“أوروبا الحلم”.. حين يصبح حلم المهاجر وهماً

شَغَل المهاجر في مشهد الخروج العظيم الأخير إلى أوروبا سينمائيا المساحة الأكبر، وكان هاجس أغلب السينمائيين المهتمين بالموضوع هو تجسيد معاناته في الوصول إلى القارة الحلم، والأهوال التي واجهها في الطريق إليها.

بمعنى آخر ظلّ المهاجر في المعظم مَركزاً فيما كانت أوروبا طرفاً. ولتقريب الأخيرة من المركز اقترح المخرج اليوناني “أنجيلوس كوفوتسوس” معالجة جديدة في فيلمه “أوروبا.. الحلم” تجمع العنصريْن وتقدم تصوراً عما ينتظر الواصل إليها من صعوبات هي في جوهرها نابعة من صعوبات جدية تواجهها أغلبية دولها، وفي هذه الحالة لا يمكن فصل المسارين عن بعضهما، على العكس ثمة حاجة لمعاينة أوروبا كما هي من خلال أهلها والواصلين إليها، لا كحلم بل كواقع يستوجب قراءته بتمعن وتحليله برؤية عميقة نابعة من داخله، وفي هذه الحالة لا يوجد أفضل من اليونان بلداً يمكن عبره تجسيد مأزقها الحقيقي، كما لا يوجد أفضل من بلدانها الأكثر استقرارًا وغنى تجسيداً لتبديد أحلام الواصلين إليها حين يتلقون فيها قرارات طردهم منها.

اليونان.. المحطّة الأولى لتبدد الحلم

ثلاثة شُبان صغار من سوريا واليونان وأفغانستان في “أوروبا.. الحلم” (Europe.. The Dream) يحاولون تحقيق ذلك الحلم. أعمارهم تقريباً على حافة سن الرشد، ويعيشون في اللحظة الراهنة في أكثر من بلد أوروبي بعدما جمعتهم قبل سنتين اليونان على أرضها بشروط عيش مختلفة، فالمراهق اليوناني هو ابن البلد فيما الأفغاني موجود الآن في السويد رغم رفضها طلبه اللجوء، والثالث “عبد الله” السوري مستقر في فيينا لكنه يواجه فيها مأزق التأقلم في ظل مدّ يميني متطرف يجاهر بكراهيته للأجانب.

خلال وجودهم في اليونان لازمهم المخرج كظلهم وصوّر حياتهم فيها بدقة يُحسد عليها، ومنها عرف كيف يُخرِج ما في دواخلهم من مشاعر عززت متن الوثائقي ووفرت له التعاطف المطلوب معهم، مع أن صغر أعمارهم وطبيعة وجودهم كفيلة بتأمين ذلك الجانب، لكنه أراد تعميق الإحساس بصعوبة المكان وتبدد أحلامهم فيه بعد إشباعه الجانب الداخلي وإحاطته بتفاصيل المكان المحتضِن لهم وفيه يعيشون تجاربهم، وراح يتابع رحلة المهاجرين خارجه. وللربط فيما بينهم وبين الأزمنة المختلفة التي عاشوها استعان بأسلوب الـ”فلاش باك” (العودة إلى الخلف) ليسهل عليه الانتقال بين اللحظة الراهنة والفترة الزمنية السابقة، وعبرها يمكنه ملاحقة التحولات الدراماتيكية في حياة الشباب، بصبر وتأنٍ احتاج أكثر من سنتين لإشباعه بصرياً.

ثلاثة شُبان صغار من سوريا واليونان وأفغانستان يحاولون تحقيق حلم اللجوء إلى أوروبا

فتية يهاجرون واقعهم.. لكن إلى المجهول

يطغى على قصص الوثائقي اليوناني الحزن، ويثير الألم على شباب لم يجدوا فرصتهم الحقيقية في بلدانهم، ولم تسنح لهم الظروف فرصة عيش الحياة كما ينبغي أن تُعاش بسلام وبحدٍ أدنى من الاستقرار.

تجربة الصبي السوري “عبد الله” الواصل إلى اليونان وحيداً تاركاً أهله يواجهون مصيرهم فيها، وعليه وحده تدبير أمر عبوره حواجز الانتقال من بلاد لم يعرف فيها سوى الحرب إلى أخرى لا يعرف فيها أحداً. كان عليه مواجهة مصيره بنفسه بعد أن سرقت الحرب حياته وهو طفل، ولم تترك له فرصة التراجع عن المضي في طريقه الجديد وهو صبي.

لا يختلف الحال كثيراً عند الأفغاني “علي رضا”، فمن الفقر والحرب الأهلية هرب وحيداً عابراً جبالاً وودياناً ليصل إلى اليونان، ومنها كان يريد الذهاب دون مال أو مُعين إلى مكان ثانٍ يؤمّن له السلام الداخلي المنشود. بين ذكرياته المؤلمة في اليونان وبين اللحظات الأولى المبهرة التي وصل فيها إلى السويد فرق كبير، سرعان ما تبدد باكتشافه حقيقة التشابه بين المكانين الأوروبيين، فكلاهما رفض وجوده وأراد إبعاده. في اليونان عاش مع مهاجرين مثله تحت سقف مصنع مهجور افترشوا أرضه الإسمنتية الرطبة وتحملوا برودته التي جمدت أجسادهم ليلاً. تحملوا وصبروا عليه لسبب قربه الشديد من الميناء، ومنه يمكن تحيّن الفرص المناسبة للقفز إلى متن أقرب سفينة، قد يحالفهم الحظ فيها فتقلهم إلى يابسة بلد أوروبي آخر. إذا كانت ظروف السوري والأفغاني مفهومة فرغبة اليوناني “أندرياس” بترك اليونان تبدو بطراً، لكن التفاصيل تقول كلاماً آخر، فالبلاد بعد أزمتها المالية لم تترك لمثله فرصة تحقيق حلمه.

