سادة الكلمة الغنائية.. ثنائيات ذهبية في المسرح والسينما المصرية

لم تكن كلمات الحرفيين المتمرسين في تأليف الأغاني مجرد عنصر من عناصر الأغنية، بل بلغت مكانة رفيعة في عالم الغناء، فثمة ثنائيات ذهبية عربية ظهرت من رحم التعاون الفني بين صنّاع الكلمة والملحنين والمطربين وحتى الممثلين، فتركت هذه الثنائيات بصمة لا تنسى في ذاكرة كثيرين، وفي الوجدان الشعبي عموما.

بديع خيري ومأمون الشناوي وحسين السيد، ليسوا سوى نماذج وأمثلة ساطعة على تألق صنّاع الكلمة في عالم الفن والغناء، عبر كلماتهم الملهمة.

بديع خيري.. أستاذ وزجال ساخر تحت اسم مستعار

نشر بديع خيري أول أزجاله بالعامية المصرية في جرائد شتى، منها “المؤيد” و”مصر” و”الأفكار” وغيرها، متخذا اسما مستعارا هو “ابن النيل”، وربما يرجع ذلك لطبيعته الخجولة، وخوفه من مواجهة أقاربه وطلابه في ثوب زجال يميل للسخرية والنقد في بعض الأحيان، وكان يومئذ مدرسا للجغرافيا واللغة الإنجليزية.

بدأت موهبة بديع خيري تلفت إليه الأنظار، لكنه لم يتفرغ للفن والكتابة، بل ظل متواريا باسمه المستعار عن الأنظار، حتى كان لقاؤه الأول مع الممثل المسرحي نجيب الريحاني.

بديع خيري

أورد الريحاني في مذكراته،[1] أنه اختلف مع المؤلف المسرحي أمين صدقي خلافا ماديا شديدا، بعد نجاح عرضهما المشترك “حمار وحلاوة”، فأدى ذلك لانفصال شراكتهما الفنية، وبدأ البحث عن مؤلف بديل.

وقد ساقته رحلة البحث إلى رجل يدعى جورج شفتشي، عرض عليه مقطوعة زجلية يزعم أنه مؤلفها، لكن الريحاني لم يصدقه، وعلم من زميل آخر أن مؤلفا شابا يدعى بديع خيري هو صاحب تلك المقطوعة، فطلب لقاءه.

“أما حتة ورطة”.. عرض مبهر يفتح باب شراكة ناجحة

ثمة رواية أخرى عن ملابسات اللقاء الأول بينهما، وردت على لسان بديع خيري نفسه، تفيد بأن نجيب الريحاني كان يقيم في شقة صغيرة فوق مسرح “الإيجيبسيانة”، وكانت فرقة “نادي التمثيل العصري” -التي أسسها خيري مع بعض زملائه من الهواة- تعرض نصا لها لاقى نجاحا كبيرا بعنوان “أما حتة ورطة”، فحضر الريحاني العرض بدافع الفضول، وطلب لقاء المؤلف بعد أن أعجب بالنص، ويبدو أن بديع خيري لم يكن حاضرا تلك الليلة، لأنه لم يكن مشاركا في التمثيل.

حسين السيد

التقى الرجلان في مقهى صغير بوساطة من أحد الأصدقاء المشتركين، ثم بدأت بعد ذلك شراكة كبيرة وصداقة مستمرة بينهما، فأصبح الريحاني النافذة التي من خلالها قدّمت أشعار خيري على هيئة أغان واستعراضات ومونولوغات في كل أعمال الريحاني المسرحية، وكذلك أصبح هو المؤلف الأهم في مسيرة الريحاني، التي صنعت سطوته المسرحية، ومهّدت له عالم السينما فيما بعد.[2]

“ولو”.. تعاون ثلاثي يصنع آية مسرحية

كان التعاون الأول بين بديع خيري ونجيب الريحاني متمثلا في عرض مسرحي بعنوان “على كيفك”، وقد نال نجاحا كبيرا، ثم توالت الأعمال بينهما. وكان الضلع الثالث لهذه الشراكة الفنية هو الملحن والمغني سيد درويش، فقد شاركهما أول عمل مسرحي مشترك بعنوان “ولو”.

