في مديح الفاكهة.. إلهام عذب يحتل القصائد الغنائية والأهازيج الشعبية

لا تنفصل الأغاني عن الحياة

من هنا وجدت الأغاني في الزهور والفواكه والأغذية مادة ثرية، للتغني بها والحديث عنها عبر العصور. والفواكه تحديدا لها طعم محفوظ تحت ألسنة الذواقة، يثير شهية الشعراء والملحنين للتأليف والحديث عنها.

ويُفرِّق الأديب يحيى حقي[1] بين نداءات باعة الملوخية والفاصولياء واللوبياء والباذنجان والبصل والثوم والكراث والترمس والجرجير والبطاطا والطماطم والنبق والتوت والجميز والمشمش والعنب والتين. ويرى أن هذه النداءات هي حاصلة مصر الآلية من نداءات منقوشة على الحجر، أما المستحدثة منها الجوافة والمانجا والفراولة، فإنها لم تجد الملحن العبقري المجهول الذي يسلكها في الخالدين، فالنداءات عليها أشبه بصفحة مكتوبة بأسلوب تقريري، وسط كتاب يتلألأ بأسلوب فني يصافح الشعر.

يحيى حقي في زيارة إلى سوق الخضراوات

أما د. علي الراعي، فهو يقرر من واقع تجربته أن بعض هذه الأصوات ما زال موجودا، فهو يقول: في شارعنا رجل فخم الصوت، يصلح للغناء الأوبرالي، يبيع النعناع الأخضر، وينادي عليه بصوت مهيب “يا أبو الروايح يا نعناع”. ثم يصمت قليلا ويقول “بلدي”[2].

إلهام الفاكهة.. أثر في الغناء والشعر عبر التاريخ

في لقاء إذاعي للشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز مع عدد من طلاب الجامعة في الإسكندرية في يناير/ كانون الثاني 1974 في برنامج “بين جيلين” الذي قدّمه الإذاعي خميس الجيار، طُرح على عزيز سؤال حول استفادته من نداءات باعة الفاكهة المغناة.

فقال إنه استفاد منها بلا شك لأنه بشر، وضرب مثلا بنداء لفاكهة المشمش يقول: لما دخلت الجنينة عيط الياسمين، والسيسبان اختشى، والورد قال ده مين، قالت عنيبة افتحي له ده الغريب مسكين.

الناقد علي الراعي تناول العلاقة بين الغناء والفواكه والخضراوات

وقال إن تلك النداءات وغيرها من التراث الشعبي أثّرت فيه وفي غيره من شعراء الأغنية، بل في شعراء اللغة العربية الرسمية عبر تاريخها الممتد. وقال عزيز إن أغنية “توب الفرح يا توب” للمطربة أحلام، هي مأخوذة من إيقاع شعبي لنداء “توم الخزين يا توم”.

أغاني الورد.. رائحة تعبق بها أهازيج العاشقين

خلال أزمان ممتدة، ظل العشاق يتخاطبون ويتبادلون المشاعر عن طريق الورد، فها هو المطرب محمد عبد المطلب يشترط على طالب الحُب أن يتعامل مع الورد كي يجيد الغزل، فينشد: “شوف الورود واتعلم.. بين الحبايب تعرف تتكلم”.

ولا يقتصر حضور الورد في هذه الأغاني على الجانب المبهج، فالورد يحضر في الحُبِّ الحزين أيضا، ومن أشهر الأغاني “ليه يا بنفسج بتبهج وانتَ زهر حزين؟”، وهي للمطرب صالح عبد الحي، وقد مات من غير أن يعلم أن ميادة الحناوي غنت أغنيته هذه، فلم يعد يذكره أحد.

مرسي جميل عزيز.. تأثر بنداءات الباعة في كلمات أغانيه

وبما أننا نتحدّث عن التغني بالورد، فيجب أن نذكر محمد عبد الوهاب الشهير بغنائه للورد، ولعل أشهر أغنياته في هذا المجال “يا وردة الحب الصافي”. أما أغنيته “يا ورد من يشتريك وللحبيب يهديك” فيعرض فيها الورد على العشاق ليتهادوه، ولا ينسى أن يغني لأشواك الورد “علشان الشوك اللي في الورد بحب الورد».

وأما نجاة الصغيرة فتتطرق إلى المفارقة في علاقة الحُبِّ بالورد بصوتها العذب فتنشد: “ياما جرح الورد أيادي حتى الجناينية”. ولكن فريد الأطرش توسع في غزله النباتي ليشمل الأشجار أيضا، لهذا أتت أغنيته صالحة للدبكة، فقد صدح بصوته القوي: “لكتب ع وراق الشجر سافر حبيبي وهجر”.

