“حالمون من غزة”.. رياضات وفنون وأحلام تتحدى حواجز المستحيل

ما من إنسان إلا وتشكل الأحلام جزءا من حياته، وتتفاوت سهولة أو صعوبة تحقيق هذه الأحلام، لكن في غزة، يجب عليك أن تواجه تحديات أكبر منك كي تتبع حلمك، وعليك أن تصنع لنفسك مساحة في مدينة تختنق يوميا.

تبلغ مساحة قطاع غزة حوالي 360 كيلومتر مربع، وهو أكبر بقليل من جزيرة مالطا (316 كيلومتر مربع)، ويبلغ عدد سكانه حسب إحصائيات عام 2021 حوالي 3 ملايين نسمة، بكثافة سكانية تبلغ 8333 نسمة لكل كيلومتر مربع.

وقد انسحب الاحتلال الصهيوني من القطاع في أغسطس 2005، وتمركزت قواته على حدوده. ويمكن القول إن الطفل الذي وُلد في قطاع غزة بعد انسحاب قوات الاحتلال قد شهد ستة حروب شنها الصهاينة حتى الآن، ويبلغ متوسط أعمار السكان نحو 18 عاما، بينهم أكثر من مليون يستخدمون شبكة الإنترنت، وهي نافذتهم على العالم.

وتصف جملة من الأرقام بوضوح كيف تحول القطاع إلى سجن كبير يعيش فيه الفلسطينيون، وهم شعب يحب الحياة، ويحلم بغدٍ أفضل، ولا يثنيه الحصار ولا الحروب والدمار عن المضيِّ قُدُما في الإعمار، فقد رسم تفاصيل يومياته كما يحب. وهو موضوع الفيلم الذي أنتجته وبثته الجزيرة الوثائقية بعنوان “حالمون من غزّة”، حيث يكشف عالما آخر في غزة الصامدة.

“علمتني والدتي أن المستقبل للمؤمنين بجمال الأحلام”

يطل الشاب عوني فرحات (26 عاما) من شرفة منزله على منظر عام لغزة، ويرى البحر الممتد في ما لا نهاية له، يحلق بخياله عاليا في السماء، ويمتطي بساطه الطائر ليجوب الآفاق، فالأحلام والخيال هي فقط زاد أهل غزة اليومي.

متزلجون غزاويون يبحثون عن فضاء لممارسة هوايتهم فلا يجدون إلا ساحات المساجد

ويتحدث عوني عن نفسه قائلا: ولدت وترعرعت في مخيم جباليا للاجئين، وعلمتني والدتي أن المستقبل للذين يؤمنون بجمال الأحلام، فالحلم هنا يكاد يكون واجبا. لذا أشارك مع فريق الحرية للمتزلجين الغزاويين، ونبحث عن أي أرض مستوية لنمارس هوايتنا، فالتزلج يعني لنا الطيران في السماء.

إدخال أحذية التزلج وواقيات الرُّكَب إلى القطاع هو أمر في غاية الصعوبة، بسبب الحصار المفروض على القطاع من قبل قوات الاحتلال، لكن الشباب يحملون أحلاما كبيرة ولا يثبط عزائمهم شيء.

يقول عوني: قلما نجد مساحة مستوية غير مليئة بالحفر، فأحيانا نذهب إلى ساحة النافورة في حي الشيخ زايد الجديد، أو حتى في ساحات المساجد. ومعنا معتصم، وهو أصغر لاعب في فريق التزلج، وعمره ثماني سنوات.

طائرات الاحتلال تهدم الجدران.. ورسّام الغرافيتي الغزّاوي يعيد إحياءها

هذا رسّام الغرافيتي بلال الذي يرسم الأمل على الجدران، لكن قنابل الاحتلال تهدم الجدران في كل مرة، وبلال لا ييأس، فيرسم من جديد، ويعجبه أسلوب “بانكسي” أشهر رسام غرافيتي عالمي، ومن سوء حظه أنه فاتته زيارة “بانكسي” إلى القطاع. فبلال يبث الحياة في جدران غزة من خلال رسوماته، تماما مثل جدران المدن العالمية برلين وروما وغيرها.

بلال فنان غرافيتي يملأ جدران غزة المحاضرة بالأمل والصمود

فرغم الحصار المفروض على غزة من كل الجهات، فإن شبابها مبدعون، وكثير منهم أثبت تفوقه في عدد من المجالات، فبعضهم كسر القيد وخرج من القطاع، وأكثرهم ما زال ينتظر، وهم أصحاب رسالة يوصلونها للعالم من خلال رسوماتنا الغرافيتية، مثلنا مثل الصحفيين والإعلاميين والمصورين والأدباء.

يقول بلال: نقول لأهلنا في غزة إن فن الغرافيتي مثل باقي أنواع الفنون الجميلة الأخرى، ونقول للعالم أن هنالك قطاعا محاصرا يحوي بين جنباته آلاف المواهب في كل مجالات، ويحول الحصار الجائر دون انطلاقهم إلى العالم، وندعو الفنانين الكبار ليزوروا القطاع وبتعرفوا على مواهبه عن كثب.

راكبو الأمواج.. أحلام بسعة البحر وارتفاع السماء

البحر هو الجانب المشرق من الحياة في غزة، ولكنه بالنسبة لشباب القطاع أضيق بكثير مما يبدو، فسفن الاحتلال الجاثية قبالة الساحل تهدد بالموت كل من تحدثه نفسه من الصيادين وراكبي الأمواج أن يتجاوز بضع مئات من الأمتار بعيدا عن الشاطئ.

