مهرجان وارسو السينمائي الـ41.. حضور عربي استثنائي وختام فلسطيني

تنطلق مساء الجمعة القادمة في العاصمة البولندية وارسو فعاليات الدورة الـ41 من مهرجان وارسو السينمائي الدولي، وتقام بين 10-19 أكتوبر/ تشرين الأول 2025.
يقدم المهرجان -على عادته- برنامجا غنيا ومتنوعا من العروض العالمية الأولى، من الأفلام الدولية والمحلية المتميزة، واللقاءات المتعددة مع شخصيات بارزة من صناعة السينما البولندية والعالمية.

لمحة عن تاريخ التأسيس والبدايات (1985-1990)
تأسس المهرجان في البداية تحت اسم “أسبوع وارسو السينمائي” عام 1985، وكان يعرض مجموعة مختارة من الأفلام للنخبة السينمائية المحلية، على مدى أسبوع.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4مهرجان الدوحة السينمائي.. انطلاقة طموحة وبناء على التجارب السابقة
- list 2 of 4مهرجان فيينا السينمائي الـ63.. فعاليات متنوعة وحضور عربي باهت
- list 3 of 4”رُقية“.. فيلم رعب جزائري عن سنوات العشرية السوداء
- list 4 of 4“ضعي روحك على كفك وامشي”.. قصة الشهيدة التي غابت عن عرض فيلمها
ثم أتاح الفرصة لعرض أفلام لا تحظى بفرص عرض كبيرة أو تجارية، لا سيما أن الأسبوع كان يُنظّم في ظل ظروف سياسية واقتصادية معقدة جدا، في ظل النفوذ الشيوعي آنذاك.
وضع ذلك قيودا -قلت أو كثرت- على الأفلام المعروضة، برغم وجود حركة ثقافية وفنية مزدهرة، وبعض الانفتاح على الآخر المجاور، والاحتكاك النسبي مع العالم.
التغيّرات والتدشين المؤسسي والدولي (1990-2010)
في عام 1991، تغير عنوان “أسبوع وارسو السينمائي”، وصار يسمى رسميا “مهرجان وارسو السينمائي”، فلم يكن قد اكتسب الصفة الدولية بعد. وفي عام 1995، تأسست “مؤسسة وارسو للسينما”، فكانت الجهة الرسمية المنظمة للمهرجان.
ومنذ يومئذ، بدأ المهرجان يتوسع، من حيث عدد الأفلام المعروضة، والأنشطة المصاحبة، ونوعية الأفلام والضيوف، وبدأ يخرج من النطاق المحلي، ويكتسب سمعة على الصعيد القاري والدولي.
أسفر هذا التغيير الملحوظ، من حيث النمو والتوسع بين عامي 2000-2010 عن الاعتراف الدولي بالمهرجان، فاعتمده “الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام” (FIAPF)، وأصبح كغيره من المهرجانات ذات المستوى الدولي.

وفي عام 2005، مُنح المهرجان أول مرة جائزة من لجنة تحكيم معتمدة من “الاتحاد الدولي لجمعيات منتجي الأفلام”، فتميز بين أقرانه من حيث الجوائز والمنافسات.
وفي عام 2008، ترسخت سمعة المهرجان أكثر وأكثر، واعتمد رسميا مهرجانا تنافسيا دوليا متخصصا في الأفلام الأولى والثانية عموما، وأفلام الوسط والشرق الأوروبي خصوصا.
ومنذ يومئذ وحتى الآن، لم يتوقف المهرجان عن التطور، ولم يقتصر على عرض تشكيلة كبيرة ومتنوعة من الأفلام العالمية والإقليمية، بل بات يضم أنشطة عدة مخصصة للصناعة والتمويل، مع ورش العمل، ومنتديات التعاون الإنتاجي، وكذلك المحاضرات، ودروس السينما، ومناقشة مشاريع الشباب نقديا.
أهم أقسام المهرجان وأبرز الدول المشاركة
تتوزع فعاليات المهرجان هذا العام 2025 على 13 قسما، منها 4 تنافسية، وهي كما يلي:
- “المسابقة الدولية”، وهي مخصصة للأفلام الروائية الطويلة من أنحاء العالم، وينافس فيها هذا العام 15 فيلما من عدة بلدان أوروبية، ومن أمريكا وكندا ونيوزيلاندا والمكسيك وكوريا الجنوبية.
- “مسابقة 1- 2”، وهي مخصصة للأفلام الأولى أو الثانية للمخرجين. وينافس فيها 11 فيلما من عدة دول أوروبية، ومن الهند وسنغافورة وأمريكا ومصر.
- “مسابقة الوثائقيات”، ويتنافس فيها 15 فيلما وثائقيا طويلا من عدة بلدان أوروبية، ومن أفغانستان وسنغافورة وأستراليا وتركيا.
- “مسابقة الأفلام القصيرة”، ويتنافس فيها 31 فيلما من أنواع الأفلام القصيرة، أغلبها من أوروبا، والبقية من الصين واليابان وكندا وأمريكا وفلسطين وأورغواي.

