“أسير بأقصى ما أستطيع”.. أسطورة صربية تنغص كفاح اللاجئين في أوروبا

خالد عبد العزيز

لم يدر بخلد الشاعر والنبيل الصربي “ستراهينا” أن تُقتلع زوجته من حياته فجأة في عملية اختطاف مُدبرة، وتتحول حياته من ثبات الأصل إلى زعزعة الفروع، تنقله رياح البلدان الواحدة تلو الأخرى بحثا عن قبس نور يُضيء طريقه، ويرشده لمستقر زوجته البعيدة.

هكذا تقول الأسطورة عن الشاعر الصربي “ستراهينا” الذي نُظمت عنه المقاطع الشعرية في العصور الوسطى، وتتناقلها بلاد البلقان حتى اليوم، ومن تلك الحكايات المتداولة يقتبس المخرج الصربي “ستيفان أرسينجيفيتش” فكرة فيلمه الأحدث “أسير بأقصى ما أستطيع” (As Far As I Can Walk) الذي أنتج عام 2021، وقد اشتركت في إنتاجه صربيا وفرنسا وبلغاريا ولتوانيا، وعُرض في مهرجان كارلوفي فاري في الدورة الخامسة والخمسين، وحصد جائزة الكرة الكريستالية عن فئة أفضل فيلم.

إبحار في دواخل اللاجئ العربي.. منظور سينمائي جديد

يُمسك المخرج بالخيط الأسطوري وينسجه في بناء حداثي عبر سيناريو اشترك في كتابته مع “نيكولاس دورسي” وبوجان فيولتك”، حيث اعتمد فيه على حكاية النبيل الصربي الباحث عن زوجته، لكن هنا رغم تماثل الفكرة، فإن الطرح الفكري يحمل أبعادا وقضايا أخرى أكثر إنسانية من حدودها السابقة المُحددة سلفا.

 

يتناول الفيلم قضية اللاجئين في بلاد القارة الأوروبية العجوز دون تحديد، وإن كان التركيز بصفة أكبر على اللاجئين العرب، حيث يعبر عن قضيتهم ليس بخفة كما هو معتاد في مثل تلك الأفلام، لكنه يتعمق في دواخلهم، ويرصد بعين برّاقة همومهم وأحلامهم، والأهم هو تقديم رؤية متعاطفة مع اللاجئ كثيرا ما تفتقدها السينما العالمية.

تدور الأحداث حول “ستراهينا” (الممثل الفرنسي إبراهيم كوما) وزوجته “آبابو” (الممثلة الغانية نانسي مينساه) اللاجئين من غانا في أحد معسكرات اللاجئين في صربيا، حيث يلتقي الزوجان باللاجئ السوري “علي” (الممثل مكسيم خليل)، وهنا تتبدل حياتهما نحو وضع مغاير لم يألفه أحدهما من قبل.

“ستراهينا”.. أسطورة متجددة من عمق الذاكرة الصربية

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه “ستراهينا” يجلس أمام أحد مكاتب شؤون اللاجئين، يُجيب على الأسئلة الموجهة له بهدوء وثبات يخفيان توترا ملحوظا، فقد اختار الفيلم أن تبدأ الأحداث من العكس، أي من النهاية في سرد دائري، فنهايته هي بدايته، والعكس صحيح، ثم يأتي التعليق الصوتي يسرد مقاطع من الأسطورة القديمة عن النبيل الصربي “ستراهينا”، لكن الأشعار الخيالية هذه المرة مُطعمة بالحاضر، وتختلط بمتن الفيلم والحكاية الأصلية التي تدور حولها الأحداث.

جعل السيناريو الأحداث تدور في الحاضر، رغم أنه ينطلق من تلك الأسطورة القديمة، حيث يستند على الماضي ليبحث في الحاضر، فعندما يعود الفنان للماضي لا يعود إليه بغرض إعادة تدوير حكاية متداولة ومعروفة، لكن لطرح الأسئلة، أو تقديم الحاضر بعين مُغايرة تتيح حرية أكبر في التناول.

الممثل الفرنسي إبراهيم كوما الذي قام بدور اللاجئ الغيني”ستراهينا” خلال رحلة اللجوء إلى صربيا

 

ففي هذا الفيلم نلمح صفات عامة للقصة الأصلية، لكن يجري تشكيلها في إطار واقعي يطرح الأسئلة بجرأة ودون مواربة عن الوضع العالمي الحالي للاجئين.

