السينما التركية.. ظلال المسرح والتقلبات السياسية على قاطرة الصناعة

طيلة ما يقارب مئة عام جرّ قطار التقلبات السياسية في تركيا صناعة السينما المحلية، فكانت تلك الصناعة عربة تتوقف أحيانا، وتسير بخطوات بطيئة أو سريعة أحيانا أخرى، فاستفادت السينما التركية من التغير السياسي مرات كثيرة، مثلما جنى عليها مرات أخرى، فأبطأ مسارها حتى كاد يوقفه.
وفي سبعينيات القرن الماضي، استطاعت تلك العربة أن تفكّ نفسها، وتمكنت من التحرر من قاطرة التقلبات السياسية في تركيا، وخطت مسارها الخاص، ولفّت كل المحطات حتى وصلت إلى أكبرها؛ محافل السينما العالمية.
“محسن أرطغرل”.. خلفية مسرحية تثقل أعمال الأب الروحي
يقول المخرج الفرنسي البولندي الأصل “رومان بولنسكي” في وصفه للسينما إنها “يجب أن تجعلك تنسى أنك جالس في المسرح”، غير أنه طيلة عقود كثيرة، لم تكن السينما التركية في أكثر من ثلث محطاتها التي خطتها تستجيب لذلك الوصف، فحتى خلال الفترة الطويلة التي قاد فيها “محسن أرطغرل” السينما التركية، وهو المعروف بالأب الروحي للسينما التركية، لم تكن الأفلام المبكرة تملك ولو قليلا من الهوية والفنية السينمائية التركية، حتى تنسي جمهورها بأنه جالس في المسرح.

ووفقا للمؤرخ التركي المتخصص في تاريخ السينما “نجاة أوزن” فإن “أرطغرل” الذي كان المخرج والمنتج المحتكر لصناعة الأفلام بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، كان متأثرا إلى حد كبير بالأفلام الغربية، غير أنها كانت نسخا سيئة الصنع حسب “أوزن”.
يقول “أوزن”: حاول “محسن أرطغرل” الاستفادة من أجواء عملية التحديث الواسعة في الساحة السياسية في تركيا ونقلها إلى مستوى السينما. ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يأخذها لأكثر من التقليد، كما هو الحال في أغلب أعماله، وذلك بسبب خلفيته المسرحية، فهو لم يستطع أن ينجح في تأليف قصة سينمائية، وظلت أفلامه تبدو مسرحية.
حرية الترفيه.. ازدهار في عصر الملكية الدستورية
عُرض أول فيلم في تركيا فترة حكم العثمانيين في نهاية العام 1896، وكانت دائرة القصر المتكونة من السلطان وعائلته وكبار المسؤولين أول جمهور محظوظ في تركيا يتمكن من مشاهدة ذلك الاختراع الأسطوري، قبل أن تظهر بضع دور سينما في ثلاث مدن عثمانية، وهي إسطنبول وإزمير وسالونيك.
يقول الباحث “ليفنت يلزاموك” في دراسة بعنوان “منظمة “يوريماج والسينما التركية.. التاريخ والهوية والثقافة”: كان للإعلان الثاني عن ملكية دستورية في العام 1908 تأثير إيجابي على زيادة عدد الأفلام. كانت هناك مسارح في جميع أنحاء البلاد، وتضاءلت المقاومة السابقة للترفيه إلى حد ما مع هذا الفعل الأساسي لصالح الديمقراطية والحرية. بالإضافة إلى ذلك، أدى الاستيلاء الجزئي على سلطة السلطان من قبل البرلمان إلى خلق جو أكثر تحررا في الحياة الاجتماعية والثقافية.
“المكتب العسكري المركزي للسينما”.. صناعة بأوامر وزير الحرب
قبل بلوغ العقد الثاني من القرن الماضي، كانت عجلة إنتاج الأفلام تسير بسرعة مذهلة، وبدا أن بابا جديدا ومغريا للاستثمار قد فُتح لرواد الأعمال في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى عكس هذه الدول، دخلت صناعة الأفلام في تركيا من باب القصر الملكي في العام 1915، حين أمر أنور باشا وزير الحرب والقائد الأعلى للجيش بإنشاء أول مؤسسة سينمائية في الإمبراطورية العثمانية، وهي “المكتب العسكري المركزي للسينما”.