أغاني الفاكهة.. تعبير عن النمط الاستهلاكي في الحب

استعانت الأغنية العربية بالفواكه أيضا، ربما لأنها أكثر تعبيرا عن النمط الاستهلاكي في الحُب، فهي قابلة للتذوق بالفم، والفم ذو دور أساسي في الحُب والغزل.

ففي حدود الثلاثينيات، أدت رتيبة أحمد ومعها إبراهيم فوزي أغنية تصف حالة امرأة تبيع الذرة المشوية، وتقول كلماتها: “يا شوي العصاري يا درة، يا أكل الملوك والأمرا، الحزمة بمليم يا درة”. ثم تمضي الأغنية فتقول البائعة: “الله على الدرة وعليه، شوي النهارده العصرية، الحزمة بمليم يا درة”.

وهذه أغنية عن الياسمين لحّنها زكي مراد، تبدأ هكذا: “يا بنت يا بتاعة الياسمين، ح تبيعي ياسمينك على مين؟” وترد البائعة: “ياسميني مخصوص يا عينيّا، لأجل الذوات والأفندية، عندي صُحَب بالتنتلة، وورد ياسمين وفلة، حلفت بالدين والملة، ما يشتريها إلا الحلوين”. ثم تنتهي الأغنية بنصيحة تقدّمها البائعة للمشتري: “صدق وآمن بالذمة، لو اشتريت مني حزمة، وأخدت لك منها شمة، تبطلك شم الكوكايين”.

وتتغنى منيرة المهدية أيضا في طقطوقة: “صابحة الزبدة بلدي الزبدة، فاطمة التيني أم الشيمي، جوزها بلبدة، بيبيع زبدة، مش عيب يا صباح، عيشة الفلاح، دا بمحراته ورا مراته، على عيشته تساعده، وتصون عرضه”. وقد كتب كلمات هذه الطقطوقة محمد يونس القاضي، ولحَّنها سيد درويش، وهي من ألحان عام 1920.

ولحَّن الموسيقار داود حسني أغنيات كثيرة في مدح الفواكه، منها: “زغلول يا نونو يا بلح م العال، أهواك مسكر وأتقلك بالمال”، ومنها: “يا خوخ يا ناعم يا بو الخدين، لونك يعجبني يا نور العين”، ومنها: “يا حلاوة التوت وشرباته”[3].

سحر الزهور.. غناء يقتحم عالم السينما والإذاعة

في الأربعينيات، ظلت الأغنيات ذات التوجه الشعبي تنتسب انتسابا واضحا للمجتمع. وكان من أبرز فناني هذه الحقبة عبد العزيز محمود، وقد أدى أغنية في مدح البلح، تقول كلماتها: “يا نخل بلحك بينقط سمن وسكر، والريف بيفرح ويزأطط لما تبدَّر، حياتي يا بلح، زغلول يا رطب عيشه وشهد مكرر”.

من أغاني شادية المعروفة (وادحرج واجري يا رمان) و(عنب بلدنا)

وبفضل الإذاعة، كان الموسيقار علي فراج يقدّم أغنياته الجميلة عن الورد وبقية الزهور، مستغلا صوتا مُعبِّرا ظهر حينذاك وأعطى الفرصة للوصول إلى الناس، ألا وهو صوت الفنانة شادية. فمن أغاني شادية المعروفة “وادحرج واجري يا رمان”، و”عنب بلدنا”.

وقد انتقلت ظاهرة التغني بالزهور إلى الأفلام، فقد لحَّن عبد الوهاب وغنى عن ألوان الورد المختلفة في أغنية كتبها بشار الخوري، وغنت ليلى مراد: “مين يشتري الورد مني”. وغنت أم كلثوم أغنية “الورد جميل” من كلمات بيرم التونسي، وألحان زكريا أحمد عام 1964.

ثم جاء متقال قناوي فغنى بلهجته الصعيدية الثقيلة “الفراولة بتاع الفراولة، أقرب اشترى مني أولى” عام 1975. ولم يخرج العنب بصوت واحد فقط، بل ظهر مرة أخرى على الساحة مع المطرب سعد الصغير وطريقة أخرى لعرض العنب.

