عروض الفُرجة في تونس.. تصوّف في فضاء الموسيقى والغناء
لعلنا نجد في المعنى اللغوي لكلمة (فُرجة) تقدِمة مناسبة لهذا الفيلم، ولِما لهذه الكلمة بالذات من ارتباط وثيق بالمعنى والمبنى مع ما سنسمعه من المتحدثين في الفيلم وما ورد فيه من مقاطع مصورة.
فالفرجة في معناها القريب وكما ورد في المعاجم العربية هي مشاهدة ما يُتسلّى به، كما هي الراحة من الحزن أو المرض، وهي أيضا التفضّي من الهمّ والغمّ أي أنها نقيض الكبت والتأزم.
وهي في سياق الفن والثقافة أحد العناصر المهمة في البناء الدرامي للعمل الفني ونوع من أنواع الخروج بالمتلقي من حالة شعوريّة إلى حالة شعورية أخرى، والفرجة تكون في كل ما هو خارج عن النسق والنمطية والتنظيم والترتيب، فكل ما هو غريب مثير للفرجة ويجذب المتلقّي ويستوقفه ويدعوه للتأمل أو التفاعل بأي شكل من أشكال التفاعل الإنساني، حتى وإن كان ذلك بالرقص أو التصفيق.
وقد قدم المتحدثون في الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “الحفلة.. عروض الفُرجة في تونس” تعريفا ووصفا للفُرجة لا يخرج عن سياق ما سبق، فهذا الباحث الموسيقي أنس غراب يقول: إن عروض الفرجة في تونس معروفة منذ القدم وامتدت لما يقارب 8000 عام من الحضارة القفصية، مرورا بالحضارات التي مرّت على تونس كالحضارة البربريّة والفنيقية واللاتينية والإسلامية والثقافة الأندلسية والثقافة المصرية في القرن العشرين.
بينما رأى آخرون أن عروض الفرجة كانت غير منظّمة وتظهر في المناسبات العامة والأفراح والأعراس، واعتبر بعضهم أن الموسيقى التقليدية هي موسيقى فرجة لأنها تُقدّم في الأفراح والمناسبات ولا بد أن تحتوي على طابع الفرجة المرتبط بالرقص.
فالفرجة موسيقى مناسبات غير منضبطة، تظهر خلال تجمع الأصحاب والأقارب، في أوقات يقوم أحدهم بالرقص والغناء بشكل طبيعي تلقائي وبتعبير غير منضبط بقواعد الموسيقى، كما تقول المختصة بالرقص الشرقي والتونسي سنية بوزيتة.
الموسيقى في تونس.. شجرة متعددة الثمار
للموسيقى الفرجوية التونسية أنواع، فمنها موسيقى النخبة أو البلاط ويُعبّر عنها بالموسيقى المتقنة وهي “المالوف”، والنوع الآخر هو الموسيقى الشعبية الموجودة في المدينة أو البادية والمرتبطة بمحافل الزواج والأعياد والأفراح.
ويقسم “المالوف” إلى قسمين، مالوف الجدّ المرتبط بالموسيقى الصوفية والتقاليد الطُرقية، ومالوف الهزل المرتبط بمجالس الأمراء والخلفاء وربما بالموسيقى الأندلسية، ويعرض في الفيلم نماذج موسيقية لمالوف الهزل ومالوف الجد.
ويتجذّر مالوف الجد المرتبط بالصوفيّة في تونس، ويتوفر في الهياكل الموسيقية من طبول وإيقاع ومقامات وأنغام، كما أن مكان الوجود البشري في الريف أو المدينة سواء في الساحل أو الداخل يؤثر في العرض الموسيقي الفرجوي، ويظهر الثقافة المحلية في العرض.
ويمكن تصنيف الموسيقى في القرنين الـ19 والـ20 حسب المناطق الجغرافية، فهناك تقاليد ساحلية، وتقاليد الشمال الغربي، وتقاليد المجال الواحي، وتقاليد الجنوب الشرقي. وإضافة إلى هذه الجوانب يوجد الجانب المدني أو الريفي، ولكل جهة من هذه الجهات طابعها الموسيقى الخاص وطريقة تقديمه وألحانه وأنغامه.