تقول الأسطورة إن النبيل “ستراهينا” تعرضت حياته لتبدل بعدما اخُتطفت زوجته، وفي الفيلم تنطلق الأحداث من هجرة زوجة البطل “ستراهينا” إلى معسكر اللاجئين هاربة من زوجها، يبدأ الشاعر الشهير رحلة بحث طويلة عن زوجته، وبطلنا يقوم برحلة مماثلة، فالتماس بين الشخصية الأسطورية والشخصية الحالية يكاد يصل حد التطابق.

لقد اعتمد السيناريو المحبوك التفاصيل والحبكة على الاسم نفسه، في دلالة أن الحاضر ما هو إلا وعاء للتاريخ، فإذا شهدت العصور الوسطى ملامح شتات أوروبي قبيل تشكيل القارة الأوروبية بثوبها الحالي، فالعصر الحاضر يشهد هو الآخر شتاتا من نوع آخر يقع ضحيته كثير من اللاجئين العرب والمسلمين، وكأن التاريخ يُعيد ذاته مع تبادل الأدوار.

مخيم اللاجئين.. صورة بانورامية عن الصراع من أجل الوجود

يجلس “ستراهينا” بجوار زوجته “آبابو” يتبادلان الحديث والوجوم يعلو وجها، دون أن يدري له سببا واضحا، وفي عمق مجال الصورة مكتوب بحروف عربية “أنا أحبك”، في دلالة سيميولوجية (علم العلامات)، لندرك أن المشهد يدور داخل مخيم لاجئين، فالكاميرا لا تُفصح عن هوية المكان إلا في المشهد التالي.

يجلس “ستراهينا” بجوار زوجته “آبابو”، وفي عمق مجال الصورة مكتوب بحروف عربية “أنا أحبك”،  لندرك أن المشهد يدور داخل مخيم لاجئين

 

فقد اختار السيناريو أن تقع أحداثه بين إطارين لا ثالث لهما، كل منهما يستند على الآخر، ويشكل ملمحا رئيسيا لتكامل البنية السردية، الشق الأول يدور حول اللاجئين، ومحاولة تقديم صورة بانورامية أمينة عن صراعهم من أجل الوجود، أما الشق الآخر الذي يستند عليه الجزء الأول من السرد، فيطرح أسئلة وعرة عن جوهر التضحية في الحب، وأيهما أبقى الحب أم التضحية؟

ينطلق المحور الأول من مضمون السرد من قضية إنسانية شائكة للغاية، وهي حقوق اللاجئين في أوروبا، فالفكرة المعتادة في مثل هذه الأفلام هي التعبير عن الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له اللاجئ بصفة عامة، هنا نلمح رؤية حقيقية بدرجة مفزعة، فالكاميرا لا تتوانى عن التقاط مشاهد العذاب التي تصاحب اللاجئين في مراحل وصولهم لمرفأهم وبحثهم عن الاستقرار، ففي أحد المشاهد نرى أحد الأطفال نائما على سور نافذة في البرد القارس، وفي مشهد آخر نرى اصطفاف الأفراد منتظرين وجبات طعامهم الهزيلة.

“لم أكن أتوقع أن أصبح لاعب كرة قدم محترف”.. حلم اللاجئ

يقتحم السيناريو حياة اللاجئين في الداخل قبل الخارج، يغوص في أعماقهم وأحلامهم ومخاوفهم ورؤيتهم الذاتية للعالم، نرى كيف تدار حياتهم داخل معسكرات الإيواء، ورغبتهم في الخروج من أسر تلك المعسكرات نحو براح العالم هروبا من فكاك تقبض على أرواحهم، وتخنق ذواتهم التوّاقة للحرية التي يستحقونها بالتأكيد، تلك الحرية التي تجعل أحد اللاجئين السوريين يدفع مبلغا باهظا لعبور الحدود بحثا عن وطن بديل يُقدّس حريتهم، ويمنحها الحق في الوجود، مثلما نرى في أحد المشاهد، وفي مشهد آخر يرصد معاناة المهاجرين السوريين خلال عبورهم الحدود، والإمساك بهم من قِبل حرس الحدود، ليظهر فجأة أحدهم صارخاً في وجه الجنود قائلا “مهاجرين”، وكأنه يقتنص حق الحياة مثلهم، فالجميع سواسية في هذا العالم، لا فرق بين إنسان وآخر.