يقول الريحاني في مذكراته: ظل بديع يتحفني بأزجال من النوع الممتاز، فيلحنها سيد تلحينا شائقا، ومن ثم ظهرت رواية “ولو” للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي، تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب، ولست أجد وصفا وجيزا لنجاح “ولو”، غير أن أقول إنها جاءت آية وكفى.[3]

مأمون الشناوي

قدّم الثلاثي في عرض “ولو” عدة أغنيات ما زالت تتردد حتى الآن، منها أغنية “السقايين”، التي تقول كلماتها:

“يهون الله، ويعوض الله، عَ السقايين، دول شقيانين، متعفرتين”

كما أصبحت أغنية “الصنايعية” جزءا من الوجدان الجمعي، وتقول كلماتها:

الحلوة دي قامت تعجن في البدرية
والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية
يلا بينا على باب الله يا صنايعية
يجعل صباحك صباح الخير
يا أسطى عطية

فرسان المسرح والسينما

ربما تكون من أشهر الأغنيات التي قدمها بديع خيري مع سيد درويش هي أغنية “قوم يا مصري”، التي قدّمت في مسرحية “إش”، وهي من إخراج نجيب الريحاني وبطولته.

وقد كان الظهور الأول لنجيب الريحاني وبديع خيري معا في عالم السينما بفيلم “ياقوت” (1943)، الذي صوّر في فرنسا، وكان من بطولة الريحاني، وشارك فيه بديع خيري ممثلا بدور صغير، بجانب مشاركته في التأليف.

انطلق بديع خيري كاتبا للسينما ومؤلفا للأغاني، وشارك في عدد من الأفلام المهمة؛ منها:

  • سلامة في خير (1937).
  • أبو حلموس (1947).
  • غزل البنات (1949).

وغيرها من أفلام نجيب الريحاني.

مأمون الشناوي ومحمد عبد الوهاب.. تناغم الكلمة واللحن

تضافرت جهود الشاعر الغنائي مأمون الشناوي في الفن والصحافة، واجتمعت كل العوامل لتحمله في اتجاه بداية جديدة لمسيرته الفنية، فقد أخبره المحرر الفني بمجلة “آخر ساعة” أن الفنان محمد عبد الوهاب راغب بلقائه، بعد نجاحاته مع المطرب محمد صادق، وحدد ميعادا للقياه في أستوديو مصر.

اكتشف مأمون الشناوي أن عبد الوهاب استدعاه لأداء مهمة محددة، فطلب منه كتابة كلمات مناسبة، تصلح للحن كان قد أعده، وقد نجح الشناوي في المهمة الموكلة إليه، فكانت أغنية “أنت وعزولي وزماني”:

أنت وعزولي.. وزماني
حرام عليك.. دبلت زهور الأماني بين إيديك
تجرحني ليه.. وأنا كلي جراح
مسيري أنساك يوم وأرتاح”

كانت هذه الأغنية بداية انطلاق مأمون الشناوي عبر بوابة عبد الوهاب، في عالم رحب من الفن والإبداع، وقد طلب منه تأليف أغنيات أخرى على ألحان كان قد أعدها، منها “حبيبي الأسمر”، وهي أغنية افتتاحية لفيلم “حبيبي الأسمر” (1958)، من بطولة تحية كاريوكا، ويوسف وهبي، وسامية جمال، وشكري سرحان.

كتب الشناوي لعبد الوهاب أغنيات كثيرة، منها:

  • كل دا كان ليه.
  • من أد إيه كنا هنا.
  • إنسى الدنيا.
  • آه منك يا جارحني.

وغيرها من الأغاني.