ومن العروض الصوفية المعروفة ما يسمى “السُلامية”، فالموسيقى الصوفية تعود كلها إلى الطريقة القادرية (نسبة إلى عبد القادر الجيلاني) وتطوّرها بالشاذلية والعيساوية، هذا كنظرة عامة للطرق الصوفية، ويعتقد أن التقاليد الموسيقية الصوفية لها ارتباط بعيد مع أنماط موسيقية من الحضارة اللاتينية، فالتراث التونسي الصوفي له عدة أنماط منها العيساوي والسُلامي وهو طريقة عالمة متقنة.
أما العروض السطنبالية فهي مرتبطة بالموسيقى الأفريقية وشمال أفريقيا وهي من العروض التي ارتبطت بالتونسي ذي البشرة السوداء، كما يقول الناقد الموسيقي هيكل الحرقي، وهي قادمة من خلال القوافل التجارية وتجارة العبيد الذين حملوا معهم مواريثهم الثقافية والفنون من غناء وشعر ورقص، وهناك جانب أساسي في الإسطنبالي وهو العلاج بالموسيقى، ثم إن لها ارتباطا بالمغرب والتنقل البشري بين المغرب وتونس.
أما عروض المناسبات أو ما يسمى المحافل، فهي عروض مرتبطة بالأعراس وهو أكبر عرض فُرجوي، وله تركيبة موسيقية معينة وهي الطبلة والمزمار، وتظهر في الجنوب الشرقي من تونس جهة غمراسن وجزيرة جربة وجزيرة قرقنة.
ومن عروض المناسبات ما يعرف بالغناء النسائي المشهور في جزيرة جربة التي تعتبر مخزنا مليئا بالأغاني المكتوبة والمؤدّاة من قِبل النساء، ويُعبّرن فيها عن وجدانهن ومشاكلهن وقضاياهن الاجتماعية.
بحر وصحراء وجزيرة.. الموروث الثقافي
للحديث عن الموسيقى التونسية لا بد من الحديث عن الموسيقى بطابعها الأطلسي وفيه الإيقاع والقصبة، وبطابعها البدوي وفيه العروبة وقوة الكلمة والمقامات البدوية، وطابع الجُزر وفيه الطبول والزكرة، ولا ننسى موسيقى النساء والموسيقى الصوفية.
يعرض المسرحي التونسي الفاضل الجزيري بعض الفروق بين فن المالوف والفن الشعبي قائلا: إن فن المالوف هو فن المدينة بضيقها وأخلاقها وتستّرها، بينما يعبر الفن الشعبي عن الأحياء الشعبية والبادية والسهول والجبال.
ويؤكد المتحدثون أن موسيقى المالوف مرتبطة بالبلاط والنخبة ومرتبطة بالسياسات وتتماشى معها في العادة، وبحسب الموسيقي سامي اللجمي فإنه يعتبر أن كل مظاهر الموسيقى الشعبية تعاني من الاحتقار والتغافل، ويضرب مثالا عن أشهر كتاب يعطي صورة واضحة عن الموسيقى التونسية في القرنين الـ19 والـ20 وهو “كتاب الأغاني التونسية” لسائق رزق الذي يمتدح فيه بعض الطرق الصوفية، بينما يذمّ بعض الطرق الأخرى لأن فيها نزعة من التصوف الشعبي، كما يلجأ الكاتب -على حد وصف اللجمي- إلى تجاهل واحتقار الموروث الثقافي الذي لا يلتقي مع ثقافة الكاتب.
وقد جرت العادة أن النخبة تريد أن تفرض نمطها ونسقها على الثقافات الأخرى، وتتعذر بأن رؤيتها هي الرؤية المثالية في التناول الثقافي للموروث، وهذا يعني ببساطة أن ما يتناسب من الثقافات الشعبية مع الثقافة النخبوية تأخذ به وتحتضنه، وما يتعارض معها ويتصادم بها لا تحفل به أبدا.
