“الجيل العراقي الضائع”.. رحلة في عالم أشبال الخلافة المنبوذين في العراق

تصف المخرجة الفرنسية “آن بورات” جيلا جديدا من الأطفال العراقيين بـ”الجيل العراقي الضائع” (Iraqi’s Lost Generation)، وهو جيل أكثره من أبناء مقاتلي “الدولة الإسلامية”، وجدوا أنفسهم ضائعين ومنبوذين، بعد معارك الموصل التي انتهت بمقتل أعداد كبيرة من مسلحي التنظيم وهروب قسم منهم إلى خارج الحدود.

أطفال ومراهقون لا أهل لهم، ولا دولة تعترف بهم، فالجهات الرسمية ترفض منحهم هوية الأحوال المدنية، ولهذا لا يمكنهم دخول المدارس الحكومية مثل بقية الأطفال العراقيين، ومن بقي من عوائل المقاتلين لا يقبل السكان بعودتها إلى ديارها ثانية، انتقاما وخوفا من تشدد أطفالها.

ولنقل حالتهم بكامل أبعادها على الشاشة، تذهب المخرجة إلى المساحات الجغرافية والنفسية الأكثر تجسيدا لها، وتعمل من على أرضها لنقل صورة جلية عن حالة الضياع التي يعيشونها، من دون أن تُقيّد نفسها بفئة معينة أو مجموعة خاصة منهم، انطلاقا من حقيقة أن طفولة هذا الجيل الجديد قد تعرضت لانتهاكات من أطراف كثيرة، وكان لا بد لفيلمها أن يقدمه ذلك بانوراميا كما هو في الواقع.

راعت المخرجة في وثائقيها الاستقصائي التكثيف، لتغدو بفضله كل حالة معروضة مهما صغرت مساحتها على الشاشة، كعَينة لشريحة واسعة من الجيل التائه الذي راحت تتساءل عن أي مستقبل ينتظره.

“أبوك كان من الدواعش”.. حصار رسمي وشعبي

يظهر في الفيلم مشهد منقول من خرائب الموصل، فبعد مرور ثلاث سنوات على انتهاء المعارك التي شهدتها المدينة، ودارت رحاها بين مقاتلي التنظيم والجيش العراقي، وتظهر في المشهد أعداد كبيرة من الأطفال المشردين وهم يجوبون شوارعها، ويتجولون بين خرائبها من دون هدف، والحزن والبؤس ظاهران على وجوههم.

تقترب الكاميرا من أحدهم (6 سنوات) لتُبيّن بعض أسباب الحزن، حيث يقول: لم يسمحوا لي بالبقاء في المدرسة، قالوا لي: أبوك كان من الدواعش، اخرج.

الكلام ذاته يتكرر أمام الكاميرا على لسان آخرين مثله لم يحصلوا على هويات مدنية، ولم يدخلوا المدارس فظلوا خارجها منبوذين تلاحقهم لعنة داعش، من دون أن يكون لهم ذنب في انتماء آبائهم أو عوائلهم إلى صفوفها.

كلما توغلت الكاميرا بين الأطفال ظهرت علامات وجع أكبر وألم من معاملة قاسية يتلقونها من قبل أطفال المدينة، فهم يرمونهم بالحجارة، ويرفضون اللعب معهم، ويعيرونهم بانتماء أهاليهم للدواعش، ويطالبونهم بمغادرة المدينة، فلا مكان لهم فيها بعد تحريرها.

إحدى نساء الدواعش التي طُلب منها إشهار طلاقها رسميا حتى يتمكن أطفالها من الحصول على الهوية المدنية العراقية

“المرأة الداعشية”.. سياط العار الاجتماعي الخالد

تبحث أمهات الأطفال عن حلّ يسمح لأولادهن بدخول المدارس، ومن بين الحلول التي يقترحها المحامون هو إعلان زوجات المقاتلين الهاربين أو مجهولي المصير براءتهن منهم، وإشهار طلاقهن رسميا، وبذلك يتحررن من ارتباط يعيق حصول الأطفال على حقوقهم، بما فيها حصولهم على الهوية المدنية العراقية.

