“أول ثمانية”.. رحلة في عوالم الأيقونة “كوينتن تارانتينو”

محمد موسى

هو واحد من أشهر مخرجي العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، ومن المهووسين بالسينما وتاريخها وتقنياتها وفئاتها، كما أصبحت أفلامه ظواهر ثقافية واجتماعية تتجاوز أحيانا الحيز السينمائي. إنه المخرج الأمريكي “كوينتن تارانتينو” الذي سيكون موضع اهتمام السينما التسجيلية عبر فيلم “أول ثمانية” (QT8: The First Eight) للمخرجة الأمريكية “تيرا وود”.

يُشير عنوان الفيلم إلى الأفلام الثمانية الأولى التي أنجزها المخرج حتى وقت تصوير الفيلم التسجيلي، والتي لا تؤكد على الطفرات التقنية والأسلوبية الواسعة للمخرج فقط، وإنما إلى اهتماماته ومشاغله السينمائية التي سيفصح عنها هذا الفيلم التسجيلي.

يُقابِل الفيلم مجموعة من النجوم والممثلين الذين شاركوا في أفلام تارانتينو خاصة المبكرة منها، كما يُحاور منتجين آمنوا بموهبته المتفجرة، وكُتّاب سيناريو اشتغلوا معه، إضافة إلى ناقد سينمائي يحلل أفلام تارانتينو ويقسمها إلى ثيمات مُتنوعة، ويربطها بالسينمات التي تأثر بها المخرج في طفولته وشبابه.

 

موهبة فذّة ذات دمغة خاصة

كثيرون اليوم باتوا يعرفون أن تارانتينو عمل في شبابه في محل للفيديو، وقضى سنوات وهو يشاهد ويناقش الأفلام التي كانت في المحل. بيد أن العمل ذاك لم يكن الملهم الوحيد للمخرج، وإلا لشهدنا على مواهب إخراجية أخرى لعاملين في محلات فيديو، والتي كانت منتشرة كثيرا في الولايات المتحدة قبل انقراضها التدريجي منذ سنوات.

تارانتينو -حسب كاتب السيناريو الأمريكي سكوت شبيغل- موهبة فريدة وفذّة لن تتكرر كثيرا، وهذا ما كشفه السيناريو الأول الذي كتبه، فيلم “الحب الحقيقي” (True Romance) عام 1993 الذي كان يُبشّر بموهبة كبيرة، وكذلك القصة الذي كتبها لفيلم “قَتَلَة بالفطرة” (Natural Born Killers) الذي تعاون فيه مع المخرج الأمريكي المعروف أوليفر ستو.

لم يكتفِ تارانتينو بحلم الكتابة، إذ إن طموح المخرج الشاب كان الإخراج في الأساس، وإدارة العملية الفنيّة الخاصة بالصناعة السينمائية برمتها. فالشاب المهووس بالسينما كان يهتم بكل تفصيلة في صناعة الأفلام، وهذا يظهر جليا في الأعمال التي يخرجها، والتي تحمل دمغته الخاصة التي تميزه عن أقرانه.

تلفت موهبة تارانتينو منتجين شبابا مثله، فيدعمونه لإخراج فيلمه الأول “كلاب المستودع” (Reservoir Dogs)، وهذا الحال مع المنتجة ستايسي شير التي تروي تجربتها الأولى في قراءة سيناريو فيلم “كلاب المستودع” بالقول “إنه يكتب مثل كاتب الروايات، وعوالمه وتصويره للشخصيات تشبه الروايات الأدبية”.

 

“كلاب المستودع”.. إحدى مفآجات “كان”

يكشف الفيلم التسجيلي أن تارانتينو ساهم بأمواله التي جمعها في عمله التلفزيوني (عمل مقلدا للمطرب الراحل ألفيس بريسلي في مسلسل كوميدي أمريكي) في إنتاج الفيلم الأول له، والذي أرسل السيناريو الخاص به إلى مجموعة من ممثليه المفضلين، بعضهم انحسرت عنهم أضواء السينما والتلفزيون بعد سنوات شهرة قصيرة.

