“شغف الأسطوانات القديمة”.. حنين إلى النغمات العتيقة ذات الملمس والرائحة

قبل أكثر من 100 عام ظهرت أسطوانات الفينيل، وكانت حكرا على النخبة التي كانت تستمع للموسيقى الكلاسيكية، وشيئا فشيئا تحولت إلى أثاث في المنازل، وتراجعت مبيعاتها، لكنها ظهرت من جديد وأصبحت مطلبا من الشباب قبل الكبار وعاشقي الأسطوانة الدائرية.

يتناول فيلم “شغف الأسطوانات القديمة” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، المسار التاريخي لأسطوانات الفينيل والأسباب الكامنة وراء استمراريتها حتى يومنا هذا، رغم التقدم التكنولوجي الهائل في عالم الصوتيات، وتوفر البدائل المتطورة والحديثة.

هوس التفاصيل في عالم الأسطوانات.. تجربة حسية محضة

يقول الشغوفون بالأسطوانة الدائرية التي يبلغ حجمها “30 سنتيمترا طولا ومثلها عرضا” إن تجربة الاستماع إلى تلك الأسطوانات تبدأ من فض الختم وفتح الأسطوانة لأول مرة، ثم تثبيتها على مشغل الأسطوانات، ووضع الإبرة على الأسطوانة، ويصفونها بأنها تجربة حسية محضة لأنه “بإمكان الشخص لمس الأسطوانة والاحتفاظ بها”.

أسطوانات الفينيل تاريخ عريق مع الإبرة القارئة للموسيقى

ويقول الموسيقي والموزع “جون فاندرسلايس”: أسطوانة الفينيل ساحرة، وقصة حساسة جدا، فمن الصعب تنفيذ كل الخطوات بشكل صحيح، بدءا من كتابة الأغاني، ثم تكوين فرقة متناسقة وابتكار رؤية فنية، والحصول على مهندس بارع، وأستوديو جيد، ومهندس صوت، وفني متخصص.

وتشبه صناعة الفينيل في الوقت الحالي العملية التي كانت متبعة عام 1880، فطوال أكثر من 70 عاما من الموسيقى المسجلة حافظت على شكلها الدائري سواء كانت مصنوعة من الفينيل أو الشيلاك، ولم يكن هناك أي شكل آخر، بحسب الأستاذ الجامعي “أوليفر وانغ”.

“باتت الأسطوانات مصدر إزعاج كبير”.. بداية الانهيار

في المسار التاريخي لأسطوانات الفينيل، نجد أن من أسباب نجاحها كونها كانت تشاهد بسهولة عند عرضها في نافذة المتجر، ولهذا استهدفت فئات من المستهلكين لم يكونوا ميسوري الحال، عبر طرح الأسطوانات بأسعار معقولة، وكانت ذات صوت نقي، ووفرت تجربة زهيدة الثمن للرفاهية الحضارية لكل تلك الفئات السكانية.

بسبب منافسة أشرطة الكاسيت والأقراص المضغوطة تراجعت مبيعات أسطوانات الفينيل

وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي نافست أشرطة الكاسيت وأشرطة المسارات الثمانية والأقراص المضغوطة أسطوانات الفينيل ولهذا تراجعت مبيعاتها. ثم جاءت الضربة القاضية من التطور الرقمي للموسيقى، لأنه الأكثر مثالية فهو يتمتع بالاتساق وبمستوى ضوضاء أقل ومجال حركي أكبر.

يقول الأستاذ الجامعي “أوليفر وانغ”: أخذت مبيعات الأسطوانات بالتراجع، وتحديدا مع صدور ألبوم “ثريلر” (1983)، فكل شيء قد تراجع بشدة، بعد ذلك باتت الأسطوانات مصدر إزعاج كبير وثقيلة وسهلة الخراب والانحناء وتكسر حامل الإبرة.

تصنع أسطوانات الفينيل من مادة الفينيل الخالصة التي تشبه البلاستيك

وفي نفس السياق يقول “مارك واينستين” مالك شركة “أمينا ميوزك”: لم تكن أسطوانات الفينيل ذات قيمة كبيرة عام 1990، وكان الناس يحضرون أسطواناتهم وفوقها مشغل الأسطوانات.

وقد تخلص الناس -على الفور- من كم هائل من أسطوانات الفينيل، وامتلأت المتاجر بها، وكان يمكن شراء أسطوانات قيّمة بأرخص الأثمان.

عصر المكتبة الموسيقية المتنقلة.. رصاصة الرحمة

في مطلع الألفية الجديدة ظهر تنسيق الموسيقى الرقمي وأنظمة الفينيل الرقمي مثل “سيراتو”، وكان كثير من منسقي الأغاني سعداء بهذا التطور.