هواة ركوب الأمواج في غزة مبدعون لكنهم لا يجدون سبيلا للخروج إلى العالمية

يقول أحد هواة ركوب الأمواج: نحتاج لكوادر تدريبية تساعدنا على صقل مواهبنا، ونحن بحاجة إلى الأدوات والموارد الضرورية لهذه الرياضة المهمة، وتقتصر خبراتنا على ما نشاهده من خلال الإنترنت عن هذه الرياضة وأبطالها والمعدات الضرورية التي يجب أن تكون بحوزتنا. فهذه الرياضة تعلمنا الانطلاق والحرية وتفتح عقولنا على آفاق جديدة.

نحن شباب نعشق الحرية، ونحب السلام، ولسنا إرهابيين كما يروج عنا أعداؤنا في الإعلام العالمي. ولقد أثَّرت الحروب المتتالية على سكان القطاع وعلينا نحن الشباب بخاصة، ولكننا نتعامل مع آثارها المدمرة بإيجابية، ولا تزيدنا إلا إصرارا على التشبث بأحلامنا، وأن نتخيل واقعا أفضل من الذي نعيشه.

صانع البهجة.. مهرِّج يرسم الابتسامة على شفاه الأطفال

يعمل ماجد مُهرِّجا وصانعا للابتسامة في غزة، وهو يحب أن يرى الابتسامة على وجوه الناس، فهو يضعها على شفاههم، الصغار منهم والكبار، وقد بدأ هواية التمثيل في فترة المدرسة، ثم توجه للعمل مهرجا في الاحتفالات والمناسبات.

“المهرج” ماجد يزور مستشفيات غزة بانتظام لطبع البسمة على وجوه الأطفال المرضى والمصابين

يقول ماجد: كلنا تأثرنا بالحروب المتتالية، خفنا أحيانا، وتهدمت بيوت كثير منا، ولذا كانت رسالتي وأعمالي موجّهة أكثر إلى الأطفال، وخصوصا الجرحى والمصابين منهم، وأتوجه يوميا إلى المستشفيات، وأمثل دور المهرج الطبيب أمام الأطفال، وأحب أن أصنع الابتسامة على وجوههم.

ويختم قائلا: نعاني من الحصار والانقطاع عن العالم بفعل الاحتلال، فكم كنت أتمنى أن أدخل السعادة والسرور على قلوب الأطفال في كل العالم، وأن أتعلم مهارات جديدة من الذين سبقونا في هذا المجال، ولكن الحصار الظالم يمنعنا من ذلك.

شباب يمارسون رياضة “الباركور” في خان يونس ويصارعون من أجل صقل مهاراتهم

لكن ماجد سلك طريقا آخر لصنع السعادة، فهو يدرب الأطفال على السباحة منذ سنوات، يعشق البحر، لدرجة أنه أنشأ بركة السباحة الخاصة به على شاطئ البحر، واتخذ ركام المنازل التي تهدمت أثناء الحرب حواجز ضد الأمواج. ويساعده مدربه ساري الذي كان ينبغي له أن يكون سبّاحا ماهرا ينافس على البطولات الدولية، لولا أن الحصار الظالم منعه من ذلك.

ثورة الفن.. عوائق تصنع منصات الانطلاق

يسري في دماء شباب غزة تحدي العقبات والصعاب، بل إنهم يتخذون تلك العقبات منصّات للعبور إلى أحلامهم. فها هو فريق رياضة “الباركور” في خان يونس يصارع من أجل صقل مهاراته في هذه الرياضة الخطيرة، وهم يتقافزون في الشوارع والساحات وعلى أسطح المنازل مثل العفاريت. وحتى الحفر الكبيرة التي خلفتها قنابل الاحتلال يستخدمونها حواجز للقفز من فوقها.

“نداء” تمارس هوايتها في الرسم والتصوير في غرفتها الضيقة في غزة

إنها رياضة تمنح الشباب القوة والحرية والانطلاق، فيهوي أحدهم من ارتفاع يزيد عن 6 أمتار، كأنه طائر ينقض على فريسته من أعالي السماء، حلمهم أن يتحرروا من القيود المفروضة عليهم، وأن ينطلقوا بمهاراتهم في أنحاء المعمورة، وأملهم في الحرية فقط، وأن يغادروا أرضهم متى يشاؤون ويعودوا إليها حينما يرغبون.

وتقوم الشابة نداء بممارسة هوايتها في الرسم والتصوير من خلال غرفتها الضيقة التي حولتها بإصرارها وحماسها إلى ورشة فنٍّ حقيقية، والفن بحد ذاته ثورة، فمن خلال الرسوم واللوحات يثور الفنان على السجّان، ويثور أيضا على المظاهر والأخلاقيات السلبية في مجتمعه، فالفن رسالة راقية إذا أحسن استخدامها في التوجيه نحو الأفضل.

الأحلام في غزة تتخذ شكلا من أشكال المقاومة، سواء في الرياضة أو الرسم أو التصوير أو التعبير من خلال مواقع التواصل، قد لا تتحقق كل الأحلام، لكن الشيء الوحيد المؤكد هو أنه لا أحد يمكنه أن يمنع شباب غزة من الحلم والأمل.


إعلان