الثورة السورية.. ثلاث سمات كرّست الذاكرة التوثيقية

علاء الأحدب

طفل أمام عمل غرافيتي يحمل اسم “إكس أوه” (XO) أنجزه فنانون شبان من ريف دمشق تضامناً مع الحملة العسكرية على مدينة حلب

 

أيها العابر..

إن جئت يوما إلى إسبرطة، فقل لأهلنا هناك:

إننا نرقد هنا وفاء لعهدنا.

تلك العبارة ترجمة لنقش يوناني كتب تذكاراً لضحايا جنود إسبرطة الذين لاقوا مصرعهم جميعاً عام 480 قبل الميلاد في معركة “تيرموبيل” التي استبسل فيها مقاتلو إسبرطة بقيادة ملكهم ليونيداس، وأخّروا من تقدم الغزاة إلى المدن الإغريقية الأخرى، قبل أن يلقوا مصرعهم أمام قوات أحشويرش الفارسي باستثناء ناجٍ وحيد أخذ دور الشاهد بمفهوم هذا العصر.

وثقت تلك الكلمات التي نقلها الناجي الوحيد من المعركة شجاعة مقاتلي إسبرطة الثلاثمائة المخلصين لملكهم في معركة غير متكافئة، مصرين على القتال واثقين بإخلاص وشجاعة ملكهم، وكشفت لأهل أسبرطة تواطؤ النواب وخيانة أصحاب الامتيازات أمام إغراءات ملك الفرس، وأضحى النقش تذكاراً وحّد صفوف مدن الإغريق في مواجهة القوات الغازية، وحجر الأساس لبنائهم أول ديمقراطية في التاريخ القديم، فيما تغنّى بها الشاعر سيمونيدس في قصائد كورالية مجيدة أعطت زخماً كبيراً للوعي القومي اليوناني.

جدار مدرسة الأربعين

وقد خلّد الكاتب الألماني “هاينرش بُل” تلك الرواية الهوميروسية التي انقضى على أحداثها نحو 2500 سنة في مجموعته القصصية “وكان مساءً” حين جعل منها عنواناً لأبرز قصصه في أدب الأنقاض أو أدب ما بعد الحرب التي أسست لشهرته ككاتب وأوصلته إلى جائزة نوبل في 1972، وفي مارس/آذار 2006 خلّدت السينما أيضاً تلك الملحمة مع المخرج الأمريكي زاك في فيلمه 300.

وكما في نقش إسبرطة، كان لجدار مدرسة الأربعين في درعا السورية تلك الرمزية التي أطلقت شرارة الحراك الثوري وغيرت بعبارة واحدة مسار التاريخ السوري، وألهمت مبدعين من مختلف الاتجاهات لتأريخ اللحظة في الذاكرة العالمية الحية لا يُمحى عنها لون الطلاء ولا ردة فعل الضباط ولا مصير الفتية.

وفيما يلي يستعرض هذا التقرير محطات مهمة لثلاث من الأدوات البارزة التي وثّقت لمسيرة الثورة منذ بدايتها. ورغم ما للأعمال وما عليها من النقد والتحليل، فإن مصير التساؤلات عن هويتها الوجودية لا يحتمل أكثر من إجابة واحدة، فالحرب لم تنتهِ بعد.

غرافيتي ملك الغابة راكب دبابة (مواقع التواصل)

غرافيتي البدايات.. حرب الجدران

لم تكن شرارة اندلاع الثورة السورية مجرد لطخات من فراشي الدهان لبضعة مراهقين على جدار مدرستهم الحكومية، كانت الحادثة تفاعلاً بديهياً لثورات الربيع العربي من تونس إلى مصر فليبيا، ولربما كان بوسعهم متابعة تطور الأحداث بلحظتها على الهواء لتلهمهم على فعل ما هو تالٍ، ولطالما شكلت رغبة التغيير حلمهم المشترك.

كان بديهياً أن تتسع دائرة الملهمين، ومع وجود الجدران وعلب الطلاء باتت العبارات الأشد جرأة توثق للجموع الغاضبة، والغاضبة أكثر كلما ارتفعت وتيرة القمع.

في مطلع مايو/أيار 2011 ملأت عبارات الحرية جدران بلدة معضمية الشام بريف دمشق، واستخدم طالب السنة الأولى بكلية الهندسة أحمد الشيخ الدم عوضا عن الطلاء احتجاجاً على قمع متظاهرين من أبناء مدينته، ولم يلبث أحمد طويلاً حتى قُتل لاحقاً في عبوة مفخخة استهدفت سيارته مع أربعة من رفاقه.

وبعد أقل من عام في يوليو/تموز 2012 هدمت مدرعات حكومية بداريّا جانباً من سياج جداري لمقبرة المدينة التاريخية بعد عجزها عن حجب العبارات المعادية على الجدارن، واعتقلت عدداً من باعة الطلاء قبل منع بيعه في المتاجر بشكل نهائي.

