الحفل الأعظم في التاريخ.. يُسقط عرشاً

قيس قاسم

في عام 1971 قرر شاه إيران، محمد رضا بهلوي، حفر اسمه في سجل التاريخ من خلال إقامته حفلاً لم يشهد العالم مثله من قبل. أراده أن يكون الأكبر على الأرض والأعظم في تاريخ البشرية، وكان له ما أراد فعلاً، لكنه لم يدرك أن ذلك الحفل الباذخ سيكون سبباً في إسقاط عرشه وإنهاء حقبة حكم العائلة الشاهنشاهية إلى الأبد.

لقطة من الفيلم لشاه إيران وهو يستقبل المدعويين لحفله

الحدث التاريخي بحد ذاته مثير للاهتمام لكن من المستبعد أن يكون هو السبب الوحيد الذي دفع هيئة الاذاعة البريطانية “بي بي سي” لتبني مشروع فيلم المخرج الإيراني “حسن أميني” The Greatest party on earth  المستوحى من الحدث، بل ربما يعود أيضاً، إلى طبيعة المعالجة السينمائية المتفردة التي اقترحها له، وإلى امكانية توفير خاماته السينمائية المطلوبة من كنوزها التسجيلية التي لا تقدر بثمن. 

“الحفل الأعظم في العالم” وقبل كل شيء فيلم “غرفة مونتاج” في عمومه، قوة اشتغال المونتير”أولي هوديلستون” على خاماته التسجيلية القديمة جعلت منه وثائقياً ناطقاً بالصورة الغنية التي اكتملت تفاصيلها وازدادت قوة تأثيرها بقوة حضور موسيقى “سيمون أوجين” (كتبها خصيصاً للفيلم) وحاول جاهداً عبر إيقاعاتها الشرقية استحضار التاريخ بحاسة السمع. أما شهادات المشاركين فيه فتأتي في سياق السعي لإضفاء لمسات آنية عليه، لتميزه عن الأفلام التاريخية والمعلوماتية الصرفة، وفي مطلق الأحوال ما كانت العناصر (التقنية) على روعتها قادرة على اكتساب معانيها الحقيقية لولا نظرة صانعه الثاقبة للتاريخ  وقدرته على تحليل مفرداته وربط عناصره الفاعلة فيما بينها ليخرج بقراءة جديدة لجانب من تاريخ بلاده، وهو ما يعجز عن تحقيقه، للأسف، كثر من سينمائيينا بالرغم من الحاجة الموضوعية التي يفرضها التاريخ السياسي لمجتمعاتنا عليهم.

المخرج الإيراني "حسن أميني"

ربطه التاريخي الثابت بالمتغير السياسي الاجتماعي الآني يظهر عبر أسلوب سينمائي تعمد تداخلهما معاً وفي نفس الوقت ترك حرية كافية لكل منهما ليظهر خصوصيته ويبدو كما لو أنه يتحرك بشكل منفصل ومستقل عن الآخر. فالشغل الخاص بالحفل وتفاصيله الدقيقة يمكن لوحده أن يغطي مساحة فيلم قصير يعالج مناسبة تاريخية لافتة، وبنفس الدرجة يمكن الخروج بوثائقي مستقل يدور حول الظروف السياسية والحراك الجماهيري خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، عبر شهادات أشخاص عايشوها ويعكسون بدرجة معقولة الطيف السياسي إلى جانب الاستعانة بمؤرخين وصحفيين كتبوا في الشأن الإيراني. قاد كل هذا الفيلم للمضي في مسارين؛ منفصلين ومتداخلين في آن، ما منح مشاهده فرصة الاطلاع على مرحلة مهمة في تاريخ إيران انتقل فيها نظام الحكم من ملكي ليبرالي إلى جمهوري إسلامي. 

من الخامات النادرة المستخدمة في الفيلم، شريط تلفزيوني دعائي قرأ تعليقه المخرج الشهير “أورسون ويلز” صاحب التحفة الخالدة “المواطين كين” وكُرس لمديح الاحتفال وروعته مقابل مبلغ كبير من المال دفعته إيران للشركة المنتجة. استخدم “حسن أميني” مقاطع منه كمفتتح يولج منه المشاهد إلى قلب صحراء العاصمة الفارسية القديمة “برسيبوليس”، التي اُتخذت مسرحاً لاستقبال الضيوف وتقديم العروض “الممسرحة” في الهواء الطلق. مدينة شهدت مجد إمبراطورية عظيمة أراد شاه إيران أن يسجل اسمه إلى جانب أحد أشهر ملوكها؛ “كيروش” الذي سن أول قوانين حماية حقوق الانسان والمواطن في تاريخ البشرية.

