الهنغاري “لاسلو كراسناهوركاي”.. أديب السينما الذي حصد نوبل للأدب 2025

“لاسلو كراسناهوركاي”، اسم صعب النطق، وربما تنطبق هذه الصعوبة أيضا على أفكاره، فمع سوداويتها المفرطة، بدت في كثير من الأحيان عصية على التلقّي الفني، حتى على المتابعين المتمرسين في قراءة الرموز.
ازداد هذا الإحساس تعقيدا بعد أن حول صديقه المخرج “بيلا تار” تلك الأفكار إلى تجسيد بصري، بسلسلة من الأفلام السينمائية، التي نالت احتفاء عالميا كبيرا.

نحاول هنا التوقف عند أبرز تلك الأعمال، لعلنا نستخلص منها الفكرة المركزية، التي عبر عنها “لاسلو” في كتاباته، وشكلت جوهر رؤيته الوجودية، وجعلته يحصد قبل أيام أرفع جائزة أدبية في العالم، ألا وهي جائزة نوبل للأدب عام 2025.
الشراكة الفنية بين الكاتب وصديقه المخرج، منحت الأديب المجَري حظا واسعا وأسئلة معقدة في آن واحد، فذاع صيته في الغرب حتى قبل أن تترجم رواياته إلى اللغات الأوروبية الأخرى، بفضل اقتباسها سينمائيا على يد “بيلا تار”.

ومع هذا الانتشار، ظلت التجربة تثير تساؤلات حول ثقل تلك الأفلام النخبوي، واقتصار استقبالها على جمهور محدود من المتذوقين والباحثين في عمق الصورة والمعنى.
تعاون الرجلان في 5 أفلام روائية طويلة، شكلت معا عالما بصريا وفلسفيا متكاملا، وهي:
- “الإدانة” (Kárhozat)، عام 1988.
- “تانغو الشيطان” (Sátántangó) عام 1994.
- “تناغمات فيركمايستر” (Werckmeister harmóniák) عام 2000، ويعد في نظر كثير من النقاد ذروة نضجهما الفني والفلسفي.
- “رجل من لندن” (A londoni férfi)، عام 2007.
- “حصان تورينو” (A torinói ló)، عام 2011.

كانت هذه الأعمال الخمسة كافية لتكريس بصمة “لاسلو” الأدبية الاستثنائية، ولتؤكد أن أدبه وُلد وفي جوهره استعداد لأن يُكتب بالصورة، لا بالكلمات وحدها.
كل تلك الأفلام في جوهرها تحكي قصة بدت واحدة مجازيا، ومع أن ذلك معتاد لدى كثير من الفنانين، فإنه متحقق تماما في حالة “لاسلو”، وقد بدت قصصه حكاية واحدة طويلة، تسرد حكايات شخوص في عوالم منهارة، يعجزون عن النجاة لأسباب تفوق قدرتهم البشرية، لا يمكن فهمهم تماما، ولا يمكنهم التواصل مع العالم، الذي يبدو أنه قد تجاوزهم قبل أن يدركوا ذلك.
في أحد حواراته النادرة، وربما في جواب سريع على المحاور، يقول “لاسلو”: في الحقيقة، أنا لم أكتب إلا كتابا واحدا في حياتي. مجموعة من الكتب بدأت من “تانغو الشيطان” إلى اليوم، تتشارك إطارا رئيسيا واحد؛ قصة مدينة/ قرية بائسة مرتبكة، تعاني الشر الأبدي الذي يجعلها منهارة متحللة.

هذا الانهيار هو ما يجسده “لاسلو” في مركزية أعماله، سواء أكان انهيار الدولة من الأعلى، أم الانهيار الأخلاقي والإنساني، الذي يؤدي إلى تحلل الدولة ببطء. نحاول هنا تحليل خطابات أفلامه، وطرح أسئلة مركزية تتعلق بفكرته الأثيرة عن الحياة في مساحات قد انهارت، وقد لا تصلح بشريا، وأن نتعرف على أديب نوبل، لفهم العوامل الفنية التي احتملت مجاز فكرته المعقدة المشؤومة التي سيطرت عليه؟
ولماذا لفتت أنظار المثقفين في العالم، مع أن حبكتها ذات محلية مفرطة؟ وكيف أظهرت أفلامه أفكاره التي أوجدها في كتاباته الكثيرة؟
أبطال في مدينة صغيرة تعيسة الحظ
نشرت الأكاديمية السويدية المانحة لجائزة نوبل نص المكالمة التي أُبلغ فيها “لاسلو” بفوزه بالجائزة، ويبدو واضحا -حتى في مكالمة عابرة- أن الفكرة التي تستحوذ على ذهنه دائما، إنما هي رغبته في الحديث عن دولة صغيرة في عالم واسع، لم يتح لها نصيب عادل من الحظ.
وبتلك الرؤية المتواضعة ظاهريا، كان يسعى إلى كشف المأساة الإنسانية الكبرى على مستوى الدولة، كما على مستوى الفرد. إنها حكاية حميمية جدا عن أناس يواجهون الخراب المحيط بهم، الذي يفوق قدرتهم على الاحتمال.

