“صفارات إنذار”.. فرقة لبنانية تعزف أنغام الحلم في وسط الخراب

قالت في أحد تصريحاتها إنها نشأت وكبرت في أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وكان يزعجها التصوير النمطي للعرب (تقصد في السينما) وردود الفعل العنصرية التي كانت تتلقاها باستمرار على اسم عائلتها، لهذا صنعت هذا الفيلم لتنقل صورة سينمائية مختلفة عن العالم العربي.

وقد بدأت المخرجة ريتا البغدادي كسر تلك الصورة النمطية في هذا الفيلم الوثائقي الأمريكي اللبناني “صفارات إنذار” (Sirens)، واستمدّت عنوانه من اسم الفرقة الموسيقية (Slave to Sirens) التي يتمحور حولها الفيلم نفسها، وقد عُرض سنة 2022، وتبلغ مدة عرضه 79 دقيقة.

“هيفي ميتال”.. فن يلامس أساطير الشعوب وأوجاعها

استطاعت المخرجة الأمريكية ذات الأصول المغربية ريتا البغدادي، أن تنقل جانبا مما يحدث في العالم العربي، لتكسر به الصورة النمطية في الغرب، وقد تجلّت هذه الصورة المضيئة بحسبها في بلد يحاصره كثير من المشاكل الداخلية والخارجية، وما إن يخرج من مشكلة حتى يدخل في أخرى.

ورغم هذا السواد الممتد، فهناك أرواح كثيرة ترفرف بالأحلام والأماني والآمال، من بينهم الأعضاء الخمس للفرقة الموسيقية المختصة في موسيقى “هيفي ميتال” التي أطلقت على نفسها تسمية (Slave to Sirens)، وهي أول فرقة موسيقية نسوية تعتمد على هذا النوع في العالم العربي حسب تصريحاتهن.

“هيفي ميتال” هو لون موسيقي تطور خلال سنوات السبعينيات وانتشر في عدد من دول العالم، وقد استُنبط من “البلوز” و”الهارد روك”، وأكثر ما يميزه هو تحرره من أي أنماط وقواعد، أما فيما يخص كلمات الأغاني فتنحصر في مواضيع محددة، لكن أبرزها هو ما جاء في تعريف هذا اللون الموسيقي، فهي: “تتحدث في المجمل عن الموت وقصص الفانتازيا والأساطير والحروب والحزن، وخصوصا المشاكل الاجتماعية والسياسية… إلخ”.

جدية الفيلم.. منجز يحلق في سماء المحافل السينمائية

استطاعت ريتا البغدادي أن تذيب المسافة التي تفصل بين فتيات الفرقة الموسيقية، وبين المشاكل والواقع الذي يحيط بهن، وهي في مجملها عوامل سلبية جاءت من خلال غياب الدولة كسلطة كلية ورادع وحامي الجميع، في حين حلّت محلها الطوائف والمذاهب التي تمسك زمام الأمور.

وكلها معطيات لم تتناولها المخرجة في عملها بشكل مباشر، رغم أنها موجودة في نواحي كثيرة من زوايا هذا الفيلم الوثائقي، ورغم أنه عُرض سنة 2022، فإن جمع المادة الوثائقية وإجراء البحوث الفنية ومرافقة الشخصيات كان قبل ذلك بسنوات.

لكن الجهد الذي بُذل لصناعة العمل لم يذهب هباءا، وليس أدل من ذلك الاحتفاء الكبير الذي وجده، ومشاركته في المحافل السينمائية العالمية، مثل مهرجان “صندانس” السينمائي، ومهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي، كما نال عددا من الجوائز والتنويهات، وقد انعكست هذا التتويجات والمشاركات كتحصيل حاصل لجدية المخرجة، وإصرارها على تأثيث فيلمها بالمعارف الجمالية والموضوعية اللازمة.

شيري بشارة العازفة الى الغيتار الرئيسي وليلاس مياسي العازفة على الغيتار الإيقاعي أثناء عملية التدريب

ملازمة الكاميرا.. لحظات إنسانية تعكس الكفاح والطموح

انعكست في الفيلم عواطف قوية وانفعالات متعددة، وهي فلتات إنسانية نادرة التقطتها ريتا البغدادي التي أخرجت وكتبت سيناريو هذا العمل، إضافة إلى قيامها بالتصوير، وهو الأمر الذي ساعد في إلتقاط تلك اللحظات والفيوضات، خاصة مشاهد الخلاف الحادة بين عضوين من الفرقة، وهما شيري بشارة عازفة الغيتار الرئيسي وليلاس مياسي العازفة على الغيتار الإيقاعي، وكاد هذا الخلاف أن يعصف بمستقبل الفرقة.

جاءت هذه المعطيات نتيجة ملازمة المخرجة للفتيات واقترابها منهن كثيرا، حتى أنها اقتربت من أسرة ليلاس ونقلت النقاشات الحادة التي كانت تجري بينها وبين أمها عن مواضيع استقلال المرأة وعيشها بمفردها والبحث عن مستقبلها بعيدا عن عائلتها، وكلها معطيات ترفضها الأم، لكنها تحترمها وتحترم خيارات ابنتها، كما رافقت ريتا ليلاس إلى مكان عملها، حيث تقوم بتدريس الموسيقى للأطفال، وتزرع فيهم بذور الفن باكرا.

