فيروز.. غنّت لبغداد عام 1954 وغنّت فيها عام 1976 زيارة لم تتكرّر.. والزعل طوّل !!

ما زالت تتردّد في فضاءات المدينة وزوايا الذاكرة، صباحا ومساء، في مناسباتها وغير مناسباتها، كلمات أغنية فيروز:
بغدادُ والشُّعراءُ والصُّوَرُ
ذَهَبُ الزمانِ وضَوعُهُ العَطِرُ
يلتصق صداها بالبيوت وشرفات الخشب القديمة المزخرفة (الشناشيل)، وبالشوارع والأزقّة والأشجار، وبحافلات النقل العام وسيارات الأجرة، وبالمقاهي والمطاعم وأندية الطلاب في الجامعات.

أغنية أصبحت نشيدا وطنيا غير رسمي، يحتفي به أهل بغداد ويتغنون به، وكذلك أهل العراق أجمعين، الذين يفخرون بأن فيروز غنت لهم ولعاصمتهم وتاريخها بكلّ بهاء وجمال وعنفوان.
وهم لا ينفكون يجددون وفاءهم لهذه الأغنية، في سراء المدينة وضرائها، فهي تستنهض الهمم بعفوية، وتدمع لها العيون، مرة بالأسى وأخرى بالفخر. حتى في الأحاديث العادية، فكلما ذُكر اسم بغداد ردّ السامع تلقائيا: “والشعراءُ والصُوَرُ”، فهي أغنية صافية نقية عابقة بعطر التاريخ، وبمحبة لا تُضاهى.
الأغنية الأولى.. تحيّة من لبنان (1954)
جاءت فيروز إلى بغداد عام 1976، وغنّت على مسارحها تلك القصيدة، وكانت قد غنّت للعاصمة العراقيّة في بداياتها اللامعة الأولى.
كانت تلك المرّة الأولى عام 1954، عند زيارة ملك العراق فيصل الثاني (1935-1958) إلى لبنان، فأنتجت الإذاعة اللبنانيّة أغنية من كلمات الأخوين رحباني وألحانهما، حملت عنوان “دارُ السّلام”، ولم يرد في نصها أي ذكر للملك.

يبدأ مطلعها:
دارُ السلامِ على الأنسامِ ألحانُ
يزفُّهُ من ربوعِ الأرزِ لبنانُ
ينسجم عدم ذكر اسم الملك مع سياسة الرحبانيين طوال مسيرتهما مع فيروز، كما يوضح الناقد الفني اللبناني محمود الزيباوي، فقد التزما الامتناع عن ذكر أسماء الحكّام والزعماء في أغنياتهما، وقد سُجلت الأغنية على أسطوانة، ولم تُؤدَّ في حفل.
دارُ السلام.. هدية من لبنان إلى بغداد
يذكر الكاتب العراقي د. سيّار الجميل أن فيروز غنت هذه الأغنية بطلب من الرئيس اللبناني كميل شمعون (1952-1958)، وكان يكن تقديرا للعراق واعتزازا كبيرا بالملك فيصل الثاني. فكانت أغنية “دارُ السلام” هدية من لبنان إلى بغداد.

ويقول الجميل إن الأخوين رحباني أعادا تسجيل الأغنية في القاهرة عام 1955، وكانت أول الأعمال التي سجلتها فيروز في العاصمة المصرية، ضمن رحلة فنية “أثمرت 48 عملا غنائيا”، بحسب ما أورده الناقد الفني محمود الزيباوي.

وقد عدل الأخوان الرحبانيان المطلع، ليصبح خاصا ببغداد، فأصبح هكذا:
دارُ السلام على الأنسامِ ألحانُ
يزفُّها طائرٌ والصبحُ فتّانُ
وكان في نسخته الأولى “تحيّةً من ربوع الأرز”. وبهذا التعديل أصبحت القصيدة تحيّة خالصة لبغداد، لا لحدث الزيارة الملكية. وفي الأغنية تشدو فيروز:
“بغدادُ يا واحةً في الدهرِ مزهرةً
بالعزِّ تُغلى وبالأمجادِ تزدانُ”
وهو شدوٌ يُثير في نفس السامع شجنَ المحبة لمدينة حيّة نابضة بتاريخها.

