“حكايات شادية وأختها سحر”.. كيف يحكي المخرج أحمد فوزي صالح عن الفقراء؟

عرضت الجزيرة الوثائقية قبل أسابيع فيلم “حكايات شادية وأختها سحر”، الذي أنتجته للمخرج أحمد فوزي صالح. لا نتوقف هنا عند تحليل خطاب هذا الفيلم، فحسب، بل سنتخذه مساحة مفتوحة للحديث عن صانعه.
لكن قبل الغوص أكثر في قلب أفكار المخرج ربما علينا أن نبدأ من 3 معلومات، قد تصلح مفتاحا لتحليل خطابه تحليلا أكثر سهولة.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4مخرج “فات الميعاد” للجزيرة الوثائقية: لم نخترع نهاية للمسلسل ترضي الجمهور
- list 2 of 4وثائقي “غزة: الأطباء تحت الهجوم”.. فيلم لم ترغب بي بي سي في أن يشاهده جمهورها
- list 3 of 4“المخيمات”.. معركة الطلاب المرابطين في ساحات جامعة كولومبيا
- list 4 of 4المخرج “مارسيل أوفولس”.. قرن من السينما الوثائقية التي تدين فكرة الاحتلال
ففي مكان بعيد عن الزحام والصخب، التقيتُ المخرج أحمد فوزي صالح. كان الانطباع الأول محاولة البدء من الحديث حول فيلمه الأحدث “حكايات شادية وأختها سحر”، لا سيما بعد الجدل الذي أثاره عرضه للنقاد بمهرجان الإسماعيلية للفيلم الوثائقي.

منذ فيلمه القصير الأول “جلد حي”، قبل نحو 14 عاما، ظل أحمد فوزي صالح موضع جدل، لجرأة أعماله، لكنه استقطب بها جمهورا كبيرا أحبه بشدة، وجمهورا آخر وجدها جريئة أكثر مما ينبغي.
نحاول التفكير قليلا في عدد من الأسئلة المتراكمة التي يمكن الكتابة عنها، فما الذي يدفعنا للحديث عن الصانع نفسه أثناء الكلام عن فيلمه؟ ولماذا يتسبب الرجل كل مرة بحكاية عادية في وجود سينما للفقراء لا تجمّل أوضاعهم كالمعتاد؟
حياة عادية أمام الكاميرا لا تدعي البطولة
من بين 14 فيلما وثائقيا طويلا شاركت في الدورة المنصرمة من مهرجان الإسماعيلية للأفلام الوثائقية (2025)، كان الفيلم المصري الوحيد المشارك للمخرج أحمد فوزي صالح “حكايات شادية وأختها سحر”.
هو أحدث أفلام مشروعه، الذي بدأت تتحدد ملامحه في فيلم “ورد مسموم”، وعوالم قد تظهر في فيلمه القادم “هاملت في عزبة الصفيح”، الذي حكى لنا عنه، لكن باقتضاب قد نكتب عنه لاحقا.
وهي ذاتها عوالم الهامش التي تتصادم مع ذاتها، لكن بشكل غير الذي اعتدنا رؤيتها به من منطقة استشراقية حالمة نوعا ما. هامش يصوّره رجل عايش هذا الواقع منذ طفولته الفقيرة.

فما الذي يحدث حقا على هامش المدينة؟
بلا بطولات خارقة، تحدث حيوات عادية، ومآس عادية، لا يمكن احتمالها، يسعى المخرج في كل مرة لصناعة هذا الشيء الصادم للمشاهد، لكشف واقع لا تتحدث عنه السينما كثيرا.
أسأله عن اللحظة التي تعلّم فيها السينما، فيقول إنه ذات مرة في بلده الأم بورسعيد قابل جارهم الكبير محمود إبراهيم، الذي جاء إليهم بنحو ألف فيلم من دول شتى، لم يكن قد سمع أنها تصنع أفلاما أساسا، ولم تكن مثل أفلام بطله الأول عادل إمام، التي كان يقصد السينما من أجلها، آنذاك كان هذا المعلم الأول للرجل، هذا البحر من الأفلام والحكايات العادية البعيدة عن هوليود الغرب والشرق، والبطل الخارق الذي ينتصر للجميع ويهزم الأشرار.
نشأ أحمد في بورسعيد طفلا عاملا يبيع للمارة، في عالم الشارع الذي يحكمه منطق وأناس آخرون.

