“شيفالييه”.. فارس موسيقي يتخطى الحواجز العرقية في المملكة الفرنسية

يُثَبت المخرج الكندي “ستيفن ويليامز” اسم الموسيقي “شيفالييه” (Chevalier) عنوانا لفيلمه، وقد استعمله من دون ألقاب أو إضافات للتشديد أكثر على هذا الاسم، على الرغم من محاولة العنصرية الفرنسية محوه من تاريخ ثقافتها الموسيقية، بسبب لون بشرته السوداء وأصل والدته الأفريقي، بالإضافة إلى وقوفه بجانب الثورة الفرنسية وحصوله على لقب “فارس”.
أثار ذلك حفيظة وغيرة الأوساط المقربة من الملكة “ماري أنتوانيت”، فقد كانت تدعمه في بادئ الأمر وتثق بعبقريته الموسيقية، لكنها تخلت عنه عندما اقتربت رياح الثورة الفرنسية من قصرها، ووقفت إلى جانب أوساط فنية قريبة منها ترغب في التخلص من وجوده بأي ثمن، بسبب تمثيله لأفكار شكلت تحديا لأفكارها، وأفشلت قناعاتها العنصرية التي تحصر المواهب والعبقريات الفنية بها وحدها.
ليلة “موزارت”.. مبارزة موسيقية على مسرح النخبة
يستمد الفيلم قصته من سيرة الموسيقي “جوزيف بولون شيفالييه دي سان جورج”، وقد حاول كاتب نصه “ستيفاني روبنسون” إضفاء جوانب خيالية على مقاطع منها، فركز أكثر على فترة شبابه التي قضاها في باريس، حيث تجلت موهبته كمؤلف موسيقي وشاعر وعازف كمان بارع، إلى جانب كونه فارسا يجيد المبارزة بالسيف.
أما طفولته فقد انحرفت عن مسارها في مستعمرة غوادلوب الفرنسية، ويعود إليها من خلال ذكرياته البعيدة عنها ومن ارتباطه بوالدته “نانون” (الممثلة رونكي أديكولويجو) التي عانت كثيرا، بسبب عيشها كمستعبَدة في إقطاعيات الفرنسي “جورج دي بولون”، فأنجبت منه ولدها غير الشرعي “جوزيف شيفالييه” عام 1799.
يصبح “جوزيف شيفالييه” واحدا من ألمع الموسيقيين الكلاسيكيين، وبسبب موهبته وقوة شخصيته يقترح المخرج مشهدا افتتاحيا متخيلا يجمع فيه “شيفالييه” (الممثل كيلفن هاريسون جونيور) مع الموسيقي العبقري “موزارت” على خشبة مسرح يقدم فوقها مقاطع من سيمفونياته للنخب الفرنسية الراقية، وكان يعزف بنفسه على آلة الكمان.
بعد انتهاء “موزارت” من إحدى معزوفاته، دعا الجمهور -تثمينا لحضورهم- لاختيار المقاطع التي يودون سماعها، فيخرج دون تمهيد من بين الصفوف شابٌ أسود البشرة يرتدي ملابس أنيقة، ويقترح عليه عزف مقطع كمان من معزوفته الخامسة، فيصعد إلى المسرح وسط استهزاء “موزارت” به ويطلب المشاركة في تقديمها، وما إن يبدأ الشاب بالعزف حتى تتحول خشبة المسرح إلى ساحة مبارزة موسيقية بين الاثنين، وتنتهي بإعجاب الحضور وانبهارهم بروعة أداء العازف المجهول.
أكاديمية “لابوسيه”.. بوابة ولوج الفارس إلى عالم الفن
بعد ذلك المشهد المتخيل، ينتقل الفيلم عبر تقنية الاسترجاع إلى اللحظة التي وصل فيها الصبي “شيفالييه” من مستعمرة غوادلوب وهو ابن 13 إلى أكاديمية “لابوسيه” الخاصة في باريس برفقة والده، وعلى الرغم من ثراء أبيه وأصوله الفرنسية، فقد رفض مديرها قبول الصبي طالبا فيها، لأنه أسود ولقيط.