وقد استخدمت موسيقى المطلع فيما بعد مقدمة لبرنامج “البث المباشر” في إذاعة بغداد، الذي كان يُبث من الساعة 10 صباحا حتى 11، وكذلك لبرنامج آخر في إذاعة صوت الجماهير.
ويرى مهتمون أن الأغنية كانت تصلح أن تكون نشيدا وطنيا للعراق، لا سيما وقد عجز السياسيون عن الاتفاق على نشيد جديد منذ عام 2003.
سيدة الصباح في العراق
مما يستحقّ التوقف عنده أن العراق كان أول بلد عربي يبث أغنيات فيروز صباحا، فقد أمر الرئيس أحمد حسن البكر (1914-1982) إذاعة بغداد في عام 1969 بأن تفتتح بثّها اليومي بعد النشيد الوطني، ثم تلاوة القرآن الكريم والدعاء، بباقة مختارة من أغاني فيروز، تبعث الأمل والتفاؤل في نفوس المستمعين.

لقد أصبح صوتها العذب يرافق الصباح العراقي، وشيئا فشيئا شاع الإجماع على أن فيروز هي سيدة الصباح.
زيارة لا تُنسى (1976)
كانت زيارة فيروز الوحيدة إلى بغداد في شباط/ فبراير 1976 حدثا غير عادي عند العراقيين، الذين اعتادوا سماع أغانيها صباحا في الإذاعة، فقد شعر الناس يومئذ أن صوتها الذي يفتتح نهاراتهم اليومية، صار يطل عليهم مباشرة على مسارح بغداد، كأنّه يمنحهم إكسير الأمل مع نسمات الفجر، وخلال أيام عدة لم يكن يُسمَع في مذياع أو بيت أو شارع سوى صوت فيروز.

كانت تلك زيارتها الوحيدة إلى بغداد، ولم تتكرّر في السنوات اللاحقة، وقد جاءت بعد 10 أشهر من اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان/ أبريل 1975، بعد تأجيل متكرر. وقد رحبت بها صحف عراقية بعناوين دافئة، منها: “جاءنا لبنان مع كل آهة فيروزية”، ومنها “أهلا صوت المحبة”.
زيارة بدعوة رسمية
أظهرت فيروز في تلك الرحلة موقفا مشهودا، حين طلبت إزالة الصور والشعارات السياسية عن المسرح، قبل أن تبدأ الغناء أمام جمهورها المتعطّش لسماعها، وكان ذلك دليلا على تمسكها بفنها، بعيدا عن التوظيف السياسي المباشر.
نشرت الصحف اللبنانيّة يومئذ، أن فيروز سافرت إلى بغداد مع الأخوين رحباني، والمطرب نصري شمس الدين، ومعهم ابنها زياد الرحباني، لإحياء حفلات غنائية واستعراضية، شاركت فيها الفرقة الشعبية اللبنانية، بمناسبة احتفالات ذكرى ثورة 8 شباط، وذلك تلبيةً لدعوة من وزارة الإعلام العراقية.

وجاء في إحدى الصحف اللبنانية خبرٌ بعنوان: “فيروز تغنّي لثورة بغداد”، وذكر الخبر أيضا أنها أول زيارة لها إلى العراق، وقالت بعض المصادر إن وسيط ترتيب الزيارة هو الموسيقار وليد غلمية (1938-2011).
قصيدة محبة في بغداد
في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الاثنين 7 شباط/ فبراير 1976، وصلت الفنانة فيروز إلى مطار بغداد الدولي، وكان الاستقبال مهيبا وحافلا، وقد هبطت من الطائرة لابسة معطف فرو أسود، وتحمل حقيبة يد برتقالية، وتضع نظارات شمسية كبيرة.

في صالة الشرف بالمطار، قالت فيروز للصحفيين بأسى: آسفة جدا لتأجيل حفلاتي مرارا، بسبب الأحداث المؤلمة في بلدي لبنان، ولم أستطع أن أقدم لشعبي خلال تلك الأيام سوى الألم والحزن. أما اليوم فأشعر بالسعادة لأنني سأتمكن في الأيام القليلة المقبلة من تقديم أغنياتي لجمهور بغداد، فبغداد عزيزة علينا دائما.
وقد جاءت معها الفرقة الشعبية اللبنانية للرقص، وهي مؤلفة من 85 فردا، وكان معها فنانون آخرون، منهم أختها هدى حدّاد، والمطرب جوزيف ناصيف، والمطرب محمد السراج.
في قاعة الخلد.. صوت يتحدى السلطة
بعد ساعات قليلة من وصول فيروز إلى بغداد، كانت قاعة الخلد الكبيرة الشهيرة محطتها الثانية، بعد محطة فندق بغداد، فبدأت التدريبات استعدادا لأول حفلاتها في العاصمة العراقية.

