“الـ800”.. انتصار الكتيبة المختبئة في المستودع على جحافل اليابان

عبد الكريم قادري

كانوا “ثمانمئة” جندي صيني، وكان الرصاص يتساقط عليهم من كل الجهات، رفضوا الاستسلام في مدينة محتلة ومُسيطر عليها بالكامل من قبل الجيش الياباني المشكل من عشرين ألف عسكري، فحصّنوا المستودع الذي اختبئوا فيه، وبنوا بداخله قبورهم، وقد جرى كل هذا في أربعة أيام تحت أنظار قادة العالم وزعمائه، ومراقبة عدسات الكاميرا ومراسلي الصحف، لتكون بقعة سوداء من تاريخ الحرب العالمية الثانية لا تزال أحداثها مطبوعة في جبين كل صيني كذكرى سيئة.

فما قصة مأساة هذه الكتيبة، وشجاعة أفرادها الذين خلّدهم هذا الفيلم؟

 

كسر النمطية.. سينما تسعى للخروج من أسوار الصين

اقترب الفيلم الحربي التاريخي الصيني “الثمانمئة” (The Eight Hundred) من عتبة النصف مليار دولار في شباك الإرادات العالمية، وذلك منذ بداية عرضه منتصف سنة 2020، ليكون أكثر الأفلام العالمية تحقيقا للإيرادات في السنة المذكورة، خاصة وأن العالم في ذلك الوقت كان يُجابه فيروس كورونا، واتخذت على إثره جُملة من الإجراءات الوقائية، أبرزها إغلاق قاعات السينما في وجه عُشاق الفن السابع، على خلاف الصين التي انطلق منها الفيروس وتعافت منه سريعا بعد أن حاصرته، لذا عادت الحياة سريعا لهذا البلد ذي التعداد السكاني الكبير، وفتحت قاعات السينما ومراكز الترفيه للجمهور.

وجدت الشركة المنتجة للفيلم الفرصة مواتية جدا لإطلاق هذا العمل الضخم، خاصة وأنها انتهت من مشاكل الرقابة التي فرضتها هيئة المشاهدة على الفيلم، بعد إظهار دور ثوري لأحد الأحزاب غير الشيوعية، وهو ينتمي حاليا إلى تايوان المنفصلة، وقد جرى تصويره في الفيلم كمقاوم للاحتلال الياباني، لكن أزيلت هذه الصعوبات بعد سنة من المفاوضات، وأطلق العمل في عز أزمة كورونا العالمية، ليحقّق أرقاما قياسية، فقد تجاوزت إيراداته أفلام هوليود لأول مرة.

كما أثار هذا الفيلم اهتمام النُقّاد وصُنّاع السينما في العالم، وذلك لحمله توجّها سينمائيا جديدا بعيدا عن المبالغات التي عوّدت عليها السينما الصينية جمهورها، كما تحرّر من المباشراتية والتوجيهات السياسية التي عادة ما تفرض على أي فيلم يحمل صبغة فنية وتجارية في الوقت نفسه كهذا الفيلم الذي جاء ليُبشر بعهد سينمائي جديد قريب من الواقعية، إذ يقدم الوقائع التاريخية دون أن يقوم بنفخها بدرجة كبيرة، مما يضمن للمنتج الصيني تسويق فيلمه داخل الصين وخارجها، وبالتالي سيكون فيلم “الثمانمئة” المؤشر القوي لبداية سينما صينية جديدة ومختلفة.

 

“واقعة جسر ماركو بولو”.. غطرسة الإمبراطورية تشعل الحرب

يُصنَّف فيلم “الثمانمئة” الذي أخرجه “غوان هو” كعمل دراما تاريخية، يستند إلى واقعة حقيقية لا غبار عليها، فهي موثّقة بصور وفيديوهات وأرشيف واسع، ويتعلق الأمر بغزو الإمبراطورية اليابانية للجمهورية الصينية سنة 1937، وذلك على خلفية فشل المفاوضات بين الطرفين، فقد طالبت اليابان الصين بسحب قواتها من مدينة شنغهاي التي تقع في الشمال، وهي تُعدّ من أقوى وأكبر المدن الصينية من ناحية التعداد السكاني والحركة الاقتصادية، وهذا على خلفية قتل الضابط الذي حاول اقتحام المطار، لكن الصين رفضت الخنوع، ومن هنا تدخلت اليابان عسكريا، وقد أطلق على هذه الحادثة “واقعة جسر ماركو بولو”.