يتراجع المدير عن موقفه ويوافق على قبوله، بعد سماعه للصبي وهو يعزف بمهارة لافتة مقاطع موسيقية صعبة على آلة الكمان، ومن تلك اللحظة يدخل “شيفالييه” عالم الموسيقى من أوسع أبوابه، وبعد سنوات قليلة من تخرجه يدخل القصور الفاخرة ليعزف فيها، كما يقدم حفلاته على مسارح باريس المعروفة.
يتعرف في إحدى حفلاته على الملكة “ماري أنتوانيت” (الممثلة لوسي بوينتون)، حين حضرت سباقا له في المبارزة بالسيف، وقد فاز فيها، فمنحته لقب “فارس” وسط استغراب الحضور، ثم شاع اسمه بسرعة والتفّت حوله نساء الطبقة المرموقة، فوقع في حب “ماري جوزفين” (الممثلة سامارا ويفينغ) المتزوجة من الجنرال “ماركوس مونتالامبير” (الممثل مارتون سوكاس) حامي القصر، وهو طاغية لا يخفي عنصريته وكراهيته للفن، على عكس زوجته مغنية الأوبرا الرقيقة، فقد كانت تعاني من سوء علاقتها به لشدة قسوته وفظاظته.
وصول الأم.. مأزق الابن المنغمس في المخملية
تأخذ علاقة الحب بين “شيفالييه” و”ماري جوزفين” مساحة جيدة من مسار الفيلم، ثم تتشعب وتتعقد عبرها علاقات “شيفالييه” بالوسط الذي يعيش فيه، وتتأزم أكثر في لحظة عرضه على الملكة أن يتولى مسؤولية أوبرا باريس، لكن في الوقت نفسه شاعت أخبار عن ترشيح موسيقي نمساوي للمنصب.
تزيل الملكة الحرج في الاختيار بينهما، فتقترح إجراء مسابقة يقدم فيها كلاهما عملا موسيقيا، وتحكم لجنة تحكيم خاصة على الأفضل بالفوز، وعلى ضوء حكمها يتولى الفائز المنصب المقترح، يكتب “شيفالييه” نص وألحان أوبرا بعنوان “دايرستن”، ويقترح على عشيقته “جوزفين” لعب الدور الرئيس فيه.

في الوقت نفسه يرد خبر وصول الأم إلى باريس بعد وفاة زوجها ونيل حريتها عقب سنوات طويلة من العبودية، لكن العلاقة بينها وبين ابنها تبدو فاترة لابتعادهما عن بعضهما زمنا طويلا، ولانغماسه الكلي بالمجتمع المخملي، فكان يجد حرجا في وجودها وسطه، لكنها صبرت على سلوكه.
بوادر الثورة.. تعاطف مع مطالب الشعب الجائع
في تلك الفترة التي كان فيها “شيفالييه” منشغلا بمسابقته وحبه، صارت والدته تتقرب أكثر من السود الفقراء من أبناء جلدتها الذين تتشابه أحوال عيشهم مع بؤس عيش فقراء فرنسا الذين بدأوا بالتذمر من حالهم والإعلان صراحة عن رغبتهم في التخلص من الملكة وحاشيتها.
لم يكن “شيفالييه” يعرف شيئا عما يجري في الشارع، لكن صديقه الوحيد “فيليب” (الممثل أليكس فيتزالان) باح له بما يقوم به من نشاط سياسي وتواصل مع الجماهير، على الرغم من انتمائه للطبقة الفرنسية الغنية، فتشجع “شيفالييه” للتعرف عليها من قرب.
يحضر برفقة صديقه اجتماعات جماهيرية، ويسمع خلالها لأول مرة مطالب الشعب الجائع، فيتعاطف معهم تدريجيا ويتحمس للوقوف إلى جانبهم، وفي المقابل كان سلوك الجنرال الكاره له ولكل ما له صلة بالثورة يزداد عنفا، فقد كانت علامات انبثاق الثورة تتجلى في شوارع باريس وأزقتها، ولنقل مشهدها على الشاشة يعمل النص السينمائي بأسلوب كلاسيكي للإحاطة بتفاصيلها بما يتوافق مع وقائعها التاريخية.
دعم الأم.. جسر يتجاوز مستنقعات العنصرية
تسحب الملكة الحكم المقترح من لجنة التحكيم التي منحت الأفضلية للعمل الذي قدمه “شيفالييه”، بناء على عريضة قدمتها لها أشهر ثلاث مغنيات أوبرا، يعلنّ فيها رفضهن المطلق لفكرة منح زنجي مركزا ثقافيا مرموقا، ويرين أن ذلك أجدر بالفرنسيين الأقحاح.