لم يكن بعض ممثلي تارانتينو -كما كشف بعضهم للفيلم التسجيلي- يملكون الميزانية لشراء البدلات الرجالية السوداء، وبعد أن طلب منهم بعض المنتجين -الذين لم يكونوا يملكون بدورهم المال- فعل ذلك، أصبحت البدلات السود الخاصة بالممثلين أيقونة للفيلم الشديد العنف. هذا رغم أن بعضهم كان يلبس بناطيل جينز سوداء وأحذية تخالف تعليمات المخرج، وذلك لأنه أخفق في توفير متطلبات زيّ الفيلم في الوقت المناسب.

لم يكن فريق العمل في “كلاب المستودع” يعرفون حينها المخرج الشاب تارانتينو رغم إعجابهم بسيناريو الفيلم، لكنهم كانوا يملكون الشكوك إزاء قدرة المخرج الذي يقف وراء الكاميرا للمرة الأولى. جزء من هذه الشكوك كان بشأن الحوارات الطويلة في الفيلم وكيف يمكن أن يتقبلها الجمهور، إذ تبدأ هذه الحوارات عادية قبل أن تتفجر إلى عنف تفصيلي أحيانا.

ويروي الممثل البريطاني تيم روث الذي اشترك في فيلم “كلاب المستودع” تفاصيل عمليات المكياج التي تمت عن طريق هواة لكن بإخلاص كبير، وذلك بسبب حماس تارانتينو للعمل، والذي كان يُغطي الأستوديو كله بروحه التشجيعية المعروفة.

كان فيلم “كلاب المستودع” واحدا من مفاجآت مهرجان “كان” السينمائي عندما عرض هناك عام 1992. ويروي المنتج ريتشارد جلادستين في هذا الخصوص، بأنهم عندما وصلوا إلى مدينة “كان” للمرة الأولى، كانوا مجهولين لا يعرفهم أحد، لكن بعد عرض الفيلم الأول في المهرجان صار الناس يتعرفون عليهم وينادون تارانتينو، وهو الأمر الذي لم يتوقف حتى اليوم في كل مكان يحلّ به هذا المخرج.

 

“خيال رخيص”.. أبطال من عالم الجريمة السُفلي

يقسم الفيلم التسجيلي وقته إلى فترات زمنية تشير إلى الانتقالات السينمائية والأسلوبية للمخرج الأمريكي تارانتينو. فبعد باكورته الإخراجية الأولى “كلاب المستودع”، عمل تارانتينو على الفيلم الثاني “خيال رخيص” (Pulp Fiction) الذي أصبح الأشهر في مسيرته السينمائية.

مجددا يقدم المخرج قصة عن الانتقام والثأر، وأبطال من عالم الجريمة السُفلي، وبشخصيات تجمع بين الغرابة والعنف، دون أن تضيع طبيعتها الإنسانية بالكامل. وكل هذه العناصر تأتي غالبا مُغلفة بالكوميديا، والأخيرة ستكون واحدة من ميزات سينما المخرج.

ومرة أخرى يستعين تارانتينو” في فيلمه الثاني بممثلين بعضهم غابوا في النسيان، ليسند إليهم أدوارا تختلف كثيرا عن الأدوار التي صنعت شهرتهم، مثل النجم جون ترافولتا الذي كان يُعاني من انحسار الأضواء عنه بعد أن صنع شهرته في نهاية عقد السبعينيات.