يقول الباحث “ليفنت يلزاموك”: لم تكن لدى هذه المؤسسة أهداف ثابتة تتعلق بثقافة السينما أو سياسة السينما أو إستراتيجيتها، ولكن بدلا من ذلك كانت لديها مهمة عسكرية بالكامل تتمثل في تصوير وعرض تحركات القوات في الجبهة، والعمليات العسكرية والتدريب العسكري، وغيرها من الأحداث الأخرى.
عُيّن “سيغموند واينبرغ” وكيل الإخوة “باتي” في تركيا مديرا “للمكتب العسكري المركزي للسينما”، وحسب الباحث “يلزاموك” فقد كان لـ”واينبرغ” مساهمة كبيرة في نشر ثقافة السينما، حتى إنه دفع المكتب العسكري لإنتاج فيلمين روائيين، وهما “بائع الحمص” (Leblebici Horhor Agha)، و”زواج السيد حمت” (The marriage of Himmet Agha).
انهيار الإمبراطورية.. هزيمة الحرب تجر أذيالها على السينما
يقول الباحث “ليفنت يلزاموك”: في العام 1916، بعد دخول رومانيا في الحرب ضد الإمبراطورية العثمانية، أقيل “واينبرغ” من منصبه في المكتب العسكري المركزي للسينما بسبب أصله الروماني، وأنهى مساعده “فؤاد أوزكيناي” تصوير فيلم “زواج السيد حمت” في العام 1918. وأصبح “سيدات سيمافي” الصحفي الشاب -رغم أنه بدأ التصوير بعد “واينبرغ”- مخرج أول أفلام روائية محلية عُرضت علنا في عام 1917 بفيلميه “المخلب” (The Claw)، و”الجاسوس” (The Spy).
بالإضافة إلى المكتب العسكري، أنتجت بعض الشركات غير الحكومية -التي كانت مهمتها الرئيسية دعم حرب الاستقلال اللاحقة- أفلاما من أجل الحصول على تمويل. ورغم ذلك، وبحلول العام 1921، لم يصل العدد الإجمالي للأفلام الروائية التركية إلى أكثر من ستة أفلام.
ظهرت الأفلام التركية الأولى متأخرة مقارنة بأوروبا والولايات المتحدة، ويمكن تقييم السبب الكامن وراء هذه الفجوة من خلال التمعن في الظروف الاقتصادية والسياسية للدولة في المقام الأول، فقد كانت الإمبراطورية في حالة انهيار خلال هذه الفترة، ليس فقط بسبب حركات الاستقلال بين الدول المكونة لها، ولكن أيضا نتيجة مشاركتها وهزيمتها في الحرب.
علاوة على ذلك، فإن الوضع الاقتصادي لم يخلق بيئة جيدة لإنتاج الأفلام الروائية. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يكن هناك شيء تقريبا يمكن أن يسميه المرء صناعة سينمائية وطنية في هذه الفترة.
تأسيس الجمهورية.. حقبة سينمائية تحت ظلال رجل واحد
عُرفت السنوات ما بين العام (1922-1938) باسم فترة “محسن أرطغرل”، فقد كان المخرج الوحيد الذي يصور الأفلام الطويلة خلال فترة تقارب العقدين، وهي الفترة التي تتوافق تقريبا مع مرحلة تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، واكتسب “أرطغرل” خبرة في التمثيل والإخراج بعد زيارته إلى فرنسا وألمانيا.

وعند عودته إلى إسطنبول في العام 1921، شجّع “كمال سدن” على تأسيس شركته التي سماها “شركة كمال للأفلام”، وهي أول شركة إنتاج أفلام في البلاد، تلاها تأسيس أستوديو ومختبر تابعين للشركة، ويعتبران أول مختبر وأستوديو في تاريخ السينما التركية، على الرغم من الإمكانات البدائية والضعيفة.
يقول “ليفنت يلزاموك” إن “أرطغرل” صور ستة أفلام طويلة بحلول العام 1924، حقق آخرهما فشلا في شباك التذاكر، مما أجبر “كمال سدن” على الانسحاب من إنتاج الأفلام. وكان من ضمن تلك الأفلام فيلم “محنة” (Atesten Gömlek) الذي أخرجه في العام 1923، وهو مستمد من رواية “خالدة أديب أديوار” التي اشترطت أن تؤدي دور البطلة ممثلة مسلمة، وهو شرط ثوري، لأنه في زمن حكم العثمانيين لم يكن يسمح للنساء المسلمات بالتمثيل.