تعاظمت ردات فعل المحتجين مع استخدام الموالين لعبارات طائفية تهدد الثوار بالسحق والحرق وتمجد الرئيس بعبارات مستفزة، واستغلت المليشيات الموالية عمليات الاقتحام لصبغ الواجهات والساحات بأعلام الموالين وعبارات الترهيب والوعيد.

وأمام موجات عنيفة من الاعتقال ظهر مفهوم الرجل البخّاخ في حياة السوريين، لتستيقظ العاصمة والمدن الثائرة على عبارات تلطخ واجهاتها الحكومية والخدمية في تحدٍ صارخ:الأسـد أو نحرق البلد.. الأسد أو لا أحد.. الجيش السوري مرّ من هنــــا“.

وجد السوريون في الجدران وسيلةً آمنة للتعبير عن سخطهم تجاه ممارسات الحكومة القمعية، ومع الوقت تصدت أعمال الغرافيتي لجوانب متنوعة وأكثر تخصصاً في معالجة التحديات الملحّة لقضايا السوريين. تطورت المحاولات والتجريب الغرافيتي على نحو واسع بين الهواة الشباب مستمدة تجارب بانكسي والغرافيتي الفلسطيني.

وعبّر الغرافيتيون الشبان عن هموم يومية عايشها جيل الثورة، ومكنتهم من سرد وقائع غضبهم اليومي وواقعهم المعاش على كل سور ممكن وكل جدار متاح، وحظيت جدران إدلب آخر معاقل المعارضة بالنصيب الأكبر من إبداعات الغرافيتي، وتصدّت فيما تصدت لقضايا التغييب والاعتقال والفساد الثوري والتنازع الفصائلي.

جمعت وفهرست منظمات سورية ودولية غير ربحية عدداً كبيراً من الوثائق والصور لمختلف الجداريات الغرافيتية، وصدرت مجلة سورية باسمها، قبل أن يتناقل نشطاء ومدونون صوراً لأعمال غرافيتي موقعة باسم بانكسي سوريا!

 

سينما الثورة.. صورة حية

أولى المحاولات الجدية بدأت مع باسل شحادة في فيلمه “شوارعنا احتفال الحرية” كأول فيلم تسجيلي عن الثورة السورية، وتابع لاحقا في فيلمه الآخر “أمراء النحل” دون أن يتمكن من إنهاء أي منهما إثر مقتله في 28 مايو/أيار 2012 خلال محاولة اقتحام القوات الحكومية لمدينة حمص، ومع الذكرى الأولى لرحيل شحادة أكملت مؤسستان سوريتان إنتاج الفيلم وعُرض في مايو/أيار 2013.

وفي العام نفسه طرح طلال ديركي فيلمه التسجيلي الطويل “العودة إلى حمص” الذي استمر تصويره ثلاثة أعوام، وطاف به على أكثر من 70 مهرجاناً عالمياً وحصد أكثر من 30 جائزة.

وشرّعت تجربتا شحادة وديركي عَنان المبادرة لهواة ومحترفين، وأنتجت الثورة منذ بدايتها حتى اليوم زهاء 500 فيلم حصد بعضها جوائز عالمية، واستندت بعض الأعمال إلى مواد فيلمية مرتجلة اكتسبت أهميتها من واقعية اللحظة وقيمتها الجمالية، أو صُورت بالأساس لهدف التوثيق الجنائي أو التغطية الإخبارية.

وأفضت التجارب المبكرة والمحاولات الشابة في السنوات الثلاث التالية إلى استكمال سرد المسار التاريخي للثورة بمعالجة أكثر تخصصاً فرضتها التحولات، كإسقاطات وزواياً عمّقت أهمية الطرح كما في تجارب النساء على هامش الحرب، فشاهدنا “نور الأنين” و”عدرا” و “نِحنا منا أميرات”، أو كما في قضايا لا تقل إلحاحاً كالمغيبين قسراً ومصابي الحرب ورحلات اللجوء وحياة اللجوء ذاتها.

ورأى العالَم الكثير من الشهادات والمشاهد الحية للقصف وانتشال الضحايا والأشلاء في تحدٍ بصري واضح مختبراً العدسة والمتلقي معاً في قدرتهما على تحمل المزيد من فجاجة اللحظة، والفرق الواضح بين أن ترى مشهداً تمثيلياً لجريمة وبين جريمة تعيشها بالمعنى الواسع للكلمة.

واشتركت مجمل أعمال سينما الثورة بأنها أنجزت بميزانيات متواضعة، وضيّع ضعفُ التمويل فرصاً لدراسة ميزانيات وثائقية حساسة، ولم تَرفع من رصيد التسجيلي بأكثر من مشهد حصري مغرق بالتفاصيل الأشد قسوة، وفي حالاتٍ خلط بينهما، في هذا الوضع سيكون أمام الهواة والمحترفين على حد سواء فرصاً أكبر لصياغة هوية بصرية لسينما خالصة تختصر طريق نصف قرن من البحث.