يقابل الوثائقي إحدى هؤلاء النسوة، وهي ترفض هذا العرض مبررة موقفها بأن الإجراء لن يُغيّر شيئا، وأنه سيُبقي التهمة ثابتة عليها، وسيظل الناس يصفونها بـ”المرأة الداعشية” التي تبرأت من زوجها، كما سيبقى هذا العار لصيقا بأولادها.

منع الدواعش من العودة إلى منازلهم.. انتقام الأحياء لنفسها

يظهر أمام الوثائقي مجال آخر وأكثر تعقيدا يتعلق بعودة الأُسر الداعشية إلى بيوتها، وهي التي اضطرت للخروج منها أثناء اقتحام الجيش لها، حيث يرفض أغلب جيرانهم عودتهم انتقاما لوجودهم السابق بينهم، واتخاذهم أبناء المنطقة دروعا بشرية دون إرادتهم.

تقابل صانعة الوثائقي مختار منطقة سكنية، وتسأله عن تفاصيل الموضوع، ومن كلامه يتضح أن الإجراء المتبع الآن هو سؤال أهل الحي عن ما إذا كانوا يقبلون بعودة عوائل الدواعش ثانية؟

ويؤكد المختار أن أغلبيتهم يرفضون ذلك، لأنهم يحيلون سبب وفاة أبنائهم وأقربائهم أثناء هجوم الجيش على المدينة إلى وجود المقاتلين بينهم في الحي، وأن كثيرا من بيوتهم تعود أصلا لمواطنين من أبناء الموصل رفضوا مبايعة “دولة الخلافة”، وعقابا لهم تقررت مصادرة بيوتهم وإجبارهم على تركها.

مراهق من “أشبال الخلافة” يظهر متخفيا في الفيلم خشية من انتقام الناس والجهات الرسمية منه

“أشبال الخلافة”.. ألغام خفية جاهزة للانفجار والتجسس

من بين أسباب رفض سكان الأحياء السكنية لعودتهم، وتشدد الجهات الرسمية في عزل العوائل الباقية منهم ودفعها للخروج من المدينة؛ الادعاء بأن أطفالهم قد تعرضوا لعملية غسل دماغ، وأن “أشبال الخلافة” يشكلون حتى اللحظة خطرا على المدينة وسكانها، وأن التنظيم بإمكانه الإيعاز إليهم للقيام بعمليات انتحارية أو التجسس لصالحه.

يقابل الوثائقي مراهقا مختفيا عن الأنظار من “أشبال الخلافة” السابقين، ويسأله عن الكلام الذي يتداوله الناس والجهات الرسمية عنهم، ويخبرهم بأنه لا يرغب بالخروج والظهور العلني بين الناس، خشية انتقامهم منه، وأنهم لا يقتنعون بالأسباب التي دفعتني للانتماء طفلا للتنظيم.

من أبرز الدوافع كما يقول “التباهي والرغبة في حمل السلاح كما يفعل بقية الأولاد، فمن الصعب على طفل يرى أقرانه وهم يحملون السلاح، ويظهرون بمظهر الرجال، ولديهم المال؛ أن يظل مراقبا لهم، ويكتفي بذلك”.

ويحكي مراهق آخر للوثائقي ظروف اعتقاله بعد مرور عام واحد على معارك الموصل، ويصف ظروف سجنه بالكلمات والرسومات البسيطة على الورق، حيث يصف المكان الذي زُجّ به مع مئات الأشخاص في مساحة صغيرة لا يمكن للمرء التحرك وسطها بالجحيم. فقد دخل السجن وهو ابن 12 عاما، ولم يبق له خارج السجن أحد، ولا يعرف من الناس غير المساجين، وجُلّهم متهمون بالإرهاب من دون إصدار أحكام قضائية ضدهم. الاستعانة بالرسوم تحيل الشهادات إلى مرآة تعكس دواخل الأطفال المضطربة.