ستراهينا رفقة لاجئ سوري دفع مبلغا باهظا لأجل عبور الحدود الصربية المجرية بحثا عن وطن بديل يُقدّس حريته

 

في مقابل حياتهم الصعبة داخل معسكر الإيواء، يسعى البعض لتحقيق أحلامهم الخاصة التي عجزوا عن اقتناصها في بلدانهم الأصلية بعد أن لفظتهم، مثل “ستراهينا” الذي يلعب كرة القدم في إحدى الفرق بعد قبوله فيها بعد فترة تدريب، حينها تجتاحه مشاعر ممتنة يُعبر عنها قائلا “لم أكن أتوقع أن أصبح لاعب كرة قدم محترف، اليوم في وطني الجديد صربيا، وبين أخواتي الجدد، تحقق الحلم”، ليُصاب بنوبة بكاء مفاجئة.

لقد عبر السيناريو عن أحلام “ستراهينا” التي لا تُمثل أحلامه هو فقط، بل تبدو كرمز لأحلام العديد من اللاجئين الذين يبحثون عن وسيلة مناسبة للوصول إليها وتحقيقها.

“أحتاج أن أجرب حظي في الحياة”.. إلقاء حجر في ماء راكد

وفقا للأسطورة القديمة فالشاعر “ستراهينا” سينطلق في رحلة طويلة باحثا عن زوجته، وفي الفيلم نجد أن “ستراهينا” حينما يعود من احتفاله مع أصدقائه بعد قبوله في فريق كرة القدم، لا يجد زوجته في المعسكر، حيث يبحث عنها دون جدوى، ليدرك أنها تركت المعسكر، وقررت الهجرة فجأة مع الشاب العربي علي وآخرين للوصول إلى بريطانيا، لتحقيق حلمها بالعمل كممثلة مسرح، ويبدأ البطل رحلته باحثا عنها، محاولا استعادتها.

في أحد المشاهد يجلس “ستراهينا” وزوجته برفقة علي اللاجئ السوري الهارب من جحيم الحرب والديكتاتورية الدائرة في بلده، يُخبرهما أنه في طريقه إلى لندن لاستكمال دراسته في الأدب، وبالصدفة يتعرف المتفرج على مجال عمل “آبابوا” وهو التمثيل المسرحي، ليصبح لقاء علي نقطة تحول في مسار الأحداث ودفعة للسرد للأمام.

آبابوا تدلي بتصريح لوسائل الإعلام قائلة Yنها إنسان مثلهم ولها حق في الحياة، حيث يقف بجانبها اللاجئ السوري “علي”

 

كان لقاء علي مع “ستراهينا” و”آبابو” أشبه بإلقاء حجر في ماء راكد، تُرى ما الذي يدفع زوجة إلى الهروب من زوجها بتلك الطريقة؟

لقد نسج السيناريو العلاقة بين الزوجين، ففي ظاهرها تفاهم، وبداخلها ينخر السوس، فإذا كان “ستراهينا” يملك أحلامه الخاصة ويسعى لتحقيقها، فزوجته هي الأخرى لديها رؤيتها وأحلامها التي ترغب في الوصول إليها، لكن الرؤية الذاتية للزوج تجعله يرى أن ما يفعله في سبيلهما، لذلك نجدها في أحد المشاهد تصرخ قائلة “أحتاج أن أجرب حظي في الحياة”، وبالنظر إلى حياة “آبابو” داخل المعسكر نجد أن حياتها تتوزع بين مساعدة الوافدين الجدد، ومساعدة الأطفال على التعليم من خلال دروس التقوية، بعيدة عن مجال مهنتها وما ترغب أن تكونه.

بالتالي تلتحم فكرتي الفيلم عن اللاجئين، والعلاقة بين الحب والتضحية في نسيج السرد، حيث كل منهما متصل بالآخر، “آبابو” التي تهرب من معسكر لآخر تعبر الحدود، نراها في المعسكر الجديد الواقع على الحدود الصربية المجرية تُدلي بتصريح صحفي لإحدى وسائل الإعلام عن حق اللاجئين في التعبير عن أنفسهم، وسماع صوتهم المطالب بحقهم في الحياة كالآخرين.