عرف الفيلم أحلام الصبايا في صناعة فرقة موسيقية قوية، وبلبنان قوي لا تنقطع فيه التيارات الكهربائية عندما يقمن بالتدريب، ولا تنفجر فيه الموانئ، كما حدث لميناء بيروت، وهي مشاهد مؤثرة وحزينة نقلها الفيلم وضمها للمتن العام، حتى يدعم طموحاتهن للمستقبل وتفكيكهن للواقع، ومحاربتهن وكفاحهن من أجل التعريف بفرقتهن ولونها الموسيقى الجديد.

حراك 2018.. موسيقى تئن لأوجاع لبنان السياسية

خلقت المخرجة ريتا البغدادي تقاطعا واضحا بين طموح الفرقة وبين الواقع السياسي اللبناني الذي لا يساعد على تحقيقها، انطلاقا من الاحتجاجات السياسية التي شهدها لبنان بداية سنة 2018، إذ سرعان ما توسعت هذه الاحتجاجات الاجتماعية، وأصبحت ثورة ينادي فيها المحتجون بمحاربة الفساد وتغيير الخارطة السياسية التي أغرقت البلد في التخلف.

وقد شكلت الميادين والساحات العمومية الفضاء الثوري الذي تعارفت فيه مؤسستا الفرقة الموسيقية شيري وليلاس، وقد نقلت المخرجة ريتا البغدادي المشاركة الإيجابية لصبايا الفرقة الموسيقية في مختلف الفعاليات الاحتجاجية التي حدثت في لبنان، تعبيرا منهن عن التحامهن الكبير مع واقعهن المعاش.

كما عبّرت من خلال الصور البانورامية الملتقطة عن غضب الشعب اللبناني من الوضع العام، وقد انعكس هذا الغضب من خلال الكتابات الحائطية في الشوارع، وهي حركة ذكية من المخرجة عبّرت من خلالها عن ما يحدث بدون أي حوار أو مقابلة، فقط تجوّلت بالكاميرا في الشوارع، ونقلت ما كتب على تلك الجدران، ومن بينها ما كتب باللغة العربية مثلا “زمن الخوارف”، أو بالإنجليزية “عليك اللعنة أيها النظام”، وبالتالي تكون قد نقلت صورة شاملة عن ما يحدث في لبنان بطريقة غير مباشرة وبلا حشو سينمائي.

لمسات التصوير والموسيقى.. تقنيات تصنع جماليات الفيلم

احتفى فيلم “صفارات إنذار” بعدد من الجماليات المختلفة، من بينها دمج الموسيقى التصويرية (ألفها جان بابتيست دي لوبير) مع حوادث وقصص الفيلم، ومثال ذلك عملية انفجار ميناء بيروت، فتحولت الموسيقى إلى عامل مهم في شحن المشاعر وخلق التلقي الجنائزي، نتيجة لهول الكارثة. وكانت الكاميرا سلسة وذكية ومتوازنة في عملية التقاط الصور البانورامية للبنان، سواء في المدينة أو في الضواحي والطبيعة.

مخرجة الفيلم ريتا بغدادي

كما انعكس ذكاء المخرجة والمصورة وكاتبة السيناريو ريتا البغدادي في عملية ضبط الصورة الشاعرية، من بينها مثلا الصورة التي التقطت فيها صبايا الفرقة الخمسة وهن في مبنى قديم، فكانت الكاميرا داخل المبنى، بينما كانت الصبايا على الحافة، وكانت الإضافة قوية من الخارج، ويفصل كل واحدة منهم إطار، وهي صورة قوية مفعمة بالجمال.

وهذا ما حدث أيضا في عمليات تصوير الشارع في الليل والنهار، أو في المشاهد الداخلية، لتتحول الكاميرا في يد المخرجة إلى أداة قوية وساحرة في خلق اللغة السينمائية والجماليات العميقة.

تيه النفق المظلم.. مستقبل غامض يلف الفرقة والوطن

لم ترسم المخرجة أحلام الفرقة الموسيقية وحدها، بل استطاعت أن تزرع كثيرا من الرمزيات المهمة فيه، وفي نفس الوقت طرحت عددا من الأسئلة عن دور الفن في صناعة التغيير، وتركت أبواب الإجابة على بعض الأسئلة مفتوحة للمتلقي الذي سيجد لبعضها الأجوبة، بينما تبقى الأخرى معلقة، سيتكفل بها الزمن وحده.

كما جعلت ريتا البغدادي الفيلم منطلقا أساسيا لعملية التأويل المتعدد، وهي من أجمل النهايات، خاصة أنها مفتوحة على احتمالات متعددة، وقد انعكست عندما دخلت المغنية مايا خير الله، وقارعة الطبل تاتيانا بوغابة، وشيري بشارة عازفة الغيتار الرئيسي، وليلاس مياسي عازفة الغيتار الإيقاعي، وألما دوماني العازفة على الباس؛ إلى نفق مظلم حقيقي، واحدة تلو الأخرى، حتى أصبحت جزءا من ظلام هذا النفق الدامس.

ومن هنا تتعدد القراءات الرمزية، أبرزها هل دخلت الفرقة من خلال فنها هذا إلى نفق مظلم ومستقبل غامض، أو أن بلدهن لبنان هو من دخل هذا النفق عن طريقهن.