“الإرث المسموم”.. عن جرائم فرنسية يعيشها الجزائريون حتى اليوم

عندما طُرح السؤال على وزير الثقافة الجزائري الأسبق المجاهد الراحل العربي دماغ العتروس (توفي في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017) “لماذا لم تطلب من الدولة تغيير لقبك وأنت وزير، وهذا اللقب يندرج ضمن الألقاب القبيحة؟”، أجاب “لن أُغيّر لقبي حتى يكون شاهدا على جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر من عام 1830 إلى 1962”.

هذا الموقف للمجاهد الراحل يُسلّط الضوء على قضية كبيرة من مسلسل جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر، وهو ما يطرحه للنقاش الفيلم الوثائقي الموسوم بـ”الإرث المسموم” من إنتاج “الجزيرة الوثائقية” وإخراج التونسية سماح ماجري، وأشرف على تنفيذه المنتج الفني الجزائري سي حمدي بركاتي ومؤسسة “دي ماس”.

معاناةٌ صعبة السرد

يطرح الفيلم سؤالا تمهيديا؛ من أين أتت كل تلك الأسماء، وكيف كانت ألقاب الجزائريين قبل الاستعمار؟ ويمضي في رحلة تقديم بعض التفسيرات لتلك الأسئلة وغيرها مستعينا برأي الخبراء والمؤرخين، منهم الباحث لحسن الزغيدي، والمؤرخ الفرنسي مورصون جيل، والباحث في علم الأنثروبولوجيا مختار رحاب الذي يصف الظاهرة بـ”تدمير الألقاب”، كما تشارك الباحثة الجزائرية فاطمة قشي في قراءة مشاعر ضحايا هذه الجريمة التي ارتكبتها فرنسا، والتي تُصنّف في خانة الجرائم البشعة ضد حقوق الإنسان.

بوستر فيلم الوثائقية “الإرث المسموم” الذي يطرح مسلسل جرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر

خلاصة تجربة الفريق الذي أشرف على إنجاز الفيلم تعكس صعوبة مهمة إقناع الأشخاص بسرد معاناتهم أمام الكاميرا، خاصة في موضوع يرتبط ارتباطا مباشرا بذلك الإرث الثقيل الذي خلّفه الاستعمار بعدما شوّه الأسماء وسعى لقطع حبل الأصول والأنساب، وذلك بالتزامن مع معركة تشويه أجساد الجزائريين وتعذيبها على مدار قرن و32 عاما.

لم توافق سوى ثلاث عائلات جزائرية على المشاركة في تقديم شهادتها والحديث عن معاناتها مع الميراث المسموم، وهو ما أوضحه المنتج المنفذ سي حمدي بركاتي الذي قال خلال تقديمه للعرض الأول للفيلم بمنتدى جريدة “الحوار” بالجزائر إنه قام بزيارات لأكثر من مئة عائلة جزائرية تحمل ألقابا مسمومة تجعل منهم محل سخرية فقط بمجرد ذكر الاسم واللقب، لكنه فشل في إقناع معظمهم بالمشاركة في الفيلم. وقد اعتبروا أن الحديث في الموضوع أمر مخجل وغير مقبول، ويحتاج إلى تصريح من كل فرد من أفراد العائلة.

رابطة الدم.. سلاح الشعب الجزائري

أمام تلك الصعوبات تزداد أهمية الفيلم كوثيقة تاريخية تندرج ضمن التحقيق في الجرائم ضد الإنسانية التي قامت بها فرنسا في الجزائر، وهي نوعين حسب المؤرخ لحسن الزغيدي؛ جرائم تتعلق بالجسد وتنتهي بنهاية الجسد والموت أو اختفاء آثار الآلام عن طريق العلاج، والنوع الثاني هي الجرائم التي يتحدث عنها الفيلم، والتي تتعلق بمحوِ آثار الهوية وتشويه شجرة الأنساب، وهي جرائم لا تختفي ملامحها بل تتجدد وتظل آثارها قائمة مهما طال الزمن.

صورة لوثائق الميلاد التي استخرجها المستعمر الفرنسي للشعب الجزائري

لقد جاءت فرنسا بمخطط استعماري خبيث وفق سياسة “فرق تسد”، حيث اعتمد الاستيطان تلك الخطة في السنوات الأولى لاحتلال الجزائر، فقد أدرك الاستعمار أن رابطة الدم هي واحدة من أقوى الأسلحة التي يملكها الشعب الجزائري، لهذا قرّر سن “قانون الحالة المدنية” في 23 مارس/آذار 1882 [i]، والذي جاء بعد تقييم لوضع الاحتلال في الجزائر.

في تلك الفترة قامت مقاومة الشيخ بوعمامة التي كانت محور مقاومة شعبية جزائرية في الجنوب الغربي للجزائر، وقد استمر “أولاد سيدي الشيخ” الذين يعود نسبهم إلى الصحابي الجليل أبي بكر الصديق في مقاومتهم الشرسة للاستعمار الفرنسي لمدة 23 سنة (من 1881 لغاية 1904). ويقول المؤرخون إن انتعاش تلك المقاومات جاء بسبب رابطة الدم والأنساب، حيث التفّت القبائل حول هدف واحد من أجل تأكيد رفض الشعب الجزائري للاحتلال الفرنسي.