سافر “محسن أرطغرل” إلى الاتحاد السوفياتي، وبعد عودته دفع عائلة “إيبكجي” المعروفة سابقا بتجارة النسيج والتصوير الفوتوغرافي، إلى الدخول في مجال إنتاج الأفلام، وفي العام 1928 تأسست شركة “إيبيك فيلم”، وهي ثاني شركة لإنتاج الأفلام في تركيا، وأصبحت “شركة إيبيك فيلم” هي المنتج الوحيد للأفلام الروائية حتى عام 1939.
“في شوارع إسطنبول”.. فيلم ناجح يدفع لبناء أول أستوديو أفلام
في العام 1931 أنتجت شركة “إيبيك فيلم” فيلمها “في شوارع إسطنبول” (In The Streets of Istanbul) الذي أخرجه “محسن أرطغرل”، ويروي الفيلم قصة أخوين وقعا في حب مغنية تحترف الغناء في الملاهي، وقد أنفق أحدهما -وهو موظف في بنك- أموال المصرف على حبيبته المغنية، قبل أن تكشف الشرطة سرقته، وتدخل العائلة في دوامة من الديون الكبيرة.
حاز الفيلم على اهتمام الجمهور في تركيا، خاصة أنه فيلم ناطق، ودفع نجاحه “أرطغرل” إلى تشجيع شركة “إيبيك فيلم” على بناء أستوديو أفلام، واستجابت الشركة، وجهزت الأستوديو بأحدث التقنيات في تلك الفترة.
يقول الباحث التركي “صادق بتال” في كتاب نقدي للسينما التركية بعنوان “أصل السينما يبدأ الآن”: يمكن القول إن محسن أرطغرل لم ينقل إحساسا سينمائيا في السينما التركية، لقد حلت السينما محل المسرح. لذلك لم يوفر فرصا لتطوير لغة الفيلم، وعمل “أرطغرل” مع أشخاص لا يملكون خبرة في صناعة الأفلام، وبالتالي لم يظهر الفرق بين السينما والمسرح في زمنه.
وقد دام تأثير “أرطغرل” المسرحي على من بعده من السينمائيين فترة طويلة، فكانت تركته الثقيلة تبطئ مسار السينما التركية. يقول الباحث “صادق بتال”: لم يفشل هؤلاء الفنانون المسرحيون في تقديم مساهمة بناءة في التصوير السينمائي فحسب، بل نقلوا أيضا جانبا كبيرا من تقاليد المسرح إلى حياتهم المهنية في مجال السينما، ولم تؤثر هذه الطريقة في سينما ذلك الوقت فقط، بل أثرت أيضا على السينما التركية في الأوقات التي تلت ذلك، فلم يكن المخرجون صانعي أفلام، لكنهم سعوا وراء تراث “أرطغرل”، وهو الفيلم المسرحي. لذلك لعبوا دورا سلبيا في تاريخ السينما التركية.
لجنة الرقابة.. سينما منخفضة الجودة تحت عباءة الدولة
يرجع الباحث “ليفنت يلزاموك” بدائية السينما التركية حتى وقت متأخر من تاريخ نشأتها إلى الوضع السياسي الذي عاشته تركيا طيلة عقود في منتصف القرن العشرين، رغم أن “مصطفى كمال أتاتورك” شجع العاملين في صناعة السينما، لكن في مواضيع حرب الاستقلال. ويقول “يلزاموك” إنه لم يكن هناك تشجيع على الاستثمار في صناعة الأفلام في السنوات الأولى للجمهورية التركية على عكس الفنون الأخرى.
في المقابل، دخلت اللائحةُ المتعلقة بالتحكم في الأفلام والمخطوطات السينمائية والمعروفة بشكل غير رسمي باسم “قانون الرقابة”؛ حيّزَ التنفيذ في العام 1939، وذلك من أجل ضمان تحكم الحكومة في الأفلام فيما يتعلق بالدعاية السياسية، وشكلت “اللجنة المركزية للرقابة على الأفلام” لذلك الغرض، فلم يكن يُسمح بالدعاية لأي فكرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تعارض النظام الوطني، أو قد تكون خطرة على أمن البلاد، كما لا يجوز أن يحتوي الفيلم على مشاهد قد تكون وسيلة دعاية ضد تركيا.