مزارات الأولياء.. أيام بورقيبة
يؤكد المتحدثون في الفيلم أن العروض الفرجوية لا تصلح أن تكون على أشرطة أو أسطوانات، لأن العديد من المعطيات الأساسية ستتغير ويتغير جوهر القالب الموسيقي، لأن هذه العروض كانت تتم في فضاءات عفوية مفتوحة في الساحات العامة والأسواق ومزارات الأولياء وحفلات الزفاف والطهور.
لكن مع مرور الوقت بدأ هذا الفضاء العفوي بالانحسار نتيجة حركة العمران السريعة في المدن وبعض القوانين الحكومية، إذ لا يُسمح بإقامة هذه العروض الفرجوية إلا بإذن من السلطات، ثم دخول الوساطة بين صانع الفُرجة والجمهور مما أثر على العلاقة العفوية بين صانع الفُرجة والجمهور.
وقد كان للرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة دور بارز أيام ولايته في إظهار الموسيقى التونسية والاهتمام بها حين طلب تشكيل فرق وطنية للفنون الشعبية التونسية لتمثل التراث التونسي في الداخل والخارج.
ولكن حسب رأي بعض المتحدثين في الفيلم فقد ثُمّنت بعض الأنماط الموسيقية مثل “مالوف الهزل” بينما هُمش البعض الآخر مثل “مالوف الجد” لأنه مرتبط بالطرق الصوفية على اعتبار أنها تعاملت مع المستعمر، كما إضافة إلى بعض الأنماط الشعبية الأخرى مثل “المزود” على اعتبار أنه يقلل من رُقيّ الثقافة، مما أدى إلى حلّ مؤسسة الأحباس لما لها من علاقة بمقامات الأولياء.
كل هذا ساهم في انحسار وتراجع العروض الفرجوية؛ إنه عداء تاريخي بين ثقافة السلطة والثقافات المضادة التي لا تتشارك مع ثقافة السلطة. وإليكم أهم العروض الفرجوية.
عروض قرطاج عام 1980.. سهرة الفن الشعبي
حاول هذا العرض أن يلمّ التشكيلة الغنائية والشعرية من جميع المناطق التونسية فكان الغناء الريفي والبدوي والشعر الشعبي، وكان المسرحي محمد رجاء فرحات مدير مهرجان قرطاج عام 1980 صاحب فكرة إدراج الفن الشعبي التونسي على برنامج المهرجان جنبا الى جنب مع الحفلات المشتراة من لبنان ومصر وغيرهما من الدول.
وساعده في ذلك الفاضل جعابي والفاضل الجزيري، كما استعان ببعض المستشارين مثل سمير العيادي، وكان من ثمار هذا العرض أن رفع الغطاء عن التعبيرات الغنائية الشعبية ليتعرّف الجمهور التونسي عليها أكثر.
بعد حقبة حكم بورقيبة، جاء حكم الرئيس زين العابدين بن علي الذي حاول التخلص من الميراث البورقيبي والتخلص من لاءاته الكثيرة الموجهة ضد المزود والتعبيرات الفرجوية التقليدية، فكان عرض النوبة للفاضل الجزيري عام 1991، ثم كان عرض الحضرة للجزيري أيضا في عام 1992 وهو عرض صوفي بامتياز.
عرض المنسيات في مدينة الكيف.. المقاومة الثقافية
قدّم المسرحي عبد الرحمن الشيخاوي في مدينة الكيف عرضا امتدحه المتحدثون في الفيلم كثيرا، على اعتبار أنه ومن خلال التسمية يحمل مشروع مقاومة ثقافية لرد الاعتبار للموسيقى الشعبية للشمال الغربي حيث كان قبل ذلك تراثا منسيا.
وكانت فيه أنماط غنائية قوية جدا بحكم التضاريس الجبلية لمنطقة الكيف، ولم يكن هذا الغناء للغناء فقط، بل كان عرضا مسرحيا فيه كثير من مظاهر التمثيل والفرجة وكأن المغني أو المؤدي هو ممثل في نفس الوقت، إنه عرض متحرك تتبدل فيه المشاهد وتتغير.