ولعل ما يؤكده فيلم “خيال رخيص” ثقافة تارانتينو الواسعة، وإلمامه بكل تفاصيل العملية السينمائية، فهو يشرف على اختيارات الموسيقى للفيلم مثلا، ويبدأ في الفيلم نفسه ببث إشارات عن العالم السينمائي الذي يعمل عليه المخرج. إذ ترتبط الشخصيات في فيلمه هذا على نحو ما بشخصيات أفلامه القادمة، كما يفرض المخرج رؤيته الخاصة على الإعلانات التجارية الضمنية التي تُعرض في الفيلم.

لقد فتح النجاح التجاري الفني لفيلم “خيال رخيص”، وفوزه الأخير بالسعفة الذهبية لمهرجان “كان” السينمائي عام 1994؛ جميع الأبواب السينمائية أمام المخرج الشاب، فقد تحوّل إلى الابن المدلل لهوليود، ولم يعد بحاجة إلى إقناع أي أحد بموهبته، فاسمه وحده كفيل بالحصول على الأموال لإنتاج أي فيلم يريد.

 

“اقتل بيل”.. احتفاء ببطولات المرأة

يهتم الفيلم التسجيلي بثيمات أفلام تارانتينو، فيفرد مساحة مثلا لحضور المرأة في أفلامه، والذي سيبدأ من فيلم “جاكي بروان” (Jackie Brown)، فقد استعان المخرج بالممثلة بام جرير التي لعبت في السبعينيات أدوار البطولة في سلسلة من الأفلام التجارية المبالغ في أحداثها، والتي تقدم بطولات للمرأة السوداء الخارقة.

يبرز اهتمام تارانتينو بالنساء في أفلامه اللاحقة، وخاصة فيلمه الطويل “اقتل بيل” (Kill Bill) الذي يجمع فيه مجموعة من البطلات في حكايات تشبه الأفلام والمسلسلات التي تأثر فيها.

وتشرح “زوي بيل” التي عملت بديلة في الحركات الصعبة للبطلات في فيلم “اقتل بيل”، ثم ممثلة في فيلم قادم؛ تشرح حُب المخرج للأسلوب التقليدي في تصوير أفلام الحركة، وعدم تفضيله المؤثرات الصورية عن طريق الحاسوب. وهو ما كان له عواقب كبيرة على النجمة إيما ثورمان التي أُصيبت في حادثة سيارة أثناء تصوير أحد مشاهد “اقتل بيل”، وهي الإصابة التي لا تزال تعاني من آثارها حتى اليوم.

 

السود.. موقف ملتبس

ومن القضايا الحساسة التي يقاربها الفيلم التسجيلي استخدام تارانتينو الكلمات النابية بحق السود في أفلامه، والتي تثير منذ سنوات مشاعر متضاربة إزاء سينماه. فمن جهة ترفع أفلام المخرج من قدر الأبطال السود الذين مُنحوا مكانة مهمة فيها، ومن الجانب الآخر تُخالف هذه الأفلام الصوابية السياسية السائدة حالياً.

يدافع ممثلون سود مثل “جيمي فوكس” و”صموئيل لي جاكسون” عن مخرجهم، ويذكرونه بنواياه الطيبة وحبه للأمريكيين السود، وهو ما يظهر بأفلام مثل “جانجو طليقا” (Django Unchained)، حيث قدّم قصة من الغرب الأمريكي، بيد أن المخرج قَلَبَ القصة التي تبدو تقليدية على رأسها، ذلك أن بطل القصة أمريكي أسود، وسينتقم شر انتقام من الذين استعبدوه وخطفوا زوجته الشابة.

ومن الثيمات الأخرى التي تكررت في أفلامه الثأر، والتي هي الأخرى مستوحاة من أفلامه المفضلة من عقدي السبعينيات والثمانينيات. ويذهب تارانتينو مع ثيمة الثأر إلى مديات بعيدة كما يفعل مع العناصر السينمائية الأخرى في أفلامه، إذ يأتي الثأر في أفلامه صاعقا ومدمرا وشديد القسوة ليتماهى مع فداحة الجريمة الأصلية المقترفة.