ملصق الفيلم المصري “كولونيا”، للمخرج محمد صيام، وعنوانه بالإنجليزية “عطر أبي” (My Father’s Scent)
تمنح لجان التحكيم جوائز تنافسية لهذه الأقسام، ناهيك عن “جائزة الجمهور” العريقة، وهي من أقدم الجوائز، ويصوت فيها الجمهور على أفضل فيلم روائي طويل، وأفضل فيلم وثائقي، وأفضل فيلم قصير. هذا إلى جانب جائزة “الاتحاد الدولي للنقاد” (FIPRESCI)، وغيرها من الجوائز الثانوية.
أما من حيث تنظيم العروض، فتتوزع عروض أقسام المهرجان على 7 قاعات رئيسية، متفاوتة الحجم، بأماكن متجاورة في قلب وارسو، وأماكن أخرى قليلة في أنحاء المدينة.
ونظرا لكون المهرجان يقام في فصل الخريف، وهو موسم اعتدال الطقس نسبيا، ينعقد المهرجان في قلب العاصمة التجاري والثقافي والمالي والتسوقي.
وبفضل توفّر كافة سبل الانتقال والسفر، أسهم هذا كله في جذب انتباه جمهور عريض واسع الأطياف، من داخل بولندا وخارجها، لا من وارسو فحسب، حتى أصبح الحضور يتجاوز 100 ألف متفرج سنويا.
“ذكرى سنوية”… افتتاح أمريكي بإخراج بولندي
يفتتح المهرجان دورته الجديدة الـ41 بالعرض العالمي الأول للفيلم البولندي “ذكري سنوية” (Anniversary)، للمخرج البولندي الشاب “يان كوماسا”، المعروف بأفلامه النقدية اللاذعة للمجتمع البولندي، بمختلف مستوياته وطبقاته وفئاته، وانتقاده للعنصرية في المجتمع، والتشدد أو التطرف الديني.

اللافت للانتباه أن الفيلم هو أول فيلم ناطق بالإنجليزية للمخرج “كوماسا”، بعد عدة أفلام روائية طويلة ناجحة، ويشكل أول انطلاقة هوليودية له.
تدور أحداث الفيلم المعاصرة حول عائلة أمريكية مخملية، ناجحة ومستقرة وسعيدة، مكونة من “إلين” و”بول” وابنهما الشاب، الذي يفاجئهما أثناء الاحتفال بالذكرى السنوية الـ25 لزواجهما، بتعرّفه على حبيبته “ليز” غير السوية نفسيا واجتماعيا، مما يهدد استقرار العائلة وتفاهمها وانسجامها.
مساحة أكبر للأفلام العربية وحضور فلسطيني لافت
منذ انطلاقته، لم يلتفت “مهرجان وارسو” كثيرا إلى السينما العربية أو غيرها من مدارس السينما خارج المنطقة. لكن في السنوات الماضية عرض بضعة أفلام عربية، روائية طويلة وقصيرة، بإجمالي لا يتجاوز أصابع اليدين، وذلك على مدى عقد تقريبا.

وضمن تطويرات الإدارة الجديدة، والرسالة المراد إيصالها عبر المهرجان بالانفتاح على الآخر، وفي ضوء التطورات العالمية الحاصلة في فلسطين، وغزة تحديدا، كان صعبا على أي إدارة فنية لمهرجان سينمائي كبير أو عريق، أن تتجاهل الأفلام الفلسطينية والعربية.
لذلك شهدت برمجة المهرجان هذا العام عرض 5 أفلام روائية طويلة، و4 أفلام قصيرة، في مختلف الأقسام دفعة واحدة، وتلك أول مرة في تاريخه.
الأفلام الروائية الطويلة المشاركة
في “المسابقة الدولية 1-2″، ينافس الفيلم المصري “كولونيا”، للمخرج محمد صيام، وعنوانه بالإنجليزية “عطر والدي” (My Father’s Scent)، وهذا عرضه العالمي الأول، وهو من بطولة أحمد مالك، وكامل الباشا، ومايان السيد.
إنه أول روائي طويل للمخرج بعد الفيلمين الوثائقيين المهمين، “بلد مين؟” (2016)، و”أمل” (2017). وتلك أول مرة على الإطلاق ينافس فيها فيلم مصري، وفي هذه المسابقة تحديدا.
تدور الأحداث خلال ليلة واحدة، تجمع أبا وابنه، يسبر أحدهما علاقته بالآخر، بعد انكشاف بعض الأسرار والخبايا، ثم يحاولان معا حل خلافاتهما وتجاوز الماضي.

