا الإقامة على التلة، هب أهل القرية والقرى المجاورة وخرجوا لطرد المستوطنين، فرافقتهم فرقة “زنار” بالأهازيج الوطنية والأغاني الحماسية مثل: “يا فدائي يا عمي، يا فدائي يا عمي.. لو أنك مجروح لأعطيك دمي”. وغيرها من الأهازيج التي ساهمت في رفع معنويات الرجال الذين تمكنوا من طرد الغاصبين.
ومنذ ذلك الحين، صارت تلك التلة -التي تقبع فوقها شجرة معمرة تتسع لجلوس مجموعة كبيرة من الرجال تحتها- مقصدا للفرقة ومكانا للتدريب، متفيئة ظلال تلك الشجرة، لإشغال التلة وإعمارها مع غيرهم من أبناء المنطقة، مساهمةً في حمايتها.
ولفرقة “زنّار” حضور في المناسبات الوطنية وفي جنازات الشهداء، فالأفراح وزغاريد النساء لدى الفلسطينيين لا تكون في الأعراس وفي مناسبات النجاح فقط، بل تكون في جنازة الشهيد في وداعه وفوزه بالجنة ونيل الشهادة.
ذاع صيت فرقة “زنار” في فلسطين المحتلة، حتى بلغ من شهرتها أنها دُعيت لإحياء حفل على المسرح في مدينة رام الله كبرى مدن الضفة الغربية المحتلة، ولاقى أداؤها التصفيق الحار والإعجاب والاستحسان من الجمهور.