مآسي اللاجئ على الضفتين.. رحلة الخطر

يشرع “ستراهينا” في خوض رحلة جريئة مقتحما المجهول باحثا عن زوجته، مستعيدا سيرة الشاعر الصربي القديم أثناء بحثه عن زوجته المفقودة، حيث يُجابه أثناء الرحلة ما لذّ وطاب من المخاطر، فالفيلم يقدم قضية اللاجئين في تحيز تام من خلال مشاهد قد تبدو صعبة على المتفرج، لكنها تصور واقعا حدث ويحدث، ففي أحد المشاهد نرى اللاجئين العرب يسيرون في طابور طويل بعضهم وراء بعض، وصولا للحدود الصربية المجرية، وحينما يسمع المُهرب صوت بكاء طفل رضيع، يطلب من أمه أن تترك الصف وتعود من حيث أتت، غير مبالٍ بتوسلاتها، والجميع من حولها يقف بصمت منتظر خروجها من الصف، حتى يتسنى لهم العبور، فلحظة الحياة أقوى وأبقى من أي شيء. تُرى ما الذي حلّ بهذه المرأة وطفلها؟

“ستراهينا” يجلس في القطار يعاني من نظرات الريبة من السكان الأصليين، وكأن وجوده غير مرغوب فيه

 

يُجيب الفيلم عن هذا السؤال بأسلوب غير مباشر عبر رصد عدد من المآسي التي يجابهها اللاجئ بصفة عامة أثناء وجوده في الغرب، ففي أحد المشاهد نرى “ستراهينا” يجلس في القطار يعاني من نظرات الريبة من السكان الأصليين، وكأن وجوده غير مرغوب فيه، مما يدفعه للقفز من القطار، ويواصل رحلته سيرا على الأقدام بين الأشجار والغابات وهو مختبئ خشية القبض عليه.

طوال الرحلة تقتنص الكاميرا ما يتعرض له اللاجئون من المآسي والصعوبات، بدءا من المعاملة غير الآدمية على الحدود، واكتظاظهم منتظرين الموافقة على عبورهم الخط الحدودي، مرورا بوضعهم الصعب داخل معسكرات الإيواء، ووصولا لمحاولات عبورهم المتجدد للحدود وصولا لمرفأهم الأخير ومطاردات حرس الحدود من ناحية، والمهربين وجشعهم من ناحية أخرى.

حق الحياة.. إنسانية الفرد وتوحش العالم

بالعودة إلى الأسطورة الصربية عن الشاعر “ستراهينا”، نجد أنه نجح بعد عناء في الوصول إلى زوجته واستئناف حياتهما مُجددا، أما “ستراهينا” في هذا الفيلم، فقد استطاع الوصول إلى المعسكر الذي تقطن فيه “آبابو”، قبل أن تستعد لرحلتها نحو لندن، ليأتي مشهد لقائهما وكأنه محدد نتيجته مسبقا، فكل منهما متمسك برؤيته للحياة ويرغب في تحقيق هدفه.

المخرج الصربي “ستيفان أرسينجيفيتش” بعد تتويجه بجائزة أفضل فيلم في مهرجان كارلوفي فاري

 

لقد جعل السيناريو الصراع الدرامي يدور حول الحق في الحياة، فجميع البشر متساوون وفقا لتصريح مخرج الفيلم في إحدى الحوارات، لا فرق بين مواطن ولاجئ، ومن هنا يبدو سبب آخر لخلق الشخصيات على هذا النحو، وهو الرغبة في التأكيد على إنسانية الفرد في مقابل توحش العالم الذي يراه مخرج الفيلم في التعامل مع اللاجئين المنتشرين في ربوع أوروبا وهم يبحثون عن حقهم في حياة كريمة لهم فيها كافة الحقوق، وعليهم كل الواجبات، فالحق في الوجود هو الدافع للصراع الدرامي الذي يبحث عنه الجميع.

بالتالي جاءت زوايا التصوير مُقربة من وجوه الشخصيات -تعبيرا عن الحصار- وتحديدا البطل إبراهيم كوما في شخصية “ستراهينا”، وذلك بتعبيرات وجهه المعبرة عن تفاصيل ألمه وقلقه البادي الباحث عن الاطمئنان، وقد استحق جائزة أفضل ممثل في مهرجان كارلوفي فاري الذي انحاز هذا العام بأكثر من فيلم نحو قضية اللاجئين، وإن كان هذا الفيلم هو الأفضل فنيا وعلى مستوى الطرح الفكري والإنساني.

تُرى هل ستجد تلك الأفلام صدى لدى من بيدهم الأمر، أم ستصنع أيديهم آذانا من طين وعيونا من حجر، لا تنصت ولا ترى شيئا؟