“لأنه لم يرغب في العودة إلى منزله كي لا يبقى وحيدا في شقة فارغة في يوم عيد ميلاده، ولأن ما حدث حدث على حين غرة وبكل قسوة، حين أدرك فجأة أنه لا يفهم شيئا، كان هذا إدراكا مرعبا، لا سيما بالطريقة تكشفت له بها تلك الحقيقة، بكل تفاهتها وابتذالها وسخفها وسقمها.
لكن هنا مربط الفرس، قال: كيف اصبح مدركا الآن، الآن وهو ابن 44 عاما؟
كم يبدو في منتهى الغباء أمام نفسه، وكم يبدو فارغا، وكم كان في منتهى التخلف في فهمه العالم على مدى السنوات الأربع والأربعين الماضية، لأنه -كما أدرك أثناء سيره قرب النهر- لم يكن قد أساء فهم الحياة فحسب، بل إنه قد أساء فهم كل شيء عن أي شيء، والأسوأ من هذا وذاك هو أنه كان يظن على مدى السنوات الأربع والأربعين الماضية، أنه يفهم العالم وأمور الدنيا.”
هكذا يتحدث الرجل عن بطله الذي يبدو واحدا في أغلب الأعمال، في “تانغو الشيطان” وفي سائر أعماله الأخرى. بطل تتحلل أمامه رؤية العالم، فتربكه، ولا يمكنه السيطرة عليها أبدا، يدرك كل ذلك بأثر رجعي، ولا يجد مسارا للنجاة. وربما لن يسمح له العالم بذلك أساسا.
فاقت كتابات “لاسلو” السوداوية أساتذته، الذين يكنّ لهم فضل تعليمه الكتابة عن بُعد، لا سيما “فرانز كافكا”، وكذلك “فيودور دوستويفسكي”، الذي تتلمس في قصصه تشابهات كبيرة بينهما. وكثيرا ما وُصف بأنه “سيد نهاية العالم” في الأدب الأوروبي الحديث.
هذه النظرة المتشائمة، يمكن فهمها في سياق حياة المؤلف ذاته منذ بداياته، فقد وُلد “لاسلو” في المجر عام 1954، في قرية نائية شحيحة الوظائف والأموال، يحدّها الفقر المدقع من كل جانب، وكانت البلاد يومئذ في لحظة ما بعد الحرب.
عمل الرجل في عدة وظائف، ظهرت آثارها جميعا في كتاباته لاحقا، لا سيما وظيفته الغريبة راعيا للأبقار، وكان يمارس الأدب على استحياء، ويتخذ تلك الوظائف محطات مؤقتة، حتى يتمكن من الوصول إلى ما يجعله يكتب فقط.
كانت المجر -وأغلب البلاد الشيوعية- يومئذ تقسم المواطنين إلى جواز سفر أخضر وأحمر، فأما الأحمر فلا يسافر إلا إلى البلاد الشيوعية، وكان ذلك سجنا كبيرا لمن يحاولون الترقي، وأما الأخضر فكان يسمح بالتنقل بحرية أوسع.
وعلى ما يبدو، فقد ارتسمت مسيرة “لاسلو” الفنية مع إدراكه عدم قدرته على السفر، حين صادرت الشرطة السرية جواز سفره، وترك ذلك أثرا عميقا في تجربته الإبداعية. وتُعبّر رواياته مثل “تانغو الشيطان” و”كآبة المقاومة” عن شعور خانق، يكاد يكون لا يُطاق. تبدو الأماكن في خياله مجرد سجن كبير للجميع.
فيلم “الإدانة”.. عزلة البطل
هكذا سنجد أيضا فيلم “الإدانة”، حيث يشق البطل “كيرير” طريقه برغم يأسه الظاهر، يعيش في بيئة كئيبة، ككل الأماكن التي يختارها المخرجون للتصوير، فأمطار لا تنقطع، وفضاء شاسع أشبه ببرك، ومستنقعات لا تصلح إلا للإقامة الجبرية.

بطل وحيد لا يُشفيه وجود مغنية في الحانة التي يسكر فيها، لكن المرأة متزوجة، و”كيرير” مصمم على إبعاد زوجها عنها.
يبدأ الفيلم من لقطة بعيدة، تبدو فيها الحياة تتحرك في الخارج، في حين يقف البطل أمام مرآته، يحلق لحيته في غضب لا نعرف سببه، ولكننا سنفهم لاحقا أنه لا يجد فرصة للحياة التي يتمنّاها.
فيلم “رجل من لندن”.. المال عبء لا خلاص منه
اقتبس “لاسلو” روايته “رجل من لندن” من رواية “رجل لندن” الفرنسية، للكاتب البلجيكي “جورج سيمنون”. ونرى فيها عامل تحويل سكة الحديد “مالوين” رجلا وحيدا في بلدة ساحلية مهجورة، يصادف جريمة قتل وحشية أثناء عمله في نوبة ليلية.

