التخت السوري.. فرقة نسائية تحلّق في سماء الموسيقى الشرقية الأصيلة

استمتع عشاق الفن الشرقي على وجه العموم وعشاق الفن الأصيل والموسيقى والمقامات العربية على وجه الخصوص بفيلم عرضته قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة أفلام “نغمات وردية” عن “فرقة التخت الشرقي النسائية السورية”.
فقد تعرَّض الفيلم للفرقة ونشأتها، والمراحل التي مرت فيها، والصعوبات التي واجهتها، وطموحاتها.
واسم التخت الشرقي هو اسم أطلق على هذا النوع من الموسيقى في العصر العباسي، ومعناه أن مجموعة من الموسيقيين عازفي الآلات الموسيقية الشرقية الأساسية وهي القانون والرق -الذي يسمى عند البعض الدف- والعود والناي، يجلسون للعزف الجماعي بحضور وجهاء القوم، على منصة مرتفعة كانت قديما تُسمى الدكة.
فرقة التخت.. لقاء خريجات المعهد العالي للموسيقى
كانت فكرة إنشاء “فرقة التخت الشرقي النسائية السورية” نتاجا طبيعيا لافتتاح المعهد العالي للموسيقى في تسعينيات القرن الماضي، وطالما كان يتخرج منه كثير من الخريجين الموهوبين من الجنسين رجالا ونساء، وطالما كان هنالك تجمعات لهم أو لدفعات مخصصة منهم، فكان من الطبيعي أن يكون هنالك تجمع أنثوي فني ضمن تشكيلة ما أو تحت اسم أو فرقة ما.

ففي عام 2003 اتفقت عازفات من خريجات المعهد العالي للموسيقى على إنشاء الفرقة. والهاجس الأساسي وراء الفكرة هو تسليط الضوء على مساحات واسعة من المقامات الموسيقية العربية المعقدة، لقوتها ولجمالها ولتأثيرها الكبير على المستمع الشرقي وعلى المستمع الغربي على حد سواء.
انطلقت الفرقة بالعازفات الأساسيات، وهن وفاء سفر على الناي، ومايا يوسف على القانون، ووعد بوحسّون المغنية وعازفة العود، وخطاب خالد عازفة الناي، ورزان قصار عازفة الكمان، وميرفت رافع.
وبعض العازفات لم يكنّ يسمعن الموسيقى الشرقية ولا المقامات العربية، ولا يعرفن عنها شيئا إلا من خلال منهج الدراسة، فأحببن أن يتعرفن عليها، فأُعجبن بها والتزمن مع الفرقة، وكانت إحداهن تعزف التراتيل السريانية في الكنيسة، ولا تعرف شيئا عن الموسيقى الشرقية، فأصبحت صاحبة الدور الأساسي للصولو للكمان في الفرقة.
تحديات الفرقة.. جذور راسية في وجه العواصف السورية
يعد المجتمع السوري -بشكل عام- متعاونا، وهو جمهور ذواق للموسيقى ويحبها، ولأن الفرقة نسائية بحتة، فالجمهور على نوعين؛ نوع يأتي فقط لسماع الموسيقى بغض النظر عن كونها نسائية أو لا، بل إنه سيشجعها لأنها نسائية. وهناك نوع آخر متهكم، ويمكن أن ينظر إلى الفرقة نظرة خارجية.
تقول إحدى العضوات المؤسسات: مهمتنا هي إقناع النوعين بتوافق الشكل الخارجي مع المحتوى، وذلك بالأداء العالي الرفيع، بتقنية عالية، وبروح موسيقية عالية.