بدأ منسقو الأغاني الذين يعملون بهذه المهنة منذ الثمانينيات بتصفيات مجموعاتهم. وانهار كل شيء في عصر خدمة “نابستر” الرقمية، ثم جاء عصر “أم بي ثري” (MP3) وأطلق رصاصة الرحمة على أسطوانات الفينيل، فوجود مكتبة موسيقية معك أينما ذهبت ومتى شئت، هو قفزة كبرى في عالم الاستماع إلى الموسيقى.

منسقو الأغاني القدامي يقومون بتصفيات مجموعاتهم من الأسطوانات

وقد عبّر عشاق الموسيقى عن غضبهم وانزعاجهم من شركات التسجيلات في المتاجر، وأبدوا استياءهم من الأسعار وعدم وجود الخيارات، ونتيجة لذلك بات تجار الأسطوانات فريسة سهلة. ولم يعد يباع من بين 500 أسطوانة تصنع إلا 50 فقط، وتوقف كثير من مصانع الأسطوانات عن العمل.

وكان لـ”مارك مايكنز” مالك شركة “يونايتد ريكورد برنيسينغ” تجربة قاسية جسدت الواقع تلك الفترة، فيقول: اشتريت الشركة عام 2007، وكان نشاطها قائما على صناعة أسطوانات ترويجية فردية بحجم 30 سنتيمترا لمنسقي الأغاني، وبتلك الطريقة كانت الشركات الكبرى تدعم فنانين جددا. وكان لدينا في الشركة كل ما تحتاجه صناعة الأسطوانات ولكن بعد فترة قررت الشركات التوقف عن إنتاج أسطوانات فردية وكان لذلك تأثير مدمر وساءت الأمور وتوقف العمل. وأعتبر عام 2007 عام الحضيض، فقد بيعت خلاله أقل من مليون أسطوانة.

“يوم بيع الأسطوانات”.. حدث جماعي يستقطب عشاق الفينيل

توقف نشاط أصحاب متاجر الأسطوانات، فقد أفلسوا وأصبحوا حديث وسائل الإعلام وخسروا كل شيء، ولكن رفضوا الاستسلام، وعقدوا مؤتمرا جمع متاجر الأسطوانات المستقلة، وسموه “ضوضاء في القبو”، وتحدثوا عن تغيير وجهات النظر والمفاهيم والسيناريوهات، وخرجوا بفكرة حدث يسمى “يوم بيع الأسطوانات” يتخلله حفل موسيقي، لمحاولة استقطاب العدد الأكبر من عشاق “أسطوانات الفينيل”.

فرقة “ميتليكا” أول سفير في “يوم بيع الأسطوانات”

وكانت الأسطوانات -التي تعد رأس مالهم الباقي- أملهم الوحيد، وتمنوا أن يكترث أحد للأمر، وطرحوا فكرة أن يجعلوا الفنانين يساهمون بمقطوعات حصرية على أسطوانات صغيرة بحجم 18 سنتيمترا.

وفي ذلك الحدث حضرت شخصيات مهمة، وكانت فرقة “ميتليكا” أول سفير لهم، واستمر الأمر حتى يومنا هذا. وعندما بدأ المشروع قبل 6 سنوات لم يشارك سوى 30 فنانا، وأصبح لديهم الآن 350 فنانا وفرقة موسيقية تشاركهم، وأصبح الحدث عالميا.

وليس ذلك فحسب كل ما في الأمر، لأن “يوم بيع الأسطوانات” منح الموظفين فرصة مواصلة العمل في مجال يحبونه، واستعادوا تألقهم مجددا، وعادت الحركة للمتاجر.

تزايد المبيعات.. عودة على مطية متاجر التجزئة على الإنترنت

يقول “باتريك ماكارثي”، وهو مدير في شركة “لايت إن ذي أتيك ريكوردز”: كان هناك تحول تدريجي، ثم بدأ تزايد عدد متاجر التجزئة على الإنترنت التي تبيع الأسطوانات، وواصلت الشركات المستقلة والفنانون صنع الأسطوانات، وكان لهم تأثير كبير على استمرار الشركات الكبرى.

تزايد مبيعات أسطوانات الفينيل في السنوات الأخيرة

وفي مايو/ أيار 2008 شرع “مارك مايكنز” مالك شركة “يونايتد ريكورد برنيسينغ” في تصحيح مسارها، لتكون مستعدة لليوم الذي ستزدهر فيه أسطوانات الفينيل التجارية مرة أخرى، ولم يكن “مايكنز” متأكدا من حدوث ذلك، لكن الأمور انتهت على خير وعادت صناعة “الأسطوانات” إلى سابق عهدها.