أكثر من أربعة آلاف شبل من “أشبال الخلافة الإسلامية” ينتمون إلى داعش داخل الموصل العراقية

“محكمة تحقيق نينوى”.. إلقاء الأشبال في عرين التطرف

يقود كلام المراهق الوثائقي للذهاب نحو “محكمة تحقيق نينوى”، ويسأل أحد القضاة فيها عن ظروف السجناء، وبشكل خاص الأطفال الذين هم دون سن الرشد، ويعترف القاضي بعدم وجود برامج تأهيلية لهؤلاء الصغار، وأنهم عمليا متروكون لتأثيرات الأفكار المتطرفة داخل السجن، فلا وجود لأماكن أو مدارس يتعلمون فيها المهن، ولا توفر لهم الدولة خدمات نفسيين مختصين، ولا تُعيّن موظفين اجتماعيين لرعايتهم.

تُشير المعلومات التي حصلت عليها الجهات الأمنية من حواسيب وإدارة داعش إلى وجود حوالي أربعة آلاف “شبل” داخل الموصل، وقد ألقت الأجهزة الأمنية القبض على الكثير منهم، وتؤكد التحقيقات الجنائية أن كثيرا منهم قد شارك في عمليات مسلحة، وتورط في عمليات قتل وتعذيب، وأن التخلص من آثارها يحتاج إلى جهود منظمات دولية تساعد على تخليصهم من تبعاتها النفسية.

يصف القاضي ظروف سجن “الأشبال” بالسيئة، وأن إهمالهم وعدم العمل بجديّة على تأهيلهم للدخول مجددا في نسيج المجتمع؛ سيجعلهم بسهولة “إرهابيين” في المستقبل. وهناك كلام مقارب لذلك يسمعه الوثائقي من مسؤولين عن مخيمات أُقيمت في كردستان العراق لعوائل مقاتلي “الدولة الإسلامية”.

أحد أطفال معسكر “الهول” يهتف باسم” الدولة الإسلامية” في ظل معايشته لأجواء سادها العنف والقتال

محافظة الرقة السورية.. ملجأ التائهين من أطفال داعش

دفعت المخاوف من الرجوع إلى الموصل والتعرض للذل والتهميش كثيرا من الأطفال المُطلَق سراحهم للبقاء في منطقة وسط، لا يعرفون إلى أي الجهات هم ينتمون، حالهم حال “أشبال الخلافة” الذين وصلوا إلى سوريا.

في محافظة الرقة يصطحب أحد أبناء المنطقة فريق العمل في جولة إلى إحدى القرى التي أقام فيها التنظيم قبل سنوات قليلة معسكرا لتدريب “أشبال الخلافة”، ويدلهم على الأماكن التي كانت تجري فيها عمليات الإعدام أمامهم.

لإتمام مشهد الضياع يتوجه صناع الوثائقي الفرنسي نحو محافظة الحسكة، ومنها يتوجهون إلى مخيم الهول بوصفه أكبر معسكر احتجاز لعوائل مقاتلي داعش، وعند مرورهم بين الخيام، تقافز الأطفال حولهم وهتفوا بشعارات مؤيدة لـ”دولة الخلافة”.

أشبال الدواعش يرسمون المدافع والرشاشات تأثرا ببيئة العنف التي عاشوا فيها

معسكر “الهول”.. دخان العنف يحجب سماء التعليم

في معسكر “الهول” تنقل كاميرات الوثائقي الجو المتوتر داخله، والتشدد المنتشر بين النساء العراقيات على وجه التحديد، وبالأرقام يبلغ عدد الأطفال العراقيين قرابة عشرين ألفا، ويحصلون على فرص تعليم قليلة يقدمها لهم “الصليب الأحمر”.

