“أمينة”.. تفاصيل الوجع السوري في أول تجربة إخراج لأيمن زيدان

محمد علال

من خلال التمعن في الفيلم نتأكد أن الوجع الذي تعيشه سوريا منذ عام 2011 هو الأمر الوحيد الذي استطاع أن يقنع الممثل أيمن زيدان في الوقوف خلف الكاميرا

أمام “حرب ظالمة وملعونة” كما يقول؛ يجد الممثل السوري أيمن زيدان نفسه مدفوعا نحو خوض تجربة الإخراج السينمائي لأول مرة في حياته، حيث يحجز لتاريخه الفني مكانا جديدا في عالم مزدحم بأسماء المخرجين المهمين من مختلف الأجيال. وهكذا يراهن على حكاية “أمينة”؛ السيدة في العقد السادس من العمر، والتي ترتبط تفاصيل حياتها بالوجع الكبير الذي يحاصر الشعب السوري منذ سنوات.

يختار الفنان السوري الموضوع الصعب في التوقيت الصعب جدا، ليحكي القصة كمخرج وسيناريست نجح قبل ذلك في أن يسجل اسمه بحروف من ذهب ممثلا تلفزيونيا ومسرحيا وسينمائيا، ويقدم عملا مشتركا رفقة السيناريست السوري سامح القتال؛ يتناول موضوع الأم السورية، ويعكس حجم الوجع والأحلام الفنية التي لم تفارقه يوما منذ أول فيلم شارك فيه كممثل عام 1983.

 

شخصيات هشّة تعكس الوضع السوري

يقف أيمن زيدان (66 عاما) خلف الكاميرا ليحكي القصة التي أحبّ، ويطرح ويفجر المزيد من الأسئلة بعيدا عن الأيدولوجيات والحسابات الضيقة، وقد اختار العبور إلى قصة امرأة تُدعى “أمينة” (الممثلة نادين خوري) التي تعيش في الريف السوريّ، وذلك بين خدمة الأرض ومنزل بسيط يجمع أفراد العائلة الصغيرة، منهم ابنها المقعد “سهيل” (جود سعيد) وابنتها “سهلة” (لمى بدور). وبقدر حجم التشابه في الأسماء تجتمع نفس الأحزان في جسدين.

عدة أمور تعكس تعلّق المخرج بالشخصية الرئيسية، فالأم كانت محور الأحداث، بل كانت أقوى ما في العمل، وذلك بملامح الممثلة نادين خوري التي عبرّت بدقة عن القصة وتفاصيل الألم الدفين والحزن مقابل الإصرار على تجاوز الصعوبات.. وأي صعاب عندما تجد الأم نفسها على الهامش وسط عائلة مفككة؟ فالابن سهيل مقعد، وهو بالكاد يحرك عينيه يمينا وشمالا وقد أصبح مشلولا بالكامل، وذلك بعد إصابته بشظايا قذيفة مدفع جعلت منه عاجزا عن الحركة والكلام.

وفي الأفق تواجه الأم تحديات أخرى لا تقلّ بشاعة عن حال سهيل، وهي حكاية ابنتها سهيلة التي تتحول إلى فريسة أمام شجاعة أحد رجال القرية الذي يحاول الاستثمار في أوجاع الأسرة لإشباع غرائزه. هكذا تبدو الحالة النفسية للشخصيات الثلاث الرئيسية في الفيلم؛ متعبة وهشّة تعكس الحالة العامة للفيلم والأوضاع في سوريا بعد الحرب.

من خلال التمعن في الفيلم نتأكد أن الوجع الذي تعيشه سوريا منذ عام 2011 هو الأمر الوحيد الذي استطاع أن يقنع الممثل أيمن زيدان في الوقوف خلف الكاميرا، وذلك ليقدم أول فيلم سينمائي كمخرج بعد أكثر من 30 عاما شارك فيها ممثلا في تحقيق العديد من الأحلام السينمائية السورية، وذلك مع أبرز المخرجين السوريين، بداية من المخرج محمد ملص عام 1983 في فيلم “أحلام المدينة”، والمخرج باسل الخطيب في فيلم “الأب”.يطلّ النجم السوري في عام واحد بعملين؛ الأول مخرجا لفيلم “أمينة”، والثاني ممثلا في فيلم “مسافرو الحرب” بتوقيع المخرج السوري الشاب جود سعيد. وقد عُرض العملان في الدورة الـ20 لأيام قرطاج السينمائية الدولي في تونس (عقد من 8 إلى 16 ديسمبر/كانون الأول 2018).

والملفت للانتباه في فيلم “أمينة” الذي أخرجه هو أنه لم يشارك فيه ممثلا، بل قلب القاعدة ومنح عددا من المخرجين الذين تعاملوا معه أدوارا عديدة، فظهر جود سعيد ممثلا، وظهر المخرج عبد اللطيف عبد الحميد ضيف شرف.