ويمكن أن تلاحظ التناغم بين رهافة كلمات الشناوي وألحان عبد الوهاب في أغنية “كل دا كان ليه”:

كل دا كان ليه.. لما شفت عنيه
حن قلبي إليه.. وانشغلت عليه
قال لي كام كلمة.. يشبهوا النسمة.. في ليالي الصيف
سابني وفي قلبي.. شوق بيلعب بي.. وفي خيالي طيف
غاب عني بقاله يومين.. معرفش وحشني ليه
احترت أشوفه فين.. وإن شفته حأقوله إيه

مأمون الشناوي وفريد الأطرش

تعاون مأمون الشناوي مع الفنان فريد الأطرش، وأثمر هذا التعاون أغنية “أدي الربيع”، التي قدّمها فريد في فيلم “عفريتة هانم” من إخراج هنري بركات (1949). نجحت الأغنية نجاحا مدويا، وفتحت أبواب التاريخ لصناعها، فارتبط اسماهما للأبد بفصل الربيع وحفلاته المبهجة.

كان التعاون بين الشناوي وفريد الأطرش شديد العذوبة، فقد قدّم فريد من كلمات الشناوي أغنية “حبيب العمر”، التي غناها في فيلم يحمل هذا الاسم في عام 1947 من إخراج هنري بركات:

حبيب العمر حبيتك
وأخلصت في هواك عمري
لا يوم خنتك ولا نسيتك
ولا في يوم غبت عن فكري
حبيب قلبي ووجداني
ماليش غيرك حبيب تاني

تفاهم نفسي وفني يثمر ثروة غنائية

قدّم فريد الأطرش من كلمات مأمون الشناوي أغنيات منها:

  • بنادي عليك.
  • حكاية غرامي.
  • نجوم الليل.
  • تقول لأ.
  • حأفضل أحبك.

وغيرها من الأغاني.

يتضح من نوعية الأغنيات التي أبدعها فريد الأطرش من كلمات الشناوي، أن التفاهم بينهما كان نفسيا وفنيا في الوقت نفسه، فقد عبّر كلاهما عن لوعة الحب العدمي، الذي لا طائل من وراء عذابه سوى مزيد من العذاب، ولا عائد من تضحيته سوى مزيد من التضحية.

مأمون الشناوي وأم كلثوم.. تعاون يقطر عذوبة وألما

تعاون مأمون الشناوي تعاونا ناجحا مع أم كلثوم بدءا من عام 1961، فغنت من كلماته “أنساك يا سلام”، التي لحّنها بليغ حمدي:

أنساك دا كلام.. أنساك يا سلام
أهو دا اللي مش ممكن أبدا.. ولا أفكر فيه أبدا
دا مستحيل قلبي يميل.. ويحب يوم غيرك أبدا

كما قدّم لها “كل ليلة وكل يوم” و”بعيد عنك” ولحّنهما بليغ حمدي أيضا، وجاءت الكلمات شديدة العذوبة والرقة والمعاناة في الوقت نفسه:

كنت باشتاقلك.. وأنا وأنت هنا
بيني وبينك خطوتين
شوف بقينا إزاي
أنا فين يا حبيبي.. وأنت فين
والعمل.. إيه العمل
ما تقولي أعمل إيه.. والأمل
أنت الأمل تحرمني منك ليه؟

وفي عام 1970، كتب لها مأمون الشناوي “دارت الأيام” التي لحّنها محمد عبد الوهاب، وكانت التعاون الرابع والأخير بين مأمون وأم كلثوم.

“ثلاثي أضواء المسرح”.. شراكة مميزة مع الشاعر حسين السيد

صنع الشاعر الغنائي حسين السيد تاريخا فريدا من التعاون مع “ثلاثي أضواء المسرح” سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد.

فقد كتب كلمات أغاني فيلم “القاهرة في الليل” الذي أخرجه محمد سالم (1963)، وقد اشتهر فيه اسكتش “الراجل دا حيجنني” بين فؤاد المهندس وصباح، واستعراض “شالو ألدو جابو شاهين.. ألدو قال مانتوش لاعبين” للثلاثي الشاب.

