“أخوات”.. رحلة ثلاث فرنسيات للبحث عن الأخ المفقود في الجزائر

ندى الأزهري

حين يجتمع في فيلم موضوع جاذب عن ثلاث شقيقات فرنسيات جزائريات عشن ثلاثين عاما على أمل إيجاد شقيقهن الذي اختطفه والدهن واختفى به في الجزائر، فإن التوقعات ستكون عالية حول هذا الفيلم، وفرصة حضوره لا تفوّت، لا سيما أن الأخوات تجسدهن ممثلات ذوات رصيد مُعتبر في ماضي السينما الفرنسية وحاضرها، مع مخرجة سبق لها أن قدمت فيلما مهما. لكن “أخوات” (Soeurs) للفرنسية الجزائرية “يامينا بن غيغي” لم يكن على مستوى هذه التوقعات، ولم يحقق الغاية المنشودة منه.

صُوّر الفيلم عام 2018، لكنه لم يُعرض إلا هذا العام بسبب إغلاق الصالات السينمائية في فرنسا لعدة شهور، وما تبع ذلك من تأخير في جداول العرض جراء جائحة كورونا. ومن المهم الإشارة لذلك لما يُلحظ من تشابه بين فكرة هذا الفيلم وآخر سبقه بالعرض، لكن ليس بالإنتاج، وهو فيلم “آ.د.ن” (ADN) للمخرجة الفرنسية “مايوين” (تحضر كممثلة أيضا في الفيلمين).

 

“أخوات” و”آ.د.ن”.. أفلام الحنين إلى الموطن الأصلي

يتطرق الفيلمان “أخوات” و”آ.د.ن” كلاهما إلى العائلة والهوية وتنازع الانتماء بين بلدين هما فرنسا والجزائر، ثمة شبه آخر قائم على رغبة في العودة إلى الأصول عبر اكتشاف بلد “قريب بعيد”، مكانيا على الأقل.

هناك أيضا جزئية متشابهة بينهما تتعلق بزمن وصول الشخصيات إلى الجزائر بلد المنشأ، وهو وصول ترافق مع الحراك الجزائري، وبينما شكّل هذا أملا وبهجة ودافعا لاندماج عاطفي فوري للشخصية الرئيسية في فيلم “آ.د.ن”، فإنه في “أخوات” كان مصدرا لارتباك وخيبة بسبب تعثّر عملية البحث عن الأب، بالتالي شكّلت صعوبة التنقل بين المدن أثناء الحراك عائقا أمام العثور على أخيهن المفقود.

 

احتضار الأب.. بداية رحلة البحث في الجزائر

الأخوات الثلاث كنّ يعشن مع أمهن في فرنسا، حيث رسمت كلّ واحدة منهن طريقا يُبدي اندماجا ظاهريا، دون أن يعني نسيانا للأصول، فزُهرة (الممثلة إيزابيل أدجاني) تطاردها أشباح الماضي في مؤلفها المسرحي، حيث تستوحي فيه قصة عائلتها بعد ثلاثين عاما مع أب عنيف ناشط على الأراضي الفرنسية في صفوف جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وأمّ ثورية دفعتها شراسة الأب للطلاق، فجاء انتقامه عبر خطف الصغيرة نورة والشقيق الأصغر وترحيلهما إلى الجزائر.

نجاح استعادة نورة لم يُنس الأم والشقيقات الابن الغائب، وفي نصّها المسرحي كما في الحياة يطارد زهرة سؤال لا إجابة عليه عن مصيره. هذا الماضي لا يُسترجع فقط في العمل المسرحي، بل يعود ليفرض نفسه على واقع الأسرة من جديد.

فها هو الأب يحتضر بالجزائر، لتجدها الأم فرصة ربما تكون الأخيرة لمعرفة مصير وحيدها ورؤيته مرة أخرى، حيث تُقرر إرسال زُهرة وشقيقتيها جميلة (الممثلة رشيدة براكني) ونورة (الممثلة مايوين) إلى الجزائر، وذلك على أمل أن يكشف لهن الأب عن مكان شقيقهن، فماذا سيجدن في جزائر لم يطأنها منذ الطفولة؟ وماذا سيجدن في بلد مضطرب تهبّ عليه رياح الثورة، وأب اختفى ولم يعد في المستشفى؟

الأخوات الثلاث الممثلات رشيدة براكني بدور جميلة وإيزابيل أدجاني بدور زُهرة ومايوين

 

“إن شاء الله الأحد”.. سيرة ذاتية لمخرجة مهتمة بقضايا الهجرة

فيلم “أخوات” هو نوع من أفلام السيرة الذاتية للمخرجة يامينا بن غيغي التي تهتم بقضايا الهجرة والانتماء لأبناء المغرب الكبير، وكانت عُرفت من خلال فيلمها “إن شاء الله الأحد” (2001) الذي تطرقت فيه إلى ذاكرة آباء منسيين، سواء من بلدهم الأصلي الجزائر، أو من بلد الوصول فرنسا.

تتابع بن غيغي النهج في فيلمها “أخوات”، فترسم لوحة لعائلة يُلاحقها هاجس الهوية، لكنها لم تكتفِ بهذا المحور المهم، بل تشتت على محاور متفرعة في سيناريو مُزعزع (كتبته بمشاركة مكسيم سعادة)، واعتمدت في إخراجها سردا متعدد الخطوط والمستويات، مما أبعد الفيلم عن الوصول إلى غايته، فجاءت إثارته لأسئلة مهمة وأساسية عن عنف الآباء وخطف الأبناء، والبحث عن الانتماء والهوية المُشتتة بين ثقافتين وأرضين؛ سطحية ومتخبطة، ولم ينجح الإخراج في ربط كل هذه العناصر معا بلغة سينمائية قوية ومعبرة.