وفي لحظة ملولة أثناء عراك معتاد، يجد حقيبة أموال، فتبدأ مأساة جديدة، ويسود ذلك المال حياة بطله، فيعيش بعدها في حيرة وخوف لا ينتهيان أبدا، حتى يبدو المال -وهو وسيلة التحقق الوحيدة الممكنة- عاجزا عن تغيير حياته، بل يزيدها ظلمة وتعقيدا.
فيلم “تناغمات فيركمايستر”
في فيلم “تناغمات فيركمايستر”، نرى ساذجا شاهدا على جريمة، كأنه شاهد على العالم بأسره، لكنه لا يملك أن يغير شيئا.

ربما هو البطل المثالي في عالم “لاسلو”، الأكثر استيعابا لكل المجازات التي يحتاجها الكاتب للسرد المتشائم، حيث تتكرر المفارقة الأبدية، رؤية كاملة بلا قدرة على الفعل.
فيلم “حصان تورينو”
يحكي هذا الفيلم قصة تحمل مفارقة تبدو بعيدة نوعا ما عن كتابات “لاسلو”، لكنها شديدة التماس مجازيا مع ما كان يحركه؛ فبطلها هو “فريدريك نيتشه”، الكاتب الذي تحدث عن تفوق الجنس البشري، وربما الإنسان الألماني تحديدا، في لحظة سبقت موته بقليل، حين رأى حوذيا يضرب حصانه بجنون.

ألقى الرجل نفسه على الحصان “العنيد المكلوم” واحتضنه، ثم دخل في حالة من الذعر والصراخ حتى عاد إلى بيته، ثم جلس بعدها قرابة عام في منزله قبل أن يموت.
الحيوان مرآة للبطل في سينما “لاسلو”
كان الحيوان عموما يتوازى وجوده في كتابات “لاسلو” مع الأبطال. تبدأ أغلب تلك الأفلام بمتابعة تلك الحيوانات أو الطيور، يُدرَك بها عالم الأبطال الخارجي إدراكا يتوازى مع وجودهم.
تتحرك الحيوانات في فضاء واسع على الجميع، مثل ما يتحرك الإنسان، وربما حتى في صمتها تشبهه، إذ تتكشف حقيقة أبطال “لاسلو” بصمت أكثر من كونها تتحدث عن ذلك.

الطبيعة تأسر الجميع، ولا تميز بين الإنسان والحيوان. أما الأبطال فلا تهمنا كثيرا تعبيرات وجودهم، ولا حتى الكاميرات التي تُسلط عليهم، بل نكتفي بحركاتهم التي تبدو من بعيد متناغمة في عالم لا يرحم أحدا.
يبدو ذلك جليا في نهاية فيلم “الإدانة”، الذي يقف فيه البطل مواجها كلبا، في معركة صفرية تبدو غير مفهومة، لكنها كاشفة لرؤية كاتبها.
وقد قال المخرج “بيلا تار” ذات مرة ملاحظة وجيهة: من الملاحظ أن لا أحد يقول عن مقطوعة موسيقية إنها طويلة، فحجة الطول حكر على السينمائيين على ما يبدو. لا أعرف من الأحمق الذي قال إن على الفيلم أن يكون 90 دقيقة.
ثم قال: حين أنجزت “تانغو الشيطان”، أحيانا أشعر بالحاجة إلى الاختزال، وفي أحيان أخرى أحب أن آخذ وقتي في التعبير. أنجزت 9 أفلام، وأعد “تانغو الشيطان” -الممتد 7 ساعات ونصفا- خمسة أفلام.
إن الوقت محوري في أعمال “لاسلو” ومخرجه “بيلا”، فمروره البطيء الممل جزء من إدراك أبطاله.
نهاية العالم.. الحالة الطبيعية عند “لاسلو” و”بيلا”
كل تلك الأفلام تسرد خطابها على إيقاع مونتاجي بطيء، يكاد يقتلك من الملل، وربما من انعدام الوجود أساسا. وفي أغلبها، تتوزع موسيقى “يوهان باخ” في كل مكان، حاملة بصمة زمن قاسية على الجميع.
في أحد ردوده التي تكشف نظرته النفّاذة إلى العالم، وتحمل جوهر فكرته ذاتها، يقول ردا على اتهامات التشاؤمية والرغبة في نهاية العالم:
نهاية العالم هي الحالة الطبيعية للحياة. نهاية العالم الآن.
يبدو أنه يرى ذلك التحلل حالة مفرطة من الحميمية،
فنهاية العالم عنده توازي العالم ذاته،
والموت يقف على تماس مباشر مع الحياة.
ولعل هذا ما يجعل العالم الأوروبي يرى نظرته في لحظة منهارة استثناء يستحق النظر؛ فهنا كل الأشياء قابلة للتحقق، مهما بلغ إفراطها في التشاؤم، أو طار بها الأمل حتى أقصى السماء.