تعرض واحدة من المعلمات الصعوبات التي تواجهها مع الطلاب، وخاصة صعوبة تأقلمهم مع الحياة المدنية واستيعاب الدروس المدرسية، لأن أغلبيتهم عاشوا في أجواء سادها العنف والقتال، ولم يتخلصوا منها بعد.

يقابل الوثائقي طفلا عراقيا في المعسكر، ويتركه يعبر عن مشاعره، يحس الطفل بالذل لأنه عاجر عن الانتقام من قتلة والده وأخوته، وأيضا من الموقف الرسمي العراقي الرافض لاستلامهم وتركهم في العراء من دون أفق أو أمل في عيش حياة سوية.

طفل أزيدي يعيش حالة من الازدواجية والتناقض الداخلي الحاد بعد أن لقّنه تنظيم الدولة أنه مسلم بينما هو أزيدي

مسلم في عائلة أيزيدية.. بقايا غسيل الدماغ الداعشي

وسط تلك الأجواء تبرز قصة طفل أيزيدي مختلفة عن سواها، لأنها تتعلق بشخص ينتمي إلى ديانة أخرى غير الإسلام، وتعود جذورها إلى اجتياح التنظيم لسهل نينوى، وخطفه آلاف النساء الأيزيديات وتزوجيهن بمقاتلين.

بعد سنوات من خطف والدته تحرر الصبي، لكنه ما زال غير مدرك للذي يجري حوله، فهو -حسب ما لقنه التنظيم- مُسلم، لكن عائلته التي عاد إليها أيزيدية، فكيف يستقيم ذلك؟

لا يزال الصبي يُعاني من ازدواجية وتناقض داخلي حادّ استوجب تقديم مساعدة طبية نفسية له في موطنه الذي عاد إليه غريبا لا يعرف أحدا فيه، حتى عائلته وأجداده هم غرباء بالنسبة إليه.

حالة الصبي الأيزيدي تقابلها حالات تعزز فكرة الضياع الذي يعشه الجيل العراقي اليوم، وتتمثل بالنساء اللواتي حملن وأنجبن من مقاتلي التنظيم، وبعد تحريرهن رفضت عوائلهن الاعتراف بشرعية الأطفال، وأجبروا بناتهم على تركهم والتكتم على وجودهم.

يدخل الوثائقي بيتا ترعى فيه سيدة مسنة الأمهات اللواتي عليهن مغادرة سوريا نحو العراق من دون أطفال. ينقل في سنجار الحالة النفسية لوالدة طفل لم تقوَ على هجره، بل تريد الرجوع إليه وأخذه إلى مكان بعيد من سوريا والعراق، مكان يجمعها بطفلها لا أكثر.

أطفال الدواعش يلعبون في مخيم في كردستان العراق وهم بحاجة إلى إعادة تأهيل خوفا عليهم من الضياع

إعادة التأهيل.. نداء إنقاذ الجيل من الضياع

يعود الوثائقي إلى مخيم في كردستان العراق ليقابل صبيا يافعا من أبناء الموصل، علمته التجربة كثيرا رغم صغر سنه، وأصبح قادرا على تقييمها، وهو يشعر لحظة تصويره بالندم لانضمامه للتنظيم، ويُحيل ذلك إلى صغر سنه وقلة تجربته وبحثه عن المغامرة، وفي الوقت نفسه يحذر من مغبة تركه وأمثاله لأيادي المجهول.

وفي ظل غياب التسامح، ومع اتساع مساحة الإهمال والتهميش، سيصبح هؤلاء الأطفال أكثر تشددا من الجيل الذي سبقهم، ولمنع ذلك فإن على الحكومات العمل بجديّة على استيعابهم، وإعادة تأهيلهم للدخول ثانية إلى مجتمعاتهم، وأما إن حدث العكس فإن جيلا عراقيا كاملا قد يضيع.