صورة أرشيفية للحفل

حفل دُعي إليه ملوك ورؤساء دول وقادة من جميع أنحاء العالم. كُرست له الملايين وتفرغت المملكة بكاملها لإنجاحه. أُحضر الطعام وأفخر الشراب والحلويات من فرنسا، وعلى مدى أشهر كانت الطائرات تنقل الخيم المؤقتة والمخصصة لسكن القادة على متنها. حطت مباشرة في العاصمة القديمة وكانت تفاصيله الدقيقة تعد من قبل خبراء عالميين مختصين في إعداد الحفلات الباذخة والعروض الجماهيرية. شهادات طباخين عالميين ومعماريين وخبراء في البروتوكولات شاركوا في الإعداد له تعطي فكرة عن حجم المشروع الذي أمر الشاه بإنجازه دون تفكير بالعواقب المترتبة عليه. كان مبهوراً بالملك “كيروش” وأراد في ذكرى مرور 2500 عام على تأسيس مملكته أن يخلد اسمه معه بحفل يحكي العالم عنه بوصفه الأعظم والأكثر تكلفة، لا تغلى على ملك سمى نفسه ملك الملوك (شاهنشاه) ويريد دعوة أغلبية قادة العالم من شرقه إلى غربه بيمينه ويساره إلى حفلته الخاصة. لا الحفل نفسه فحسب، بل كل التفاصيل التي سبقته كانت مسجلة بكاميرات التلفزيون والفيديو الخاصة. عُرضت عبر صورة واضحة بهتت ألوانها بسبب قِدمها ما أضفى عليها صدقية وجمالية في آن.

لقطة من الفيلم

أعادت المشاهد إلى فترة زمنية بدت إيران وملكها في منجى من الاضطرابات لكن ثمة أشياء لم تظهر في المشاهد المبهرجة حاول الوثائقي إضافتها إليها لتكتمل معالمها وليساهم في كتابة جزء من تفاصيلها بلغته الخاصة وبما يتوافق مع موضوعيته. يستعرض الوثائقي الممتع، للإلمام بشخصية الشاه وطريقة حكمه البلاد، الظروف السياسية/ التاريخية التي أحاطت مجيئه إلى الحكم ثم يجاورها بعرض المشهد الخلفي للشارع الإيراني والاحتقان السياسي المكتوم الذي كان يكتنف روح جماهيره. جاء محمد بهلوي إلى الحكم بارادة دول الحلفاء، الذين قرروا إزاحة والده من العرش لقربه وتعاطفه مع النازيين الألمان. نصبوه في عام 1941وهو شاب، غربي الدراسة، ووضعوا كل ثروة البلاد تحت تصرفه. منحوه كامل الصلاحيات، فهو من يشرف على الجيش ويعين رئيس الوزراء ولوحده الحق في إعلان الحرب وله تخضع وسائل الإعلام. في عام 1967 منح نفسه لقب “ملك الملوك” وأعلن ان منصبه تكليف إلهي وليس بارادة سياسية خارجية.

لقطة من الفيلم لمشهد من الشارع الإيراني

لعرض المشهد العام للبلاد يقدم الوثائقي البريطاني شهادات من داخل القصر وخارجه. من داخله تسمع المديح له وفي خارجه الشكوى من قلة الحريات والفقر. المرحلة الأولى من العمل على مشروع الحفل يكشف جانباً من واقع البلاد. فالمسؤولون عن الإعداد له وخلال تجوالهم في الأماكن المقترحة لاستقبال العروض والضيوف وجدوها غير صالحة. لا ماء فيها يكفي ولا بنية تحتية صالحة، حتى العاصمة القديمة ومدينة شيراز كانتا تعانيان من الإهمال فاضطروا إلى إعادة تأهيلهما مؤقتاً. زرعوا المناطق الأثرية أشجاراً وأحضروا آلاف الطيور والعاصفير إليها وقضوا على الثعابين والعقارب ودمروا في طريقهم البيئة البرية.