الممثلة فطومة بو عماري بدور ليلى أم الفتيات الثلاث اللواتي يبحثن عن أخيهن في الجزائر

 

فرنسا والجزائر والحاضر والماضي.. مستويات السرد

تنقّل السرد بين مستويات زمنية ومكانية عدة، فالحاضر في فرنسا مع الأمّ ليلى (الممثلة فطومة بو عماري) وبناتها الثلاث وحفيدتها حفصية حرزي، وذلك في خلط مقصود بين الحقيقة والمُتخيل، وتتخلل هذا الحاضر بروفات مسرحية زُهرة الواقعة زمنيا في الماضي، وهناك أيضا الحاضر الجزائري المُتجسّد في بحث الأخوات عن أبيهن.

ويأتي المستوى الزماني والمكاني الثالث في الفيلم المعقد في تركيبه، فهو يجري في الزمن الماضي، لكن جزءا منه واقعي (مشاهد عودة إلى الوراء لزهرة في محاولات لتذكر أحداث تدعم مسرحيتها)، وآخر خيالي يتجسد في مسرحية زهرة.

هكذا تضيّع المخرجة المُشاهد في محاولاتها للبحث عن أسلوب إخراجي مبتكر يحيل قصة بسيطة لكن ثرية بمحتواها، إلى سرد شائك دون مبررات درامية، بل يبدو الأمر وكأنه مُتعمّد، في محاولة لابتكار ورسم شكل وتحديد إطار للحدث يُغطي عليه ويشوشه ويضيّع أهميته.

جانب من الحراك الجزائري والشباب المشاركين في الثورة في العاصمة الجزائرية

 

الحراك الجزائري.. توقيت مناسب وأجواء غريبة

بعد بداية قوية ومُشوّقة للفيلم يسقط السيناريو في مراوحة ثقيلة، ويضع بطلاته في أحوال غير مريحة، بل مربكة في بعض المشاهد، لا سيما تلك المُصوّرة في الجزائر، وحين يغيب الحدث وتتكرر المواقف؛ يبدو الحراك هناك كأنه مناسبة ذهبية لتعبئة الفراغ. ومع أن اختياره كتوقيت كان مناسبا لكونه يتلاقى -كرمز إنهاء سلطة أبوية في البلد- مع سعي البنات للتخلص من تحكم الأب، فإنه غير ملائم للدخول في نقاشات وتحضيرات الثورة.

هكذا وضع السرد الفتيات صدفة في أجواء غريبة عليهن، أجواء مجموعات من الشباب المشاركين في الثورة وهم يحضّرون للتظاهر، فحلّ ارتباك وحيرة لديهن، بينما كان من الممكن هنا التوغل أعمق في مشاعرهن، وإبداء هذه الهوّة التي تفصلهن عما يجري من حولهن، عن بلدهن الآخر الجزائر. فيبدون في ضياع لا يقودهن إخراج، بل يقدن أنفسهن كممثلات شهيرات كبيرات، لكنهن مع فيلم كهذا لم ينجحن حتى في أسر المُشاهد، ولا في هزّ مشاعره.

بالطبع ثمة استثناءات تجلّت في مواقف بسيطة خلال تجسيد مسرحية زهرة مع الأم وهي شابة (أدته أيضا حفصية حرزي)، ومشاهد لنورة الهشة والمتأثرة نفسيا من ترك الأخ بين يدي الأب بعد إنقاذ أخت لها وهي صغيرة.

كانت نورة تبدو طوال الفيلم في ابتعادها وانفصالها عن أختيها وكأنها في عالم خاص بها، بينما كانت العلاقة بين الأخوات هستيرية في عدة مواقف، وملأها صراخ غير مجدٍ لإثارة العواطف وصل لعراك سخيف بالأيدي بين جميلة ونورة.

الأخوات الفرنسيات الجزائريات على أمل إيجاد شقيق المفقود في الجزائر

 

نبش الجزء الهارب من الذاكرة.. غلبة الممثل على المخرج

صُوّر الفيلم خلال 11 أسبوعا في الجزائر العاصمة ووهران والقسطنطينة، ثم في باريس وشمال فرنسا، واقتصر معظمه على بطلاته، وكان الدور الوحيد المهم للذكور هو ممثل دور الأب رشيد جيداني في المسرحية، بينما كانت فكرة لجوء المخرجة لممثلاث شهيرات من أصول جزائرية يُجسّدن عدة أجيال من المهاجرين؛ فكرة ذكية وخطرة في نفس الوقت.

لم تقو المخرجة على إدارة هؤلاء الممثلات وتركتهن لمصائرهن، سواء هؤلاء اللواتي مثّلن الجيل الأول مثل الممثلة المعروفة “إيزابيل أدجاني” (ويقال عجّاني، وهي من أب جزائري وأم ألمانية)، ورشيدة براكني الممثلة المسرحية الرفيعة، أم اللواتي مثلن الجيل الثاني مثل “مايوين” التي حققت فيلمها كما ذكر في البداية عن أصولها الجزائرية، أم من الجيل الثالث مثل حفصية حرزي وهي ممثلة ومخرجة فرنسية.

المخرجة صرحت في لقاء أنها دعتهن لـ”نبش الذاكرة، وهذا الجزء الجزائري منهن”، الجزء الهارب كما وصفته، “الهارب” الذي لم تستطع الإمساك به وإقناع المشاهد بوجوده على الأقل في الفيلم.