فقد عملت الدولة التركية آنذاك على تسويق وجهة نظر قائمة على مفهوم الأمة المتجانسة، وخالية من الصراع الطبقي. يقول “ليفنت يلزاموك” إن قانون الرقابة اشتُق من قانون العقوبات الإيطالي الذي وضعه “موسوليني”.
وقد أثر قانون الرقابة على جودة الأفلام التي أنتجت في فترة أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، ويقول الباحث “جلال حايير” في بحث له بعنوان “السينما التركية بين بدايتها وسقوطها.. لمحة تاريخية”: حتى ذلك الوقت لم تسجل أي تطورات مهمة في قطاع السينما في تركيا، كانت المنتجات السينمائية خلال هذه الفترة تفتقر إلى الجودة أيضا. في عام 1939، جذب قطاع السينما فاعلين جددا، وانتهت فترة سيطرة الرجل الواحد، وهو “محسن أرطغرل”، وبدأ الإقبال أكبر على إنتاج الأفلام، خاصة مع التغير السياسي آنذاك.
“فاروق كينش”.. عصر جديد يكسر احتكار الرجل الأول
في العام 1939، انتهى احتكار “محسن أرطغرل” في الإخراج بدخول المخرج “فاروق كينش” إلى عالم السينما بفيلمه الأول “قطعة من حجر” (Stone Piece)، وفي العام 1943 أخرج فيلمه “بينار المضطربة” (Troubled Pinar)، وقد رفضت شركات الإنتاج التي تتعامل مع “أرطغرل” احتضان الفيلم، واضطر “كينش” إلى تصويره من دون صوت، ثم تركيب الصوت في الأستوديو بعد ذلك. ومنذ ذلك الحين استُعملت هذه التقنية من قبل مخرجين آخرين، بسبب انخفاض تكاليف الإنتاج.

يقول الباحث “ليفنت يلزاموك”: أصبح هذا الانخفاض في تكاليف الإنتاج أحد أسباب زيادة عدد المنتجين. وفي المقابل، تأثرت الجودة الفنية للأفلام، واستُخدم الممثلون المسرحيون لدبلجة العمل الصوتي، وأصبح التمثيل المرئي (أي لغة الجسد والإيماءات وتعبيرات الوجه) مصطنعا بشكل متزايد. أفسح التسجيل الخارجي للصوت المجال أمام الكليشيهات، وقيد نطاق الممثل، وبدأت العروض من فيلم إلى آخر يشبه بعضها بعضا.
وقد شهد النصف الثاني من الأربعينيات زيادة في عدد المنتجين والمخرجين والأفلام، وارتفع المتوسط السنوي لإنتاج الأفلام الطويلة في البلاد، وكبرت موجة المخرجين والمنتجين الجدد، لكنها في المقابل كانت منقسمة إلى شقين، الأول شق المخرجين القادمين من مسرح “أرطغرل”، والثاني أولئك الذين درسوا السينما والتصوير خارج تركيا، وهو ما سمح بخلق سينما تركية جديدة في بداية الخمسينيات.
“باسم القانون”.. بداية عصر سينمائي ذي طابع وطني خاص
شهدت السينما التركية في النصف الثاني من القرن العشرين تشكلها الوطني والفني الواضح بحزمة من الأفلام البارزة، مثل فيلم “باسم القانون” (kanun Namina) الذي أخرجه “لطفي عقاد” في العام 1952، وفيلم “المنديل الأبيض” (Beyaz mendil) الذي أخرجه نفس المخرج في العام 1955، وفيلم “إفسوس الجبال التسعة” (Dokuz Dagin efesi) للمخرج “متين إركسان” في العام 1958.
يعتبر المخرج “متين إركسان” أكثر المخرجين إبداعا، ورائدا في تاريخ السينما التركية، فكان فيلمه “خلف الليل” (Gecelerin Otesi) الذي أخرجه في العام 1960 أول فيلم واقعي اجتماعي.
يناقش “خلف الليل” عواقب عدم المساواة التي تسبب فيها الأثرياء الذين تدعمهم الحكومة آنذاك، وتعرض فيلماه “انتقام الأفاعي” (Yilanlarin öcu)، و”صيف جاف” (Dry Summer) إلى مشاكل مع الرقابة، رغم أن فيلم “صيف جاف” حصد جائزة الدب الذهبي في برلين.