يقول في حواره معنا: حين تكون طفلا يكون منظور رؤيتك من الأسفل، ومن زاوية رؤيتك ترى اللص وتاجر المخدرات أبطالا، لذلك كنت أرى بطولات هؤلاء قبل أن أرى نظرة المجتمع لهم.
لا يمجّد الرجل هؤلاء، لكنه يحكي قصتهم المزعجة بلا وصاية ولا تجميل. يقول: كنتُ أشعر أن الأفلام التي أشاهدها عنهم لا تقدم شيئا حقيقيا، وحاولت أن أصنع أفلاما عن عالم عايشته.
هكذا يمكن -دون أن نشعر بالاندهاش أو الغضب- أن نفهم أمنيته بأن يصبح لصا، وهكذا يمكن للبحث عن طفولته أن يكشف هوسه الأصيل بالجري وراء هذه المتاعب.
تدور أحداث فيلم “حكايات شادية وأختها سحر” في منطقة شعبية أيضا، تعيش فيها شادية وسحر، وهما مطلقتان تعولان 3 بنات. يستعرض الفيلم حكايتهما وأحلامهما اليسيرة، ومحاولتهما السعي بكل جهد لتحقيق أحلام بناتهن أيضا، قبل تحقيق أيسر أحلامهما، وتوفير حياة كريمة لهن حين تنصل آباؤهن من المسؤولية، فكل الحِمل على كتفَي المرأتين.
تحاول شادية أن تحصل مع ابنتها على نفقة لهما بلا جدوى. أما سحر فتعيش مع طفلتيها بعد طلاقها من زوجها.

تنتقل شادية لتقيم مع سحر، لكي تتقاسما الحياة ورعاية الطفلات الثلاث في منطقة شعبية. وهنا نعيش مع امرأتين تصارعان الحياة مدة 82 دقيقة من الإزعاج الصافي.
ولا نفهم جيدا هل يسرد المخرج حكايتهما، أم يحكي إعادة إنتاجها في بناتهما اللاتي تتكرر حيواتهن مرة أخرى دون أن يدركا حدوث ذلك؟ ومهما حاولتا تجنب هذا التكرار، فهي مجرد حياة عادية تصارع، لكنها تعيد إنتاج ذاتها.
يتطور إنتاج أحمد من عمل لآخر، لكنه يظل أسير طفولة شهدت مأساة الفقر، ولا يمكنها صناعته سينمائيا بشكل استشراقي باهت.
حكايات شادية وأختها سحر.. عن الفقر فقط
يسير المخرج بكاميرته وراء ممثليه، فيتعقب تفاصليهم بإطارات ملاصقة، مما يحيل لسينما الرجل وتصوراته. وقد حصد فيلم “حكايات شادية وأختها سحر” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية أفضل تفاعل بين كل أفلام المهرجان.
يحكي الفيلم أساسا قصة جارته أثناء الدراسة في معهد السينما، فقد كان يسكن العمارة التي صوّر فيها بطلتيه على مدى سنوات، لتصوير حكاياتهما قصة حقيقتها قاسية، لم نشاهدها هكذا على الشاشة من قبل.
زاوية تصوير مربكة، تتحرك خلفهما في كل إطار، وموسيقى تزيد التوتر، بلا حدث درامي أو تصاعدي، يغير ما يمكن مشاهدته من توتر مقصود لا ينتهي، ولا يبدأ تماما. وهذا التشبث باللحظة البرزخية في حياة أسرة فقيرة، ظهر كذلك في “ورد مسموم” أيضا، ولكن بإضافات يسيرة.