كانت فيروز تلبس عباءة وردية مطرّزة بخيوط سوداء، وتتنقل بخفة بين الأغنيات، توجه العازفين وتطلق النكات وتضحك من قلبها. وقد وصفتها الصحفية إنعام كجه جي في تقريرها عن تلك التدريبات قائلة:
فيروز على المسرح غير تلك التي نعرفها من شاشة التلفزيون. إنها تتحرك بحيوية، توجّه الموسيقيين بثقة، وتضحك بصوت عال، فتدهشنا: لماذا تبخل فيروز بهذه الضحكة أمام الكاميرا؟
وكان يقف بجانبها زوجها عاصي الرحباني، معتمرا قبعة حمراء عريضة، يحمل عصا يوجّه بها العازفين بنشاط لافت، في مشهد يفيض بالحياة والانسجام الفني.
انبهار بغداد
جاء موعد إقامة الحفلات، وكان انبهار فيروز بجمهور بغداد كبيرا، فقد غصّت به القاعة، ووقف الحاضرون مصفقين مهللين، بعضهم بدموع الفرح، وبعضهم بدهشة الإعجاب، ولم يكن تصفيقهم في نهاية الأغنيات فقط، بل بين المقاطع أيضا، كأنهم يحيون وطنهم بصوتها.

بلغ سعر التذكرة يومئذ نحو 20 دينارا عراقيا (قرابة 60 دولارا في ذلك الوقت)، وكان الحفل يُعد من أرفع المناسبات الفنية في العراق.
حادثة فريدة في قاعة الخلد
شهدت القاعة حادثة فريدة غير متوقعة، فقد فوجئ الأخوان رحباني وفيروز بطلب رسمي من وزارة الإعلام، جاء بإيعاز من بعض النخب الحاكمة، يقضي بضرورة الإشارة إلى اسمي الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين في الأغنية التي ستغنيها لبغداد.

ويبدو أن بعض مسؤولي الوزارة كانوا قد علموا بمضمون الأغنية أثناء التدريبات، أو من تسريبات صحفية، فحاولوا إدخالها ضمن خطاب تمجيدي للسلطة.
لكن الأخوين رحباني -وهما المؤلفان شعرا ولحنا- رفضا الطلب رفضا قاطعا، بحجة أنه لم يُذكر في العقد، وأن الأغنية أعدت خصيصا لبغداد، لتكريم تاريخها الحضاري، لا لتمجيد أفراد أو زعماء.
وقال الرحبانيان إنهما مستعدان للعودة إلى بيروت، وإلغاء الحفل، إذا أصرت السلطات على طلبها، فلما يئس المسؤولون اقترحوا حلا وسطا، يتمثل في وضع صورة كبيرة من الرئيس على خشبة المسرح.
لكن فيروز رفضت بشجاعة، وقالت عبارتها الشهيرة:
أنا أغني للشعب العراقي، لا للرئيس ولا لنائبه.
أدى ذلك إلى تأجيل الحفل يوما كاملا، وظل رجال السلطة يفاوضونها لإيجاد مخرج “مشرف”، وبعد لأي توصلوا إلى حل وسط قبلته فيروز، وهو أن توضع الصورة بأقصى يسار المسرح، بشرط ألا تُسلَّط عليها الإنارة، كي لا تبدو واضحة للجمهور.
وبذلك نجت فيروز من الإحراج، وخرجت من الفخ السياسي، محافظة على مكانتها صوتا للشعب لا للسلطة، وفنانةً حملت رسالتها بصدق وكرامة، في زمن كان الفن فيه خاضعا للولاءات.
ليلة ملتهبة بالسحر الفيروزي
أول ما غنت فيروز بعد قصيدة بغداد هي أغنيتها الشهيرة:
نسم علينا الهوا من مفرق الوادي
يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي
ثم قدّمت دبكة رافقت أغنية “غيَّروا أهل الهوى”، ثم أطلّت هدى حداد على الخشبة وهي تغني “العربيات”، ثم جاء دور نصري شمس الدين، فأطلق صوته بأغنية “العتابا”، وأتبعها بأغنية “يا ظريف الطول” بمرافقة فرقة الرقص.
وما لبثت أن عادت فيروز، فغنت “حبيتك بالصيف”، ثم “دخلك يا طير الوروار”، قبل أن تستحضر شخصية “حنا السكران” القاعد خلف الدكان!
ثم عادت راقصات الفرقة الشعبية، فتسيّدن خشبة المسرح، وقدمن رقصة “المناديل”، ثم دخل راقصو الفرقة، فقدّموا دبكتهم المميزة مع المطرب محمد السراج، الذي غنّى “إحنا المراجل”، ثم “سيف المراجل حكم”، وزيّن مشاركته بموّال عراقي تعاطف معه الجمهور كثيرا.