ألقاب بشعة.. مشروع تدميري

دفعت قوة المقاومة الشعبية البرلمان الفرنسي لعقد العديد من الاجتماعات العاجلة من أجل دراسة الأسباب التي أدت لمثل هذه المقاومة الشعبية القوية، وخرج البرلمان بتوصيات للقيادة العسكرية الفرنسية لمساعدتهم على فهم الوضع، وقد أشارت إحدى التوصيات إلى أن “الإنسان الجزائري لا يمكن التغلب عليه بسهولة، ولا يمكن تحطيم عزيمته في الكفاح ما دام يشعر بغريزة الانتماء للقبيلة”. لهذا دعت إلى ضرورة كسر المواطن الجزائري نفسيا من خلال تشويه صورته، والدفع بنفسيته نحو التقهقر من خلال منحه ألقابا بشعة.

عائلة قحروم الجزائرية تُطالب بتغيير اسمها الذي أطلقه عليها الاستعمار الفرنسي لما له من دلالات لغوية قبيحة

أنشأت فرنسا فريقا خاصا من ضباط الحالة المدنية الفرنسيين الذين يتقنون اللغة العربية، وتعلموا المصطلحات في شوارع وأحياء الجزائر، وقاموا بدراسة عميقة للكلمات التي لا يحب الجزائريون سمعاها، أو تلك التي يتنابزون بها، عدا أسماء الفضلات وكذلك العيوب الخلقية، وأصبح لضباط الحالة المدنية سجل من الألقاب التي قاموا بتوزيعها على الجزائريين، حيث استبدلوا ألقابهم الحقيقة بأخرى قبيحة تثير السخرية.

ضبط الاستعمار الفرنسي مخططا مدته عشر سنوات من أجل تعميم مشروع تدمير الألقاب وإرغام الناس على التخلي عن الاسم الثلاثي واعتماد اللقب والاسم فقط، وهو المعمول به إلى الآن في الجزائر على خلاف العديد من الدول العربية.

جرح عميق لا يندمل

عمد الاستعمار إلى إطلاق ألقاب قبيحة وقام بتدوينها في سجلات الحالة المدنية الجديدة، فهكذا وجد الناس أنفسهم أمام ألقاب جديدة أقل ما يُقال عنها إنها بشعة جدا مثل “مخنن” و”قحروم”، وهي ألقاب لعائلتين قَبلتا بسرد حكاية أجدادهما ومعاناتهما في الفيلم. لقد عاشت العائلتان حياة صعبة بسبب تلك الألقاب، وذلك لما تحمله من سخرية من الناحية اللغوية.

وهذا أيضا ما نلمسه في شهادة الصحفية أمل علي الهادي التي كانت تحمل قبل عشر سنوات لقبا قبيحا كأنه جرح عميق لا يندمل، فقد بلغ حجم الألم بالصحفية درجة رفضها ذكر اللقب بأيّ شكل من الأشكال، حتى لو في إطار تقديم شهادتها في عمل وثائقي.

“قانون الألقاب” الذي سنّه الاستعمار الفرنسي هو ما أعطى ألقابا قبيحة يعاني منها الجزائريون حتى اليوم

معاناة أمل وأفراد عائلتي “مخنن” و”قحروم” سابقا هي جزء بسيط من حكاية ملايين الجزائريين الذين عانوا من هذا الوجع على مدار 127 عاما، أي منذ سُن قانون الحالة المدنية عام 1882 إلى غاية يومنا هذا. فبعضهم لا يزال يعاني بسبب اللقب اللصيق بأوراق الثبوتية لسنوات طويلة، وبعضهم نجح في التخلص من ذلك الإرث المسموم واتخذ قرار تغييره نهائيا، وذلك عبر التقدم بطلب إلى المحكمة، وهنا حكاية معاناة جديدة كما تقول أمل علي الهادي “مسألة تغيير اللقب ليست سهلة في الجزائر، وقد يحتاج الأمر سبع سنوات من الانتظار، وهذا ما حدث معي بعدما كبرت في حضن الجرح الموروث”.

جرائم لا تسقط بالتقادم

لا يزال اليوم المئات من الجزائريين من الجيل السادس يدفعون الثمن غاليا بسبب الإرث المسموم، ومنهم أطفال اضطروا لمغادرة مقاعد الدراسة بسبب اللقب، حيث تعكّرت نفسياتهم وتحطمت بسبب سخرية الأولاد منهم.

هكذا تعيش جرائم فرنسا إلى اليوم في الجزائر، مما يطرح سؤال المحاسبة، وإلى أي مدى يمكن نقل ملف قضية جرائم الألقاب إلى المحاكم الدولية ومحاسبة فرنسا عن تلك الجرائم التي ارتكبتها في سجلات الحالة المدنية للشعب الجزائري؟ وهو ما يؤكد عليه المؤرخ الفرنسي المناهض للاستعمار دومينيك لوسيار الذي يشير إلى أن “الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم عندما تتعلق بالإساءة إلى كرامة الإنسان”.

فرض الاستعمار “قانون إقامة الأحوال النسبية” الذي ألزم كل سكان التل الجزائري بحمل ألقاب عائلية. وسبق صدور هذا القانون محاولات متواصلة لطمس الهوية الجزائرية، أهم ملامحها إجبار الأهالي -وهو التعبير الشائع لتوصيف الجزائريين- على تسجيل المواليد الجدد وعقود الزواج لدى مصلحة الحالة المدنية الفرنسية، بعدما كانوا يقصدون القاضي الشرعي أو شيخ الجماعة.