ملصق اسكتش “الراجل دا حيجنني”

ولو أضفنا إلى معلوماتنا أن الشاعر الغنائي حسين السيد قدّم للثلاثي فوازير رمضان 8 مواسم، وأبدع لهم أشهر الإسكتشات الكوميدية والمونولوغات الغنائية التي صنعت شهرتهم مثل “كوتوموتو” و”كيوبيد للبيع”، لغلب على ظننا أننا أمام زجال متخصص في كتابة فن المونولوغ.

فهو يتقن التحرك بين مفرداته كما يشاء، وقتما يشاء، لصياغة الصور الكوميدية التي تأسر القلوب وتفجّر البسمة على الشفاه، كما فعل في مقطع من مونولوغ “بص شوف يا وعدي”، جاء على هيئة قصة قصيرة عن شاب طائش، أعجبته فتاة جميلة فقرر اللحاق بها إلى منزلها، وهناك فوجئ بزوجها ضخم الجثة، فعاقبه بطريقته.

بص
شوف
مين يا وعدي

شفت الحليوة راكبة تاكسي
عيونها راحت فاتحة نفسي
والحب قال يا حلو مسّي

ردت وقالت “بوناسيرا” روح
روح كلم بابي

أبوها راجل زي المارد
لابس فانلة بكم واحد

وعليه خدود منفوخة
زي البطيخ الصلحاوي

وودانه واحدة مسلوخة
والتانية زي الحصاوي

شنباته في بقه
وسنانه زي الحلزون
الواحد يقدر يلاعبهم ويدخل جون

حسين السيد ومحمد عبد الوهاب.. ثنائي سينمائي قوي

قرأ حسين السيد إعلانا في إحدى الصحف؛ أن شركة أفلام محمد عبد الوهاب تبحث عن وجوه جديدة، للمشاركة في فيلم “يوم سعيد” (1939)، وحين شعر أن أداءه أمام لجنة الاختبار لم ينل قبولا، اقترح على عضو اللجنة عبد الوارث عسر كتابة كلمات إحدى أغاني الفيلم.

ظل حسين السيد ساهرا حتى الصباح، يكتب كلمات الأغنية، لتتناسب دراميا مع التفاصيل التي شرحها له عبد الوهاب، فأبدع في النهاية أغنية “اجري اجري اجري”

اجري اجري اجري
وديني قوام وصّلني
دا حبيب الروح مستني

الشمس طلعت ونامت وصحيت
وأنا اللي طول الليل سهران
مش لاقي حد يوصّلني

رأى عبد الوهاب أنه هو من اكتشف حسين السيد، واستمر التعاون بينهما من خلال شركة أفلام عبد الوهاب، فشارك في صنع عدة أفلام، منها:

  • ممنوع من الحب (1942).
  • رصاصة في القلب (1944).
  • لست ملاكا (1947).

وقد أثبت بعمله في تلك الأفلام أنه واحد من أهم كتّاب الشعر الغنائي المستوحى من الدراما في مصر.

يذكر أن مشهدا مهما من سيناريو فيلم “رصاصة في القلب” قد حُذف، وحلّ محله دويتو “حكيم عيون”، الذي أداه محمد عبد الوهاب وراقية إبراهيم، ومن كلماته:

حكيم عيون أفهم في العين
وأفهم كمان في رموش العين

أعرف هواهم ساكن فين
وأعرف دواهم ييجي منين

قاسيت كتير منهم
وقريت كتير عنهم

اسمع يا دكتور، أنا أعرف إن الألم ييجي من عصب الضرس

لما الواحد ياكل حاجة ساقعة

عشان تحرّمي تاكلي جلاس
وتدوّبي في قلوب الناس.

 

هوامش ومراجع:

[1] نجيب الريحاني، مذكرات نجيب الريحاني، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012.

[2] ميسرة صلاح الدين، الأسطوات: عن سيرة وأعمال شعراء الأغنية في العصر الحديث، دار ريشة، القاهرة، 2025، ص 15.

[3] نجيب الريحاني، مرجع سابق.


إعلان