بشكل أو بآخر نشعر بأن الأم أمينة هي سوريا، خصوصا عندما تتوحد المشاهد في علاقتها بالأرض التي يعود إليها المخرج أكثر من مرة

دموع الأم.. هل يختلف عليها اثنان؟

بشكل أو بآخر نشعر بأن الأم أمينة هي سوريا، خصوصا عندما تتوحد المشاهد في علاقتها بالأرض التي يعود إليها المخرج أكثر من مرة، وذلك من البداية وحتى النهاية، فيتحول الحقل إلى حضن دافئ للأم التي تربطها علاقة حب قوية بالمكان، حيث تعود إليه كلما اشتد بها التعب والقهر، فتختزل الصورة أوجاع السوريين مع الحرب، وذلك عندما يخسر الإنسان كل شيء في الحياة ولا يتبقى له سوى الأرض، فأمينة التي تدفن زوجها في ساحة البيت في أول مشهد، تواصل رحلتها مع ابنها المقعد الذي يمرر بعينه نظرات الحب والتقدير، وهي نظرات تجعل الحياة ممكنة وسط الخراب.

لقد أصبحت السينما السورية في الآونة الأخيرة تميل إلى هذا النوع من الأفلام، ولا تحب صوت القنابل والمدافع، بل تبحث عن ذلك الصمت وتلك القصص التي تعيش على الهامش لأشخاص عاديين لا ذنب لهم في الحياة سوى أن لهم أحلاما عادية في زمن الحرب، فلم تعد سوريا تميل إلى الدماء بقدر رهانها على قصص الحب والأمل والإصرار على البقاء بعيدا عن صور البدلة العسكرية والرشاش.

هذا الأمر قد يفسر اختيارات المخرج أيمن زيدان الذي أراد أن يبحث عن صدق المشاعر، وأن يحرك لدى المشاهد الإحساس بأن الحرب هي عداء الإنسانية الأول، الكل فيها خاسر، ولا يوجد منتصر ولا منهزم واحد فقط.

لقد كان من المهم جدا الابتعاد عن الاصطفاف الذي كانت تعاني منه السينما السورية في بداية الأزمة، مما جعلها خارج حسابات المهرجانات الدولية وحتى العربية في كثير من الأحيان، وهذا ما أدركه السيناريست الذي عرف كيف يمسك العصا من الوسط، رغم أن الفيلم منجز بدعم مباشر من المؤسسة السورية للسينما، ولسان حال كل مشهد يقول “هل هناك شخص -سواء من ضفة اليمين أو اليسار- يختلف مع حكاية تتناول دموع الأم؟”.

قرر المخرج أن يقدم عملا للناس، وهو ما نلمسه في كل تفاصيل العمل الدرامي حيث ترتفع نسبة العاطفة وتزداد أهمية الجوانب الاجتماعية التي لا تهتم بها التقارير الإخبارية

الإنسان.. محطّ اهتمام أيمن زيدان

الاختيارات الموفقة العديدة التي قدمها الفيلم ليست في الاسم فقط، بل أيضا في المكان والديكور وحركة الكاميرا التي كانت شاعرية، وهي أمور مهمة بالنسبة لمسار أيمن زيدان الذي لا يختلف على مساره اثنان، فرغم الانقسام الذي تعيشه سوريا بين معارضة ومؤيدة للنظام فإن أمواج التشكيك والطعن وحتى التخوين التي طالت البعض من نجوم سوريا لم تخدش مسار أيمن زيدان رغم تواجده في سوريا وعدم مغادرته لوطنه خلال الأزمة، وهو ما قد يدفع البعض إلى تصنيف البعض الآخر بسهولة في خانة الداعمين للنظام السوري أو المعارضين.

لقد كان من السهل جدا على نجم مثل أيمن زيدان أن يقدم مشروعا يحكي بطولات الرئيس السوري بشار الأسد أو جهة معينة من النظام، لكن اختياره للإنسان هو ما يُحسب له وسط الاختيارات الصعبة والمستحيلة أحيانا. لقد قرر المخرج أن يقدم عملا للناس، وهو ما نلمسه في كل تفاصيل العمل الدرامي حيث ترتفع نسبة العاطفة وتزداد أهمية الجوانب الاجتماعية التي لا تهتم بها التقارير الإخبارية. هكذا يولد العمل الأول للمخرج أيمن زيدان بين الأشواك.

لقد خاض بطل سلسلة “يوميات جميل وهناء” عدّة تجارب في الإخراج بين المسرح والتلفزيون، وقد تطلّب منه قرار خوض تجربة الإخراج السينمائي الغياب عن الدراما كممثل، وسيظل عام 2018 خالدا في تاريخه كمخرج، فرغم أنه شارك في العام نفسه ممثلا في فيلم “مسافرو الحرب” للمخرج جود سعيد، فإن الفترة الأخيرة تضعه مخرجا في عدة أعمال تراوحت بين الدراما والمسرح والسينما، فبالإضافة إلى فيلم “أمينة” قدّم مسرحية كوميدية بعنوان “برلمان”، وذلك بعد إخراجه مسلسل “أيام لا تُنسى”.