أحب أندرياس المسرح وأراد أن يكون ممثلاً، لكن أهله يريدون له الدراسة في حقل آخر قد توفر له فرصة الحصول على عمل جيد يؤمن به مستقبله. فالمشهد اليوناني معتم، والبطالة تطال عائلته، الأب البحار ترك عمله وراهن على فتح مشروع تجاري خاص به، لكنه بعد أزمة عام 2008 المالية العالمية اضطر لإغلاقه ودفع فوائد القروض المُستلفة من البنوك. حالتهم الاقتصادية والاجتماعية يُرثى لها، وبسببها يزداد الضغط على الصبي الذي راح يفكر بالهجرة والدراسة في بلد أوروبي غير بلده.

متابعة مسار حياة اليوناني خلال سنتين تُجلي حقيقة ما تعيشه البلاد من أزمة أقتصادية خانقة تدفع الجميع نحو اليأس، ومعها تصبح فرص المهاجرين للعيش فيها شبه مستحيلة. أدرك المهاجرون ذلك بحسهم فراحوا يخططون للخروج منها إلى المجهول.

الشبان الثلاثة الذين لم يجدوا فرصتهم الحقيقية في بلدانهم، ولم تسنح لهم الظروف فرصة عيش الحياة كما ينبغي أن تُعاش بسلام

أوروبا.. اهتزاز الصورة المُتخيَّلة

في واحدة من المتابعات النادرة يوثق “أوروبا.. الحلم” سينمائياً عمليات انتقال المهاجرين عبر شاحنات النقل الكبيرة من موانئ اليونان إلى برّ إيطاليا. ترافق كاميرته محاولة “علي رضا” الدخول إلى الأراضي الإيطالية بالاختباء تحت واحدة منها، وبعد وصوله إليها يسجل مطاردة شرطتها له في عتمة الليل، وينقل الخوف الذي كان يعتريه من احتمال إعادته ثانية إلى اليونان إلى المُشاهد بأعلى درجات التوثيق صدقاً ومجازفة، وذلك أن الشرطة تُعامل كل من يكون معهم مهرباً حتى سائقي الشاحنات الذي لا علم لهم بوجودهم على مركباتهم.

المطاردة وحدها مؤلمة ومركبة، وأراد “أنجيلوس” عرض جوانب تفصيلية منها بأكبر قدر من الوضوح كونها ستوضح لاحقاً مرارة تلقي المهاجر “الناجي” قرار رفضه من البلد الذي وصله هرباً من عذابات اليونان، ومخاطر الموت دهساً تحت العجلات والمطاردات المذلة في طرقات المدن الغريبة. ينقل “رضا” الأفغاني كل تلك المشاعر، كما ينقل “عبد الله” السوري تقلبات مزاجه بين الأماكن على ما يملكه من ذكاء وموهبة لافتة في تعلم اللغات التي ستسهل عليه لاحقاً عملية العيش في المجتمع النمساوي، وسيواجه سريعاً كراهية العنصريين ويزداد عنده الإحساس بأن الانتماء قوة.

متابعته للانتخابات البرلمانية تجلي له صورة النمسا الحقيقية؛ ليس كما تمناها بل كما يراها أمامه. صعوبة تَكيُّف والده الواصل بعده إلى المكان نفسه تقلقه، لا يفكر الابن مثل الوالد بالعودة لأنه لا يعرف من المكان الأول إلا الألم ومشاهد الموت والدمار، لم يرَ في سمائه إلا الطائرات وهي تقصف حارته وتُميت أصدقاءه، أما النجوم فتمعّن في النظر إليها وأحسّ بجمالها أول مرة في سماء اليونان. والده بدا عكسه، فعلاقته بالمكان الجديد ضعيفة، ويزيدها هشاشة إحساسه بالغربة فيه وصعوبة فهم أهله، ويزيد حلم العودة سريعاً إلى سوريا من ضعف رغبة المكوث فيه.

اهتزار الصورة المتخيلة لأوروبا وتبدد حلم العيش فيها مشتركات الشباب الثلاثة، ولنقْلها على الشاشة اشتغل “أنجيلوس” ومساعدته “أنيتا بابتانسيو” كثيراً على التفاصيل، وعلى نقل الواقع الأوروبي بمستويات مختلفة وعبر أكثر من منظور، لهذا جاء فيلمهما مُقْنعاً، ولعله من الأفلام القليلة التي تدعو لإعادة النظر في مسألة الهجرة من زوايا لا تَفصل حال دول أوروبا عن حال الواصلين إليها، وتقترح إنسانياً على أهلها الصبر عليهم كما يصبرون اليوم على مصاعب دولهم.