في قسم “مواجهات” يعرض الروائي الطويل “كان ياما كان في غزة” للأخوين طرزان وعرب ناصر، وتدور أحداثه قبل الحرب الحالية في غزة، تحديدا عام 2007، في إطار درامي بوليسي، مع بعض الكوميديا والإثارة. وجدير بالذكر أنه عرض في قسم “نظرة ما” في مهرجان “كان” هذا العام، وفاز بجائزة “أفضل إخراج”.
أما قسم “أرواح حرة” المخصص لأفلام التجديد والابتكار والحرية، فيعرض فيه فيلم “الصغيرة الأخيرة”، للمخرجة التونسية الفرنسية حفصية حرزي، وهو خامس أعمالها مخرجةً، وكان أول مشاركة لها في “المسابقة الرئيسية” بمهرجان “كان” في دورته الماضية.
يتناول الفيلم حياة مراهقة مسلمة، تتعرف على الحياة من حولها، وتتلمس علاقتها بالآخرين، وتستكشف علاقتها بجسدها وميولها الغريزية. وقد فازت بطلته نادية مليتي بجائزة “أفضل ممثلة” في مهرجان “كان”.

وأما قسم “سينما القيم” المخصص لأفلام الحرية والعدالة والديمقراطية، فيعرض فيه فيلم “نسور الجمهورية” للمصري السويدي طارق صالح، وكان قد شارك في “المسابقة الرئيسية” بمهرجان “كانّ” في دورته الماضية.
يتناول الفيلم قصة ممثل تجبره جهات سيادية في الدولة المصرية على بطولة فيلم عن الرئيس. وهو ثالث فيلم روائي لمخرجه، والأخير في ثلاثية “القاهرة”، بعد “حادثة فندق النيل” (2017)، و”ولد من الجنة” (2022).
الأفلام القصيرة المشاركة
تضم “المسابقة الدولية للأفلام القصيرة” 31 فيلما، وينافس فيها فيلم “نهاية” للمخرج الفلسطيني ورد كيال، وهو من بطولة الممثل زياد بكري، ويتناول معاناة فلسطيني من حيفا في ليلة عاصفة ماطرة.
وتشهد هذه المسابقة أيضا عرض فيلم “أولا حمرة الخجل، ثم التعود”، للممثلة والمخرجة التونسية مريم فرجاني، وتدور أحداثه حول رحلة ليلى و”إيتوري” كل ليلة بحثا عن الطعام، وما يجمعهما من ذكريات مشتركة عن الحروب والهروب والمعاناة.

أما قسم “أفضل الأفلام البولندية القصيرة” فيعرض فيلم “قاهر” للفلسطينية الشابة ندى خليفة. ونظرا لأنها درست السينما في “مدرسة وارسو للسينما”، وتسكن وارسو، فسيعرض فيلمها في مسابقة الأفلام البولندية، لا الدولية.
تدور أحداث الفيلم حول فلسطيني يعيش في الشتات في كندا، وحين يعود لزيارة بلده وعائلته، تجعله تلك الزيارة يعيد اكتشاف نفسه، ويشحن هويته الفلسطينية.
كما سيعرض وثائقي “غزة تهديد صامت” (Gaza’s Silent Threat) للبرازيلية “ماريا فيرناندا لوريت”، التي أخرجت عدة أفلام لمنظمات دولية، وقنوات تلفزيونية، ومحطات دولية منها قناة الجزيرة.
أُنجز الفيلم بإشراف مؤسسة اليونيسيف، وهو يصور التحديات الهائلة أثناء تنفيذ حملة التطعيم ضد شلل الأطفال، ويسلط الضوء على نبل أناس استثنائيين، منهم د. يونس عوض الله، الذي عاد من التقاعد لإنقاذ حياة أكثر من 600 ألف طفل، وصنفته مجلة “تايم” في عام 2024 من أهم 100 إنسان تأثيرا في مجال الصحة العامة، نظرا لدوره في حملة التطعيم العاجلة في غزة.

المثير والجديد في أمر الاختيارات العربية هذا العام، ليس اتساع نطاق الأفلام المعروضة فقط، بل الرؤية البولندية التي التفتت للسينما العربية، ولا سيما انفتاحها على الآخر الفلسطيني، وثقافته وفنونه ومأساته المتواصلة، ونشر الوعي بها، والتفاعل والتعاطف معها.
يؤكد هذا اختيار فيلم “صوت هند رجب”، للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، ليكون في ختام المهرجان، لا مجرد فيلم يعرض خلال أيام للمهرجان أو وسط الأسبوع مع غيره من الأفلام، بل في ختام للمهرجان.
يمنحه ذلك أثرا بالغا نفسيا وعاطفيا وإنسانيا على الجمهور البولندي، وبذلك، يتحقق الأثر المرجو من الفيلم، من خلال صوت الشهيدة الطفلة هند رجب.