وبعد ذلك عادت فيروز، وقدّمت “استعراض الحرس”، وهو استعراض موسيقي راقص، انتهى بغنائها أغنية “راحت أيام الصيفية”، ثم تلاها جوزيف ناصيف بأغنية “هيفاء”، ثم هدى بأغنية “يا شاويش”، ثم كانت فيروز مسك ختام الفصل الأول، فغنت “الآن الآن وليس غدا”، و”سنرجع يوما إلى حينا”، وهاتان الأغنيتان عن فلسطين أشعلتا المسرح، فاهتزت لهما الأكف تصفيقا وهتافا.
بعد الاستراحة القصيرة، بدأ الفصل الثاني بالموشحات الأندلسية، التي رافقتها رقصات مستوحاة من رقصة “السماح” الأندلسية. ثم غنّت فيروز “ارجعي يا ألف ليلة”، و”يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ”، و”لما بدا يتثنّى”، ثم كانت الخشبة متاحة لهدى ونصري والمجموعة في أغنية “دقوا المهازيج خلي الهوا جنوبي”، ثم تلتها رقصة “المجوز”.

وفي الختام، أضاءت فيروز خشبة المسرح من جديد، وأطلقت صوتها بأغنية “سألوني الناس عنك يا حبيبي”، ثم التئم شمل الجميع على أنغام “الدلعونا” و“يا غزيل” و”دبكة لبنان”، ثم أُسدلت الستارة على تصفيق حار متواصل من الجمهور، الذي لم يشأ أن ينتهي ذلك السحر الرحباني البغدادي.
“زوروني كل سنة مرة”.. وداع بغداد
أحيت فيروز 3 حفلات متتالية في بغداد، افتتحتها جميعا بأغنية “بغداد والشعراء والصور”، ثم ختمتها بأغنية الوداع “زوروني كل سنة مرة”. وتصف الصحفية ابتسام عبد الله المشهد الأخير قائلة:
كانت القاعة تلتهب بالتصفيق، وفيروز واقفة كزنبقة بيضاء على المسرح، تغني بعينين دامعتين، كأنها تودع المدينة وأهلها.
بعد الحفل، عبرت فيروز عن حبها لبغداد، قائلة: تعرفتُ عليها عن قرب، وازداد حبي لها. حزنت وأنا أغني “زوروني كل سنة مرة”، فقد كان الجمهور العراقي ذواقا ومخلصا.

ذكرت أيضا أنها اشترت من بغداد عباءة عراقية، لبستها في زيارتها لكربلاء، واشترت حلويات تقليدية وبطانيات أعجبتها جودتها، وقالت بانبهار: المساجد في كربلاء تحف فنية من نور، وزخارف دقيقة كأنها من الماس.
هل “زعلت” فيروز على بغداد؟
لم تزر فيروز بغداد بعد ذلك قط، مع حبها الكبير لها، فبعد أيام من زيارتها، شن الإعلام العراقي حملة قاسية عليها، ونشرت مجلة “ألف باء” الرسمية لافتة صادمة بعنوان: فيروز في المزاد العلني!
كان ذلك لأنها ذهبت إلى دمشق، وغنت فيها بعد حفلاتها في بغداد، فتلك “خيانة سياسية” وفق الانقسام بين ما سمي آنذاك “جبهة الرفض” في العراق، و”جبهة التسوية” في سوريا.

وهكذا انتهت زيارة فيروز التاريخية التي غنت فيها لبغداد بكل الحب، لكن “الزعل السياسي” أطفأ دفء اللقاء، وبقي صوتها وحده يربط بين الحنين والعراق.
تمر الأعوام، وتتقلب الأزمنة، وتتغير الأنظمة، وتتشابك الأحداث، ويختفي كثيرون ويأتي آخرون، وتكتظ الدنيا بالأغاني وتضج الشوارع بالأصوات، لكن حين يطل صوت فيروز حاملا على طبقاته الذهبية اسم بغداد، يردد الناس وكأنهم صدى ذلك الجمال الأبدي: “والشعراء والصور”.