كانت اليابان وقتها تملك أسلحة قوية وجيشا نظاميا شرسا، على عكس الأسلحة الخفيفة التي كانت بحوزة الصينيين، لكنهم أظهروا مقاومة شرسة وبطولية، خاصة بعد احتماء ثمانمئة جندي صيني في مستودع حاول اليابانيون اقتحامه لأربعة أيام متتالية، لكنهم فشلوا، وقد جاءت هذه المقاومة الشرسة من الصينيين من أجل إبطاء تقدمهم لتحويل صناعاتهم إلى مدن أخرى، وفي الوقت نفسه لمحاولة كسب مواقف تفاوضية لدى قادة العالم الذين استطاعوا خلق منطقة امتياز خلف النهر في مدينة شنغهاي لصالح بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، لأنها منطقة اقتصادية مهمة لهم وجب المحافظة عليها وعلى مكتسباتهم.

وفي الضفة الأخرى من النهر كان اليابانيون يحاولون اقتحام المستودع بشتى الطرق، وهو المكان الوحيد الذي لم يقع احتلاله في شنغهاي، وكل هذه الأحداث جاءت تحت علم موظفي الأمم المتحدة الذين كانوا يراقبون الوضع في الأعلى من منطاد، بينما كان عشرات المراسلين الصحفيين الأجانب يُراقبون الوضع في منطقة الامتياز، ويكتبون التقارير عن بطولات الكتيبة الصينية التي أظهرت مقاومة شرسة رغم عدم تكافؤ الفرص بين الطرفين، مما أنعش روح الوطنية لدى الصينيين المدنيين الذين يعيشون حياة رغيدة في منطقة الامتياز، فبدؤوا بجمع التبرعات وتنظيم المقاومة الشعبية.

سكان منطقة الامتياز الدولي يشاهدون المعارك الدامية في المستودع

 

مفارقات الاختيارات الشخصية.. جسر بين النعيم والجحيم

استطاع المخرج الصيني “غوان هو” (52 سنة) أن يخلق عددا من المفارقات في هذا الفيلم، ويظهر للمشاهد بأن أي فرد لديه خيارات حياتية يجب أن يقف عليها في حياته، سواء كان مُخيّرا أو مُسيّرا فيها، وفي فيلم “الثمانمئة” تتجلى هذه المفارقة بين الجحيم الذي يعيشه الفرد من خلال الحرب التي تنتج القتل والقصف والتصفية والحقد والتضحية ومظاهر الخراب والدماء والخوف والرعب والخيانة، وهي الفضاء الذي اكتوى بناره ثمانمئة جندي صيني تحصنوا داخل مستودع، وهو المعادل الموضوعي للجحيم.

وفي الجهة المقابلة بمنطقة الامتياز الدولي يعيش الأجانب وحتى سكان المنطقة حياة رغيدة تعكسها مظاهر الثراء والقهقهات في المقاهي والأمان والحب والثراء والرفاهية، وهو التجسيد لفكرة النعيم، والفاصل الوحيد بين الحياتين جسر لا يتعدى طوله أمتارا قليلة، وهو يربط المنطقتين اللتين يفصلهما النهر، وكل جهة تتطلع لحياة الجهة الأخرى، حيث ينظر جنود المستودع لحياة الأمان واللذة التي يعيشها سكان الامتياز، والعكس صحيح.

هؤلاء ينظرون للدماء التي تسيل وإلى غاز الخردل الذي أُطلق عليهم، وإلى عملية القصف التي تلقوها، وإلى دورهم البطولي في مواجهة الرصاص، من أجل رفع العلم الصيني فوق سطح المستودع، حتى يثبتوا للعالم بأن المدينة لم تسقط في يد الجيش الياباني الغازي، وبالتالي يربح ورقة مفاوضات جديدة.

كما نقل المخرج أحلام وكوابيس الجهتين، أمانيهم وأحاسيسهم، وكأنه يُعيد تجسيد اللحظة التاريخية بشحنتها العاطفية وتفاصيلها العمرانية وخرابها وجراحها وآلامها، وقد أصر على خلق هذه المفارقة العجيبة لإيصال فكرة بأن الإنسان يملك في حياته خيارين، إما الجحيم أو النعيم، ولديه كل السلطة بأن يختار الجهة التي تناسبه وتناسب من حوله، لكن البحث عن السلطة والطمع والتوسع على حساب رقعة الآخر؛ يخلق دائما مساحات شاسعة في الجحيم الذي لا يفصله سوى جسر قصير عن النعيم، إن أراد تغيير البوصلة ومراجعة الذات، فهناك دائما أمكنة شاغرة فيه، تبحث فقط عن من يحقنون الدماء لإعلاء كلمة السلام.