هل يمكن أن يهرب المشاهد من هذا التوتر جيد الصنع إلا بإعلان الغضب منه؟
يمكن أن يمشي أستاذ السينما وغيره، مثلما يترك الإنسان فيلما أكثر قسوة من مشاهدته. يخبرنا المخرج أنه يريد صناعة صور تبقى في ذهن المشاهد كل مرة، فالهواجس البصرية التي يعكف على حبكها في سنوات تعلن نفسها في حالة غضب مسموع.
ويبدو أن لديه حقيقة يدور من خلالها في أفلامه؛ قصص فقراء لن تتغير حياتهم، ودوران مستمر في أحداث عادية على أمل أن تتغير هذه الحياة، بلا جدوى على الإطلاق، كما في أفلامه “جلد حي”، و”ورد مسموم”، و”حكايات شادية وأختها سحر”، وربما ما هو قادم “هاملت في عزبة الصفيح”، فكل شيء مصنوع لانهيار قاعدة السرد السينمائية الأولى؛ وهي التصاعد الدرامي.
وكل حدث يكمّل الآخر لكنه لا يطوره، فلسفة فيها عالم برزخي خالٍ من الحدث، حياة لا يمكن إيقافها ولا إيجاد بديل لها، وهو التعريف الأوضح لحياة الفقراء، التي لا يمكن احتمالها، يقدّمها المخرج هنا بلا تجميل سينمائي معتاد، فهل من شيء أقسى من ذلك؟
لا شيء يتغير لدى الفقراء
يبدأ فيلم “حكايات شادية وأختها سحر” في توكتوك صغير، وسط زحام مدينة طاحنة، تجلس فيه ابنة شادية التي تبحث عن أبيها لنيل نفقة تساعدها في أن تدرس بمعهد السينما.
وبالطريقة ذاتها ينتهي الفيلم، بعد أن يقض مضجع كل مُشاهد بحكاية قاسية، اعتدنا سماعها دائما بحدة أقل. وكما بدأ فيلم “ورد مسموم” في المولد الكبير، الذي نشاهد فيه رحلة، تُقطع في دائرة مغلقة، ثم تنتهي في المولد مرة أخرى، نشاهد الفيلم الجديد، ففيه قسوة متعّمدة من رجل عايش قصصه واقعيا أكثر مما يبدو، لا ليجعلها مجرد “حدوتة” سينما، بل ليستعرض هنا سؤاله الصادم الحقيقي المتكرر: ما الذي يتغير في حياة الفقراء؟

يقول أحمد: كنت أضحك عندما أعلم أن أحدا سحرته شاشة السينما، فقرر أن يصبح صانع أفلام، أنا لا علاقة لي بالسينما، إنما سحرتني حكايات الناس التي أردت أن أحكيها.
هكذا يحكي أثناء جلستنا تصوراته عن السينما، التي دائما ما كانت تتعارض مع نظرة أساتذته بمعهد السينما، فمنذ لحظة دخوله واجهته نظرتان: أساتذة لديهم قواعد للصناعة والعوالم والسينما، وتلميذ يحاول تغيير تلك النظرة.
عوالم عادية أم خارقة؟ لا نعلم تماما، فهذا العالم يبدو هجينا أو مثيرا للريبة، وفي أعمق نقطة ممكنة يبدو مقصودا في كل خطوة.
تجد في بداية الفيلم اختيارا مقصودا أن تُكتب المقدمة بخط عربي مكتوب يدويا ومصحح على الحاسوب يحمل أسماء الأبطال، فتظن أنك في عالم لرجل يميل للقديم نوعيا، ثم يفاجئك سريعا أنه اختار الموسيقى التصويرية للعمل من أعمال “مولوتوف”، موسيقى إلكترونية صاخبة. ثمة إزعاج يعبر عن صانعه أكثر من أي شيء آخر، فهو يحاول عبثا أن يثأر من ظلم عايشه.

ولأن الفنان ليس ذا دور اجتماعي في نظره، فربما يصعّد كل هذا الإزعاج ليدرك مشاهِد في عالم بعيد أن وراء السينما التي نفهمها قسوة أبعد، وحيوات أكثر رتابة مما نعيد، وهذا يكفي للإزعاج والصدامية التي يقر بها المحب والغاضب.
لا يمكننا إقناع أحمد فوزي صالح بأن يترك الندية الواقعية المفرطة التي تميّزه، بل علينا تتبع المشروع معه، رويدا رويدا، على المستوى الشخصي والعام، وإخباره أن يعمل على مشروعات أكثر، تتيح لنا أن نرى إنتاجاته باستمرار، بدلا من الانتظار عدة سنوات بين كل عمل وآخر.
نحن نرى بعدسته حكاية عادية أخرى، تُحكى بصدق شديد عن حياة الفقراء الحقيقية غير المتخيلة، كما في أفلام السينما، لكنها أكثر تصالحا مع أن تُحكى حكيا أصيلا.