حقبة الستينيات.. نهضة تبلغ ذروة الإنتاج السينمائي
ارتفع متوسط الإنتاج السنوي للأفلام إلى أربعة وخمسين فيلما في الفترة ما بين العامين 1950-1959، وتنوعت قصص الأفلام.
يقول “ليفنت يلزاموك”: في خمسينيات القرن الماضي بدأ صانعو الأفلام الابتكار في مجالين محددين من السرد السينمائي، كان أحدهما في حركة الكاميرا. ففي أفلام المخرجين الذين ما زالوا تحت تأثير المسرح، كانت الكاميرا ثابتة، ولم يتغير موقعها وزاويتها. ثانيا، بدأ صانعو الأفلام في الاستفادة من تقنيات التركيب الأكثر إبداعا.
وقد وصل الإنتاج السينمائي إلى أعلى مستوياته في الستينيات والسبعينيات، وبلغ المتوسط السنوي 193 فيلما في الفترة ما بين 1960-1974، وبلغ ذروته في عام 1966، وهو العام الذي أطلق فيه 238 فيلما، وارتفع هذا الرقم بحلول عام 1972 إلى 300 فيلم.
يقول الكاتب “صادق بتال” في كتابه “أصل السينما يبدأ الآن”: شهدت السينما التركية التقليدية تغييرا في السبعينيات، وبدأت الإنتاجات في تشكيل السينما التركية، وكان مهندس هذا التغيير بلا شك “يلماز غوني”، إضافة إلى أفلام مميزة للمخرج “لطفي عقاد”.
انقلاب الثمانين.. تلاشي هيمنة الشركات ونهضة جيل الشباب
في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول من سنة 1980، وصل الجيش التركي إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري، وكان ذلك الانقلاب نقطة تحول في تركيا في كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي تلك الفترة انتهى الدور المهيمن لشركات الإنتاج التي هيمنت على صناعة السينما في تركيا طيلة ثلاثة عقود.
يقول الباحث “جلال حايير” في دراسته “السينما التركية بين بدايتها وسقوطها.. لمحة تاريخية”: حرر المخرجون أنفسهم في تلك الفترة من إنتاج الأفلام حسب الطلب، وتمكنوا أخيرا من إنتاج أفلامهم الخاصة. ومع هذا التطور، تلاشى الشكل السردي التقليدي لهوليود التركية ببطء، فقد حاول المخرجون والكتاب الشبان من خلال الروايات الرمزية والجمالية تطوير لغتهم السينمائية. لذلك أنتجوا أعمالا متباينة إلى حد ما.
وكان أبرز هذه الوجوه الجديدة في الإخراج السينمائي “أورهان أوغوز” و”بشار سابونكو”. يقول الباحث “جلال حايير”: أدى البحث عن طرق جديدة إلى إنتاج أفلام تتناول هوية وتطلعات الأفراد، وتناقش بجدية مكانة المرأة في المجتمع والنظام السياسي والانقلاب العسكري، كما حاولت هذه الأفلام شرح الأضرار التي سببها الانقلاب العسكري للمجتمع كما في الفترات السابقة.
حقبة الألفين.. انتفاضة تقلب الصناعة وتحصد الجوائز
في بداية الألفينيات انتفضت السينما التركية مرة أخرى من رمادها بعد ركود تسبب فيه الوضع السياسي المتقلب في تركيا، وشهدت انتعاشتها من جديد بأفلام أكثر جودة خاصة بعد أن فاز فيلم “بعيد” (Uzak) للمخرج “نوري بيلغى جيلان” في العام 2002 بالجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي.
أينعت إنتاجات السينما التركية من جديد، وفي العام 2004 حصد فيلم “وجها لوجه” (Gegen die Wand) للمخرج “فتيح أكين” جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين، وهي الجائزة نفسها التي نالها فيلم “عسل” (Bal) الذي أخرجه “سميح كابلان أوغلو” عام 2010.
وبعد عام من ذلك التتويج للسينما التركية، فاز فيلم “حدث ذات مرة في الأناضول” (Bir Zamanlar Anadolu’da) للمخرج “نوري بيلجى جيلان” بجائزة التحكيم الكبرى لمهرجان كان، وتتالت تتويجات السينما التركية، حتى كادت اليوم أن تصبح مدرسة قائمة الذات ومتفردة.