“ما فعله تارانتينو هو رفع المستوى للسينما والعناصر السينمائية التي تأثر بها”. هكذا وصف الممثل النمساوي الأصل كريستوف فالتز سينما المخرج الأمريكي تارانتينو، فقد عمل فالتز معه في بضعة أفلام، وهو ضمن مجموعة قليلة من الممثلين الذين عاودوا العمل مع تارانتينو.

ومن الأمثلة التي تبين أسلوب تارانتينو في اختيار الممثلين، يروي روبرت فورستر بأنه تلقى اتصالا هاتفيا من تارانتينو للعمل معه في فيلم “جاكي براون”، فقد أبدى إعجابه وقتها باختيار المخرج له، خاصة وأنه بعيد عن الأضواء منذ سنوات، وبالكاد يجد أدوارا ثانوية صغيرة.

ويكشف فورستر أن المخرج كان من المعجبين بأدواره القديمة، وعندما أفصح الممثل عن شكوكه بأن منتجي الفيلم ربما يرفضون مشاركته؛ رد عليه تارانتينو بفخر “إنه يستطيع أن يمنح الأدوار لمن يشاء”.

“هارفي واينستين” المُتهم بالاغتصاب والاعتداء الجنسي على عشرات النساء، والذي تبرأ منه صديقه تارانتينو لأعماله المُشينة

 

“هارفي واينستين”.. فصل مُعتم من صداقة مُشينة

حاول الفيلم التسجيلي التقرب من الفصل المعتم الذي يمثله المنتج هارفي واينستين الذي قام بتوزيع كافة أفلام تارانتينو الثمانية الأولى، والذي تربطه صداقة قوية بالمخرج. لكن لم يتمكن الفيلم من إضافة المزيد من الضوء على علاقة الصداقة تلك، أو ما إذا كان المنتج الأمريكي المتُهم بالاغتصاب والاعتداء الجنسي على عشرات النساء قد نقل سلوكه المشين إلى مواقع تصوير أفلام تارانتينو التي كان يزورها.

كما لم تكن القصص التي رواها العديد من الممثلين في الفيلم التسجيلي عن سلوك المنتج الأمريكي المتعالي وعدوانيته غريبة، إذ تم تناقل مثيلاتها في السنوات الأخيرة.

من المعروف أن تارانتينو أصدر قبل عامين بيانا تبرأ فيه من منتجه وصديقه واينستين، وأبدى تضامنه الكامل مع الضحايا. ولأن الفيلم لم يقابل تارانتينو نفسه، لم يذهب العمل التسجيلي بعيدا في تحرياته عن علاقة الصداقة التي ربطت المخرج الموهوب والمنتج سيئ الصيت، أو إذا كان المنتج استغل بطلات أفلام تارانتينو للقيام بما هو مشين.

المخرج الأمريكي “كوينتن تارانتينو” الذي استحوذت السينما على حواسه كلها

 

المخرج الأيقونة.. حين تستحوذ السينما على الحواس

الأمر الواضح الذي يعيد تأكيد الفيلم التسجيلي هو أن تارانتينو لم يشغله إلا فنه، حيث كرّس له سنوات طويلة من حياته، وأنه -على الأرجح- لم يكن يعرف بسلوك واينستين أو غيره، فالسينما استحوذت على حواسه كلها، وهذا ما يتبدى من المشاهد الأرشيفية التي عرضها الفيلم لكواليس تصوير بعض من أفلام المخرج الأيقونة، والتي تُظهر تفانيه الكامل أثناء التصوير.

ما يؤكده فيلم “أول ثمانية” هو الظاهرة الخاصة التي يمثلها تارانتينو بأفلامه وحضوره المُحبب على وسائط الإعلام، والإضافة الهائلة التي تمثلها سينماه بجمعها بين عناصر السينما الشعبية، والتجديد غير التقليدي التي تتضمنها هذه السينما.