على المستوى الشعبي كانت الحريات مقيدة والعثور على كتاب ممنوع عند أي شخص يعني الحكم عليه بالسجن وتضيف شهادة الناشط الطلابي والمعارض السياسي “إسماعيل ختاية” تفصيلات غاية في الأهمية على المشهد العام. يقابلها عرض للبذخ والاهتمام المبالغ فيه بحفل الاحتفالات. مشهدان متنافران وصولا إلى ذروة تصادمهما بعد انتشار أخبار الاحتفال  وتحرك الطلاب ورجال الدين وتندر الناس على ملكهم وعلى طريقة تفكيره ومطاللبته بالاهتمام بهم بدلاُ من الاهتمام بالعروض الفخمة التي لا تفيدهم ولا تفيد بلادهم بشيء وأن تباهيه بقوانين الملك “كيروش” الخاصة بحماية المواطن لا يقابلها عنده سوى المزيد من القمع لهم وسلب حقوقهم. ولمزيد من الربط بين الداخلي والخارجي يضم الوثائقي إلى متنه السردي شهادة مراسلة صحيفة “واشنطن بوست” سالي كوين إلى الحفل وردود الناس حوله “طلب مني بعض الإيرانيين الانفراد بهم سراً وشرعوا بالحديث عما يعانونه من فقر وحرمان وقلة حريات وعبروا عن استغرابهم من تصديق الشاه نفسه شاهاً ونسى حقيقة أنه من أبناء الشعب العاديين!”.

المعارض السياسي "إسماعيل ختاية"

لم يخطر ببال بهلوي أن رجال الدين وبخاصة الله خميني سيستغل الاحتفال لتأليب الشارع ضده في منفاه العراقي، وكما وقفوا ضد ثورته البيضاء عام 1963 وقفووا ضد حفلته في السبعينيات. يكرس الوثائقي فصلاُ للعلاقة بين الشاه وبين معارضيه من رجال الدين وغيرهم وكيف لجأ إلى أسلوب العنف لقمعهم وإلى إبعاد قادتهم من البلاد ومع هذا سيشكل وجودهم خطراً عليه أدى في عام 1979 إلى قيادتهم ثورة ضده ستسقط عرشه وتجبره على الفرار من البلاد تاركاً الحكم لهم. واحدة من المشاكل الخطيرة التي صاحبت الحفل؛ إغلاق الشرطة الجامعات وزجها بآلاف المعارضين في السجون ومنعها الناس من التظاهر، ما أثار حفيظة الرأي العام ضدهم فخرجت مظاهرات في كل مكان تندد بسياسة الشاه وعيشه الرغيد على حساب الشعب.

لم تنفع تبريرات مأجوريه ووصفهم الحفل بالمنجز القومي ولا التبجح بالعراقة الفارسية. لقد فتح الحفل نافذةً في جدار إيران سمحت للعالم بالنظر من خلالها لما يجري فيها على المستوى السياسي والاجتماعي. تعرف العالم بشكل أفضل على دور أجهزة الأمن ومراقبتها الناس وتحركاتهم ومنعهم من التعبير عن أفكارهم. حملات تضامن وحراك سياسي معارض في الداخل أجبر الشاه على تقديم اعتذار عن البذخ الذي صاحب الحفل وإقراره بوجود ممارسات قمعية داخل السجون الإيرانية. لقد وحد الحفل اليسار الإيراني ورجال الدين والطلبة معهم ضد ملكهم فخرجت مظاهرات عارمة تندد بالقصر وتدعو إلى الثورة وفي النهاية حدثت. عاد خميني من منفاه في فرنسا عام 1979 إلى البلاد ليحكمها، و”بدلاً من القيام بإصلاحات حقيقية ومنح الحريات للشعب مازال المواطن خائفاً وكما في عهد الشاهنشاه مَن يجرؤ على معارضة النظام سيكون مصيره السجن أو الموت”. كلمات قالها معارض في منفاه ليُذكر مشاهد الوثائقي بواقع البلاد في مرحلتين لعب في الأولى احتفال باذخ دوراً تاريخياً محفزاً لم يخطر على بال منظميه أنه سيلعبه بهذا الشكل الدراماتيكي ومرحلة ثانية مقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات ما دام في أحشائها ما يشجع على الانتفاض والتغيير.