قائد كتبية “الثمانمئة” يحث جنوده على غسل أجسادهم بماء النهر وحفر قبورهم داخل المستودع

 

“حين تغطيني بالتراب فسترى ابتسامتي”.. إعادة صياغة الألم

استثمر المخرج بطريقة جيدة في واقعة شنغهاي التاريخية التي ينظر إليها الصينيون بحساسية كبيرة، لهذا عمل بجدّ لتجسيد تلك العواطف الجياشة وإعادة نقلها للجمهور الصيني والعالمي بشكل عام، مما حتّم عليه الاشتغال بطريقة جيدة على تجارب الأداء (الكاستينغ)، والتعامل مع كل فرد من الممثلين بحرفية بالغة، وقد خلق الكثير من الشخصيات المتناقضة والمركبة والغنية بالمشاعر والأحاسيس في عمله، تلك التي تخلق باختلافاتها واقعية سحرية.

لهذا رأينا في شخصيات الفيلم ذلك التنوع المبهج، فنجد في الفيلم الخائن والخائف والعميل والبطل المقدام، والمتراجع والمتناقض والحالم والمُضحّي، والمراهق صاحب الأحلام البريئة، والذكي الذي لا يعرف شيئا عن الحرب.

هذه الشخصيات تعيش بين الجنود الصينيين، وفي منطقة الامتياز نرى أيضا ثراء الشخصيات وتنوعها، فنجد المومس التي تريد التبرع للمجهود الحربي، وصاحبة المطعم التي كانت أنانية، لكن حسّها الوطني تغيّر عندما رأت تضحية أخيها، فتبرعت بكل ما تملك لفائدة الصين، ونرى المتلاعب بالمعلومات، وهم الصحفيون الأجانب الذين يبحثون عن الإثارة ويراهنون عليها.

لقد ساهمت هذه التراكيب البشرية في الفيلم في خلق عوالم تقترب من العالم الحقيقي، لهذا يجد المتلقي نفسه في إحداها، ليعيش ذلك الألم بأثر رجعي ولكن بدرجات مختلفة، لأنه من خلال تلك الصور المقنعة يعود لأكثر من ثمانين سنة إلى الخلف، ليتوحّد مع من عاشوا تلك المآسي، ليشعروا بذلك الألم الذي عاشوه، حتى أن المخرج كتب في مفتتح الفيلم على شاشة سوداء حكمة دقيقة ومهمة، وكأنه يتحدث من خلالها عن الجنود الذي ماتوا في المستودع ليبقى الوطن، حيث كتب “حين تغطيني بالتراب فسترى ابتسامتي”، فقد مات هؤلاء فعلا، لكن رأى الصينيون مجازيا ابتسامة النصر وما حققته الصين بعدها من إنجازات، لقد رأوا ابتساماتهم وهم تحت التراب، وهي الرؤية البصرية التي نقلها المخرج “غوان هو” من المجازية إلى الرؤية المجردة.

المستودع الذي كان شاهدا على القصف بعد 84 عاما من الحادثة، حيث تحوّل إلى معلم تاريخي

 

ديكور الفيلم.. مهارة صناعة التفاصيل الصغيرة المؤثرة

لم تكن قصة الفيلم وحدها هي التي عكست أهميته وخلقت بُعده العالمي، بل يضاف إليها الاشتغال على جميع جوانب العمل، والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة. من هنا صنع المخرج جمالية الفيلم الكبرى، وخلق تناسقا وتناغما بصريا، بداية من المناظر الكبرى لخراب مدينة شنغهاي جراء القصف، ومُرورا بالمكياج الذي أظهر التعب والإرهاق، ومظاهر الترف في الجهة الأخرى، والتوظيف الجيد لبعض الصور التاريخية بالأبيض والأسود، وخلق صور أخرى بنفس اللونين لإيهام المتفرج بقدمها.

ومن مظاهر الاشتغال السينمائي الجيد عمل الديكور البديع الذي أعاد خلق هذه المدينة من جديد، ونفخ فيها الروح، حتى يبث فيها الحادثة التاريخية حسب تقديره، انطلاقا من خبرة وتكوين سينمائي كبير أظهره سنة 2015 من خلال فيلم “السيد ستة” (Mr. Six) الذي شارك فيه على هامش مهرجان البندقية السينمائي، لتتوالى بعده الأعمال المهمة التي حققت نجاحا كبيرا، وفتحت له ثقة مؤسسات الإنتاج الكبرى التي كلفته بإخراج فيلم بأهمية وحساسية “الثمانمئة”.

وقد ربط المخرج الماضي بالحاضر بطريقة ذكية جدا، من خلال خروج صورة الكاميرا من حفرة شكّلتها عملية القصف داخل المستودع سنة 1937، لتنقل لنا بعدها صورة بانورامية في الوقت الحالي تُظهر المستودع الذي جرى الحفاظ عليه كمعلم تاريخي، بينما طورت المدينة بناطحات السحاب المبهرة، وكأن المخرج يقول إن الصين تخرج دائما من أزماتها منتصرة.