أما المطرب محمود العسيلي، فتقول كلمات أغنيته “في شهر 6”: “صباحك بطيخ على موز واقع في عيونك الجوز، على البحر في شهر ستة، ببص يمين لقيتها كل الحلوين في حتة، وحبيبي لوحده حتة، في جمالها فيراري عدى، شوفت الباقيين كارتة، عصير يا ناس في قلبي يتجاب من غير روشتة”.

ناظم الغزالي.. موّال عراقي فصيح يتغنى بالفاكهة

غنى المطرب العراقي ناظم الغزالي للتوت والرمان والعنب معا في شكل جديد للأغنية، ما بين موال وجملة موسيقية متكرّرة، بتناوب مستمر، وهي من أشعار حافظ جميل، ومن أبياتها:

ناظم الغزالي غنى للتوت والرمان والعنب

يا تينُ يا توتُ يا رمانُ يا عنبُ
يا خَيرَ ما أجْنَت الأغصانُ والكُثـُبُ

يا مشتهَى كلِّ نفسٍ مسَّها السَّغَب
يـا بُـرْءَ كلِّ فؤادٍ شبَّـهُ الوَصَبُ

***

يا تينُ سَقيًا لِزاهي فَرعك الخَضِلِ
يـا وارفَ الظلِّ بينَ الجِـيدِ والمُقَلِ

هفَـا لكَ التوتُ فاغمُر فـاهُ بالقُبَـلِ
فالكَـرْمُ نشوانُ والرمـَّانُ في شُغُـلِ”.

المشمش.. فاكهة ذات حظ قليل

إذا كان الموسم موسم المشمش، راح البائع الفنان يغني له: “المشمش استوى وطاب وطلب الأكالة يا حموي يا ناعم” أو هكذا: “الله عليك ياللي الهوى هزك ورماك يا مشمش، وجعلك شربات يا حموي يا ناعم”.

ولأن المشمش حظه قليل، فقد غنت له فردوس عبد الحميد من كلمات أحمد فؤاد نجم، وألحان فاروق الشرنوبي، في مسلسل “أنا وانتَ وبابا في المشمش”، من إخراج محمد فاضل (1989).

ويحضر المشمش أيضا في الأغنية الحديثة، بوصفه لذيذ الطعم كالحبيبة، وهذه الحبيبة يبدو أن لها مواسم مثل المشمش، فكلمات الأغنية تقول من غير مواربة: “حُبّك مشمشة، خلاني ومشى”.

أسطوانة ارتجالية احتلتها نداءات الباعة

نشرت مجلة “الجيل” عام 1955، خبرا حول طبع إحدى شركات الأسطوانات أسطوانةً واحدة على سبيل الدعاية، يشترك فيها مجموعة من الفنانين، ولم تكن هناك أغنية معدة، بل طلب من الفنانين الارتجال بأي كلمات.

طلب رياض السنباطي أن يقلد بائع الخيار في ندائه، فراح يقول “يا الله عوض، يا خيار النيل، يا الله عوض، يا خيار يا طازة”.

وانطلق إبراهيم عفيفي، يغني ويقول “المشمش استوى وطاب، وطلب الأكال، يا حموي يا ناعم”.

وأما أحمد شريف، فقد غنى أنشودة “نبيّن زين”، يقول فيها “أعمل لك حجاب على ورق الخيار، أسهرك بالليل وأجننك بالنهار”.

منافسات الفاكهة.. صراع رمزي في الكلمات الغنائية

ظهر في الأسواق نوعان من الفاكهة في أغنية واحدة “رمان وتفاح”، ومع أنهما خسرا المقارنة مع جمال المرأة، فإنها أغنية كوكتيل فاخر، أعيد غناؤها أكثر من مرة، وقد قدّم عبد الغني السيد النسخة الأولى منها، ثم أداها أحمد عدوية، ثم غنتها المطربة حنان في ألبوم “حلوة” (1987)[4].

ثم يأتي الرمان في أغنية “من اللي زعلك يا رمانة”. وللمصداقية التاريخية نقول إن الأغنية الشعبية تغنت بالرمان قديما، مع تشبيهه بمواطن جمال المرأة.

وبطبيعة الحال لا بدَّ من الغناء للتفاح، ولكن الأغنية الحديثة تتناول التفاح بمعزل عن السيرورة التاريخية، فتكتفي بالقول “التفاحة، ما فيه غيرا بالساحة”. أما أغنية “تحت التفاحة” للمطرب فهد بلان، فهي بعيدة عن هذه الأجواء، ونذكرها من باب الشيء بالشيء يذكر، فتلك الأغنية تتحدَّث عن الحبيبة التي تجلس تحت شجرة التفاحة، وهذا يختلف عن تشبيه المرأة بالتفاحة إلى حد بعيد.