في البداية كانت انطلاقة الفرقة متواضعة، فكُنَّ بحاجة لإشراف ومؤسِّس، فقام بهذا الدور الموسيقار معين نفاع، ثم بعد ذلك انطلقن بإشراف ذاتي من وفاء سفر عازفة الناي. وقد تعرضت الفرقة لتغييرات متعددة في العضوات المشاركات، فبعضهن سافرن لإكمال الدراسة في الخارج، وبعضهن وجدن عملا شغلهن عن الفرقة، إلى غير ذلك من الأسباب التي أدت لتبديل العازفات.
وبسبب الظرف السوري وما تعرضت له سوريا من حرب، فقد تناقص عدد عضوات الفرقة، فكثير من العازفات سافرن، ومع ذلك استطاعت الفرقة الاستمرار بالعضوات الأساسيات المؤسسات، وهن دائما يعطين الروح المعنوية العالية للفرقة ويشددن من أزر الجميع. وبالتأكيد سيكون تعويض النقص من العازفات الجدد، فالعنصر الأهم هو استمرار الفرقة وعدم اندثارها.
أصالة الشرق.. زي موحد لفرقة تحمل التراث السوري
مع الأيام انصقلت أفكار وأهداف الفرقة، فصار الحفاظ على التراث السوري والأصالة هو الهدف، وقد اختير مؤخرا زي رسمي للفرقة، وأصبح زيا موحدا مستوحى من ألوان التراب الذي يدل على أصالة الشرق، وكذلك الرسومات والنقوش التي يحتويها هي من واقع أصالة المكان الشرقي. وهو يكمل رسم الفرقة، ليكون لوحة فنية متكاملة مع اللوحة الموسيقية.

وقد تعمقت أعمال الفرقة فأصبحت تحاول تأنيث أسماء المقطوعات الموسيقية وأسماء الآلات الموسيقية، وتطلق عليها أسماء أنثوية من باب التكامل والتناسق. وكان الاتفاق على أن تكون أكثر أعمال الفرقة من الوصلات التي تمثل التراث السوري بشكل خاص، وصار معروفا عن الفرقة أنها ملزمة بختم حصتها في الحفل بمعزوفة تمثل سوريا، ثم اشتُهرت بذلك، فصارت تمثل سوريا سنويا في حفل موسيقى يوم المرأة العالمي.
كما تميزت الفرقة بأنها تعمل بثقة ملتزمة بقواعد معينة، ففي المقطوعات الآلية مثلا، يكون التركيز على القوالب الموسيقية الكلاسيكية القديمة التي تحتوي على السماع الثقيل الخاص بالموسيقى الشرقية، تبعا للمقامات العربية الأصيلة مثل الرست والبيات والصبا.
سند المنزل.. وراء كل امرأة ناجحة رجل
كان ضعف التمويل أحد أسباب صعوبة البداية، فحتى عام 2010 كان تمويل الفرقة ذاتيا، فقامت العازفات بعمل صندوق للفرقة، وكانت كل فتاة تساهم فيه بما تستطيع، لتوفير الملابس والتنقلات والمصاريف الأخرى، وبعد ذلك صار قسم كبير من المكافآت يذهب للصندوق، وأكثر ما كان يتعبهن هي الأماكن التي تختارها لهن وزارة الثقافة للتدريب وتطبيق البروفات.

ففي البداية المبكرة حينما كان عدد العازفات قليلا لم يكن توفير أماكن لعمل التدريبات والبروفات مشكلة، فيمكن تنفيذ ذلك في بيت أي عضوة لديها بيت واسع أو إمكانية للاستضافة. ولكن مشكلة المكان تفاقمت بعد ذلك عندما كَثُرت الالتزامات وكَثُرت المهام، لأن المشكلة الأكبر التي تواجه العازفات هي تنسيق الوقت بين البيت والأولاد وبين حصص التدريب والبروفات.
فكل عضوة في الفرقة هي إما زوجة أو أم أو مسئولة عن أسرة بشكل ما، وبالتالي فواجبات الأمومة والزوجية ومتطلبات الحياة الكثيرة والعمل يسبب الإرباك لهن.
وبما أنه قد قيل قديما إن وراء كل رجل عظيم امرأة، فوراء كل امرأة ناجزة وناجحة رجلٌ في البيت يساعدها ويُعينها ويحمل عنها بعضا من الأعباء، وهذا ما حصل لدى بعض العضوات، فكان الزوج سببا في قدرتهن على الاستمرار والنجاح في الفرقة.
جابت الفرقة أغلب الدول العربية، وكانت الفرقة الأولى التي تعزف في أوبرا سلطنة عمان، كما شاركت في أكبر مهرجان للدول الآسيوية في الصين، وزارت ألمانيا والنمسا وهولندا وغيرها. وتحلم العازفات بمزيد من الانتشار، وخاصة على الصعيد العالمي، حتى يستطعن إيصال التراث السوري لكل العالم، وتحسين الظروف والتدريب بشكل مكثف، وأن يقمن بإحياء الحفلات التي ستخدمهن أكثر وأكثر.