وتقول “جيسا زابور غراي”، وهي مالكة إحدى الشركات: السبب وراء تزايد مبيعات أسطوانات الفينيل بالتزامن مع شعبية الوسائط المتعددة هو أنها تتيح لنا الاستكشاف، ويمكنك أن تعاين كل شيء موجود، ثم تقرر الشراء بناء على ذلك، إنها تجربة مختلفة تتناغم بشكل غريب مع الوسائط المتعددة، رغم أنها تعاكسها تماما.

تطوير الصناعة.. تحسينات لتلبية أحلام الجمهور المخلص

تلخص الطالبة “إليانور فيسلر” الفرق بين أسطوانات الفينيل والوسائط الرقمية بقولها: إذا كنت معجبة بفرقة، واستمعت إلى كل إصداراتها عبر الوسائط المتعددة، فسأحاول بالتأكيد شراء أسطواناتها، لأن لدي شغفا بدعمها بطريقة ما. وأنا أستخدم الطريقتين كلتيهما، أما الحديثة فعندما أكون في المترو، فأستمع للموسيقى عبر الوسائط المتعددة، وإذا كنت سأمضي الليلة في المنزل، فأستمع إلى أسطوانة الفينيل.

“روب موشوند” يقدم شرحا مفصلا عن صناعة أغلفة أسطوانات الفينيل الملونة

يمكن سماع الأغاني في أي مكان، ولكنك لن تحصل على الغلاف أو ألبوم الصور إلا عندما تشتري الأسطوانة.

ويقدم “روب موشوند” -وهو مخطط إنتاج في مطبعة- شرحا مفصلا عن صناعة أغلفة أسطوانات الفينيل، ويقول: لم نتوقف قط عن صناعة أغلفة أسطوانات الفينيل، ورغم اقتراب نهايتها فإن صناعة الأسطوانات عادت من جديد منذ نحو 12 عاما، وأخذت تنمو تدريجيا، ومما ساهم في ذلك أن الناس جعلوها أكثر خصوصية.

هناك مزيد من العمل بمواصفات عالية الجودة، وهي طريقة لجلب الناس لشراء الأسطوانات، في الماضي كان للأسطوانات غلاف واحد ذو 4 ألوان، أما الآن فهناك أغلفة خاصة وختم بالرقائق ونقوش وأغلفة معطرة، ويمكن تنفيذ ما يطلبه الزبون، مهما كان الطلب.

هواة جمع الأسطوانات يخصصون لها رفوفا بمقاسات مناسبة وترتيب معين

ولحفظ أسطوانات الفينيل تستخدم رفوف خاصة تناسب الأسطوانات، ويعرفها هواة جمعها، وهذه الرفوف مكونة من 25 خانة، وتتسع لكمية مثالية من الأسطوانات، لكن إذا تكدست الأسطوانات، فيجب التخلص من بعضها ليكون هناك متسع لما هو جديد، ورغم أن هذا الأمر صعب عليهم فإنه أمر حتمي.

حنين الأيام الغابرة.. سحر الأسطوانات المدفون بين النغمات

تقول “مورغان رودز”، وهي مشرفة موسيقى: ما يجمع أصحاب الشغف هو حب الأسطوانات، ولولا الموسيقى لما كنا نتحدث الآن، لذا فإنها أمر يمكن توريثه، لا تخف ولا تدع المتعجرفين أو هواة الجمع يشعرونك أنها صعبة المنال، لأنها ليست كذلك، حتى لو كانت أفضل أغاني الثمانينيات، فلتذهب وتحصل عليها، وسيغير ذلك حياتك.

المنتجة الإذاعية “آشليان كريغبلوم” كتبت وصيّتها بشأن أسطواناتها وحفظتها في مستندات غوغل

وقد كتبت المنتجة الإذاعية “آشليان كريغبلوم” وصيّتها وحفظتها في مستندات غوغل، وتنص على أنها تسمح لوالديها وصديقها بتقرير مصير أسطواناتها، لأنها على ثقة بأنه سيبذل كل جهده من أجل أن لا تضيع وينتهي بها المطاف مهملة لا يستفيد منها أحد، وتأمل أن تشغل أسطوانتها باستمرار، ويحزنها أن تتشتت مجموعتها، ويضيع التناغم القائم بينها، وتتمنى أن تذهب إلى مكان ما يذهل الناس بها وبأغلفتها، ويتملكهم الفضول للاستماع إليها.

وتقول “آشليان”: هذا المجال يتجه مجددا نحو التماثل، لأننا نجتمع بطريقة أكثر إنسانية، وأحد الأشياء التي آمل أن نتعلمها من عودة أسطوانات الفينيل هو تلك الرغبة في التواصل البشري، وقد تجسد أسطوانات الفينيل حنينا يذكر بشخص ما، أو يرتبط بمكان ما في زمن ما، فهي تحمل في طياتها ذكريات يصعب التخلي عنها.


إعلان