ودخلت المانجا في تحدّ كبير مع المشمش في لحن من الألحان الشعبية، فخسر المشمش وفازت المانجا بالضربة القاضية، في أغنية “الواد الجن يلي وسطك وسط كمنجة”، وغناها حسن الأسمر.

وقد جمعت ليلى نظمي بداية الثمانينيات بين المانجا والفراولة في أغنيتها الشهيرة “الدنيا حر”:

الدنيا حر، الدنيا حر، أنا عايزة أخرج أتهوا، تتهوي فين
عايزة مانجا، عايزة فراولة، رايحة أشرب حاجة حلوة، تيجي بيها منين
م الفكهاني والحلواني ومحل عصير فتحوا عشاني
قدامه جنينة وظلاية، أتمشى وأخويا معايا، أشرب وأجيبلك كباية

ومن كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام عيسى، جاءت أغنية “يا بلح أبريم” (1984) التي تقول:

يا بلح أبريم يا سمارة
سوّاك الهوى في العالي هويت
على طمي النيل يا سمارة
وشربت عكار لما استكفيت
بس احلويت قوي يا سمارة
لما اسمريت قوي يا سمارة
لفيت الشارع والحارة
على زي نقاوتك فين ما لقيت
يا سمارة”.

“نعناع الجنينة”.. ثورة زراعية على لسان محمد منير

غنى محمد منير أغنية “شجر الليمون” عام 1981، وهي من كلمات عبد الرحيم منصور، وألحان أحمد منيب، وتقول:

“كام عام، ومواسم عدوا، وشجر الليمون دبلان على أرضه، وفينك، بيني وبينك أحزان ويعدوا، بينى وبينك أيام وينقضوا، شجر الليمون دبلان على أرضه”.

محمد منير يغني لشجر الليمون

وفي ألبوم “في عشق البنات”، الذي صدر عام 2000، برزت أغنية محمد منير “نعناع الجنينة”. وهي من التراث القديم، وقد أعاد توزيعها أحمد منصور.

“فاكهة الحب”.. كاظم الساهر ينشر الرائحة في العالم العربي

عادت أغاني الفاكهة مرة أخرى إلى الساحة العربية في مطلع الألفية، فقد أطلق العراقي كاظم الساهر في يونيو/ حزيران 2013 أغنية تحمل عنوان “فاكهة الحُبّ”، وهي من أشعار نزار قباني وألحان كاظم نفسه.

ثم أصدر المغني اللبناني رامي عيّاش أغنية “يا تفاحة”، وهي من كلمات وألحان سليم عسّاف، توزيع جان ماري رياشي. وقال عياش إنه يسير بهذا المنحى على خطى الموسيقار فريد الأطرش وأغنيته “فوق غصنك يا لمونة”، متناسيا أن سعد الصغير قد سبقه بإطلاق أغنية “العنب” (غناها قبله عماد بعرور) التي عادت وكرَّت معها كل سبحة الفاكهة: من الليمون والتفاح وصولا إلى “الخيار الخيار الخيار..”، ويعد الخيار حائرا بين الفاكهة والخضراوات، وأحد أهم فاكهة الفقراء.

محمد عبد المطلب صاحب الصوت الطربي.. غنى للوردة

لكن الأبرز في هذا الإطار هو ما أطلق قبل سنوات في العراق، واحتل كل الإذاعات العربية، ونعني أغنية “البرتقالة” المتلألئة بالحسان اللواتي ما زالت صورتهن في الأذهان عربيّا، مع المغني العراقي الراحل علاء سعد.

يكتفي المغني بتشبيه محبوبته بالبرتقالة، ولعل الشبه بينهما يأتي من زاوية التدوير والتكوير، وتقول الأغنية: “البرتقالة.. يا معلقة وتزهين.. البرتقالة”.

ويستمر صوت الفاكهة مسموعـا في عالم الأغنية العربية.

 

المصادر:

[1] يحيى حقي، ناس في الظل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984.

[2] د.علي الراعي، عن الكاريكاتير والأغاني والإذاعة، كتاب الهلال، دار الهلال، القاهرة، يوليو 2004.

[3] حبيب زيدان، مجموعة الأغاني الشرقية القديمة والحديثة، مخزن الأسطوانات العربية والتركية، نيويورك، بدون تاريخ نشر.

[4] أيمن عبد الرحمن، أغاني أورجانيك… فواكه طبيعية، موقع «كسرة» الإلكتروني، 23 يناير 2015.


إعلان