 

التوثيق.. عين الحقيقة ومخرز النكران

رغم أنف العدالة الغائبة زهاء نصف قرن، لم يخبُ أمل السوريين في المثابرة على تحقيقها بكل وسيلة أتيحت وكل مناسبة استجدّت، ولم يكتفِ ذلك النشاط بالرصد والتوثيق الحقوقي للانتهاكات، بل قارع طويلاً وكثيراً في مناصرة حقوق الآلاف من القتلى والجرحى والمغيبين، وأنشأ السوريون تجمعاتهم وروابطهم ونقاباتهم الحرة في كل اختصاص متصل للسير في ركب تحقيق العدالة.

باكورة الأنشطة التوثيقية بدأت بصورة فعلية في مطلع أبريل/نيسان 2011 مع تأسيس لجان التنسيق المحلية، وامتازت بتمثيل قوي على الأرض مكّنها من تحرير تقارير محكمة عن مختلف المناطق والمدن السورية ساعدت الخبرات الحقوقية للناشطة المغيبة رزان زيتونة اللجان المحلية في اعتماد منهجية معيارية استخدمت لاحقاً كأدلة توثيقية تتمتع بموثوقية عالية.

وأكسبت التوثيقات التفاعلية على شبكة الإنترنت مزيداً من الزخم للمسار الحقوقي في توثيق الأحداث، ودعمت عشرات مقاطع الفيديو فرضيات محددة أو نفتها، واستخدمت مشاهد كثيرة في إسقاط روايات حكومية ونقضها، وعُني الحقوقيون في الدرجة الأولى بسرد قصص الضحايا كرواية معزِّزة للأدلة المادية، ومكّنت منصات النشر الضحايا من سرد قصصهم دون تدخل في كثير من الأحيان.

وفي يونيو/حزيران 2011 أسست رزان زيتونة رفقة مازن درويش مركز توثيق الانتهاكات بسوريا، ومع نهاية 2013 اختُطفت رزان مع ثلاثة من زملائها بدوما في ظروف غامضة، واتُهم نشطاء جيش الإسلام بالمسؤولية عن اختفائها.

وفي يونيو/حزيران 2011 أيضا أسس فضل عبد الغني الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وعنيت الشبكة بتوثيق حقوق ضحايا الحرب في سوريا، وواظبت على إعداد نشرات وأبحاث دورية، واعتمدت الأمم المتحدة الشبكة مصدراً رئيسياً للمعلومات فيما يتعلق بحجم ونوع الانتهاكات بحق المدنيين في سوريا.

واستمر المرصد السوري لحقوق الإنسان في مزاولة توثيق الانتهاكات بسوريا مع بداية الحراك السلمي، وأسس المركز أسامة سليمان في مايو/أيار 2006 وامتاز بموثوقية عالية لدى الوكالات الأجنبية والمنظمات الدولية.

وفي 21 يناير/كانون الثاني 2014 نُشرت شهادة جندي سوري منشق توثق لعمليات قتل وتعذيب 11 ألف سوري على امتداد ثلاث سنوات، عُرفت الشهادة بتقرير قيصر، واعترفت كبرى المنظمات والجهات الحقوقية الدولية بصحة الوثائق. وساعد المنشور من تلك الوثائق في تعرف عائلات وذوي ضحايا سوريين على جثث أبنائهم.

واكتسبت شهادة القيصر أهميتها نظراً لطبيعة وظيفته وحجم الوثائق المسربة خلال فترة عمله كمصور حربي عمل على تصوير الجثث. ولاحقاً أسست عائلات وأهالي المعتقلين الذين وردت صورهم ضمن الوثائق رابطةً باسم عائلات قيصر هدفت بشكل أساسي إلى ضمان حقوق الضحايا ورفاتهم وعدم الإفلات من العقاب وإنشاء محكمة خاصة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

وفي يونيو/حزيران 2016 أسس الممثل السينمائي فارس حلو مع مثقفين تجمعاً باسم “ناجون” في فرنسا، وعمل لاحقاً على حشد فنانين ونشطاء من مختلف الاتجاهات في مشاريع وأنشطة توثق لضحايا المعتقلات والمغيبين قسراً في السجون السورية.

ونظمت “ناجون” في باريس مظاهرات رفعت لافتات تحت شعار “المعتقلون أولاً”، وامتلأت الشوارع بصور آلاف المعتقلين والمغيبين قسراً. ويرى المؤسس أن “ناجون” قضية وجودية تعمل على محاربة ثقافة الإفلات من العقاب.

تحفل ثماني سنوات بتنوع مدهش لأشكال من أدوات التعبير الفني والأدبي، أسهمت وتسهم في تكريس الذاكرة التوثيقية لمختلف أحداث الثورة وإرهاصاتها وتحدياتها مجتمعة، وتلخّص خاماتها وإنتاجاتها حدثاً مفصلياً مثبتاً بالصوت والصورة، وبقراءات مختلفة تحتمل النقد والتحليل، لكنها تبقى ذاكرة شعب بدأ ملحمته بنقش “أجاك الدور يا دكتور”.