ثورات الربيع العربي.. تغير المشهد الثقافي
كانت الثورة في تونس (2010-2011) حدثا أعاد ترتيب الجغرافيا بين الهامش والمركز، وبعد الثورة تغيّر المشهد الثقافي لأن وزارة الثقافة لم تعد الحاضنة الوحيدة التي تعتني بالثقافة، وإنما أصبح للجمعيات دور في ذلك أيضا، أي أن الحواجز المفروضة من ثقافة السلطة سقطت، وصار العرض الحيّ يفرض نسقه على الثقافة النخبوية، ويتوجه إلى الجمهور مباشرة، والجمهور هو صاحب الحكم بقمعه أو استمراره.
برزت خلال هذه الفترة عروض جديدة، منها عرض الزيارة لسمير النجمي، وهذا العرض اسم على مسمى، فهو تجسيد لزيارة المُريدين إلى مقامات الأولياء والصالحين، فكانت هذه الفكرة العامة للعرض مدعومة بما يصاحبها من عادات وتقاليد ورموز ثقافية هامة، وقد كان من أكثر العروض نضجا من حيث الإخراج والسينوغرافيا والموسيقى، وعبّر عن صاحبه ومبتكره بشكل واضح ومؤثر.
كما اشتهر عرض “24 عطر” لمحمد علي كمون الذي دار على 24 ولاية في تونس وتعامل فيه مع الموروث الغنائي الشعبي وأدخل فيه الموسيقى الغربية والفنون الرجحية وعزف الجاز أيضا، لقد كان عرضا ديمقراطيا بامتياز حيث شمل كل الأذواق التونسية.
جربة حكاية.. أيام قرطاج الموسيقية
كان من أبرز العروض التي لاقت نجاحا كبيرا عرض “جربة حكاية” لأنيس المليتي، وهو موسيقي تونسي ينحدر من جزيرة جربة ودرس الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى في العاصمة التونسية، وأتيحت له فرصة العزف في فرقة الرشيدية (فرقة موسيقية قومية تونسية) ثم سنحت له الفرصة السفر إلى الدول الأوروبية للمشاركة مع الفرق الموسيقية الكثيرة هناك وفِرق البوب والروك.
وبعد عودته من أوروبا كان همّه عمل عرض فني يعرض فيه تراث جزيرة جربة، وظل هذا الحلم يراوده حتى واتته الظروف وقدّم هذا العمل “جربة حكاية”.
فبعد الثورة صارت العروض الفرجوية ممكنة في كل مكان، لكن المتحدثين أكدوا أن هذه العروض الفرجوية يجب أن تكون نتاج بحث ميداني معمق بركائز فكرية عن طريق البحوث الميدانية العميقة، وكأنها عمل علمي يقوم على جرد التراث الموجود وتوثيقه ودراسته ثم تثمينه، لأن هذه العروض بمثابة تثمين للتراث.
وفي عرض “حكاية جربة” حاول المليتي تطوير العرض الفرجوي من دون تشويه لموروث الفرجة التونسي، أي أنه تهذيب للتراث لا تعذيب له، وبتوزيع موسيقي جديد وآلات موسيقية جديدة غير موجودة في موسيقى جربة.
وزاد عليه آلات غربية مثل الغيتار والدرمز والسكسفون دون أن تطغى هذه الموسيقى على الموروث الأصلي، هذا الجهد المدروس والتعب الكبير لأنيس المليتي في هذا العرض لم يذهب سدى، فقد حاز عرضه “جربة حكاية” على الدرع الفضي في أيام قرطاج الموسيقية عام 2018 الذي قد يكون من أحد أهم الأسباب التي رسمت على وجهه تلك الابتسامة الخجولة الراضية في نهاية الفيلم وهو يحكي عن أمانيه وأحلامه في تطور هذه العروض الفرجوية الموسيقية المسرحية لتصل إلى أبعد ما يكون في العالم خارج تونس الخضراء دائما برجالها ونسائها ومثقفيها وفنانيها وكل رموزها وأعلامها.