تتضح عنصرية الطبقة الفرنسية الحاكمة وانتهازية الملكة التي أرادت عشية انطلاق الثورة الفرنسية كسب ود المحيطين بها، على حساب موسيقي تعاملت معه لحظتها كزنجي لا كفرنسي، كما كانت تشدد على تلك الصفة يوم كان قريبا منها، فأثار هذا الأمر غضب “شيفالييه” ودفعه لتوجيه الإهانات لها، فلم تسكت عنها ودفعت قائد قواتها للانتقام منه.
توالت المصائب على الموسيقي المصدوم بموقف الملكة وحاشيتها، وازداد سوءا بعد مقاطعة عشيقته له خوفا من انتقام زوجها، وأعلنت كذبا أن الجنين الذي تحمله في بطنها هو من زوجها لا منه. وهو في أشد تأزمه يصل إليه خبر وفاة والده الذي قرر في وصيته حرمانه من الإرث، لكونه ابنا غير شرعي، ثم يصله خبر قتل الجنرال لطفله من عشيقته لسواد بشرته.
تدفع كل تلك الأخبار “شيفالييه” للقنوط والانسحاب، لكن والدته رفضت رؤيته مهزوما، فشجعته على النهوض والمشاركة في الثورة القادمة، فيؤلف لحنا موسيقيا يبشر بمَقدمِها، ويخصص مردود الحفل المادي الذي قدمه فيه لدعم الثوار، ثم يقتحم الجيش الحفل، فيخرج “شيفالييه” شامخا متحديا نظرات الملكة المتشفية، ليعلن من خلاله وبشجاعة وقوفه إلى جانب الثوار ضدها وضد كل أشكال التمييز العنصري السائد في عصرها.
نظام العبودية.. محاولة فاشلة لطمس الفارس من سجل العباقرة
حاول الحكام المتغطرسون إزالة اسم “شيفالييه” من سجل الفنانين العباقرة، بسبب مواقفه المؤيدة للثورة واحتقاره للملكة، لكنهم فشلوا في ذلك، ولتأكيد فشلهم يعرض الفيلم الجميل بكلمات موجزة تظهر على الشاشة، مشاركةَ “شيفالييه” المُشرِّفة في الثورة الفرنسية، وإنصاف التاريخ له على الرغم من إرادة العنصريين ولو بعد حين.

خرج الشعب الفرنسي في ثورة عارمة ضد الملكة “ماري أنتوانيت” والنظام الملكي عام 1789، وقاد “شيفالييه” خلالها أول فوج عسكري مؤلف من السود بالكامل، وفي عام 1802أعاد “نابليون بونابرت” نظام العبودية في المستعمرات الفرنسية ثانية، وأمر بحظر المؤلفات الموسيقية لـ”جوزيف شيفالييه”.
وبسبب هذا القرار الجائر أتلف الكثير من أعماله وصار اسمه طي النسيان، لكن مع مرور الوقت وبفضل النخب الفرنسية المثقفة والموسيقيين النزهاء، أُحيي اسمه وأعماله التي جعلته واحدا من طلائع الملحنين والموسيقيين الكلاسيكيين السود في العالم.