“الخطة 75”.. محاربة الشيخوخة بالقتل الرحيم في كوكب اليابان

استفاق اليابانيون ذات صباح، فوجدوا أنفسهم يحدقون في الشاشات الصغيرة التي تنقل وقائع اجتماع البرلمان الياباني وهو يصوّت على مشروع “القتل الرحيم” (Euthanasia)، وذلك بحجة مواجهة الشيخوخة السكانية السريعة التي تستنزف الموارد المالية للبلاد، ويتضمن مشروع “الخطة 75” بأن لكل شخص بلغ الـ45 فما فوق الحق في القتل الرحيم مقابل مبلغ مادي يعادل 1000 دولار أمريكي يُنفقها صاحب الطلب بالطريقة التي يراها مناسبة، على أن تكون مراسيم الحرق والدفن جماعية ومجانية.

حجتهم في ذلك بأن ما يقرب من 30% من سكان اليابان تزيد أعمارهم عن 65 عاما، وغالبيتهم من النساء، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة المخيفة في العقود القادمة، بحيث يصبح نصف المجتمع شائخا ومريضا وخرفا، ويحتاج إلى عدد كبير من الشباب لخدمتهم والاهتمام بهم ليل نهار، والأهم من ذلك هو تخفيف العبء المالي الذي يُثقل كاهل الحكومة اليابانية فهي تشكو من المتقاعدين الذين يعمرون طويلا، ولا يفارقون الحياة إلا بشق الأنفس.

أما المؤسسات التي أخذت على عاتقها الترويج لهذه الخطة، فهي التي زينت لهم الفكرة وقدمتها بطريقة رومانسية جميلة زعموا فيها أن “البشر لم يستطيعوا اختيار ولادتهم، لكن من المُستحسَن أن يختاروا موتهم على الأقل”.

 

قسوة الموت الرحيم.. شخصيات تواجه الوحدة بالموت

فيلم “الخطة 75” (Plan 75) هو من إخراج المُخرجة اليابانية “تشي هاياكاوا”، وقد اشتركت في كتابة السيناريو مع “جاسون غري”، وهو يتمحور على فكرة واحدة، لكنها حساسة ومرعبة ومفادها التشجيع على الانتحار، فالقتل الرحيم حتى في معناه المُعجمي يمكن أن يُسمى بالموت الرحيم، أو الانتحار بمساعدة الطبيب، أو النهاية السعيدة الخالية من الألم، لكن العملية برمتها هي إزهاق روح حرّم الله قتلها بأي طريقة، سواء أكانت رحيمة هادئة أم وحشية قاسية.

ومن يتتبع البنية المعمارية لهذا الفيلم الدرامي سيجد أنه يقوم على ثلاث شخصيات رئيسية، وهي “ميتشي” (الممثلة تشيكو بايشو)، و”هيرومو” (الممثل هاياتو إيسومورا)، و”ماريا” (الممثلة ستيفاني أريان أشاكي)، وثمة شخصيتان أخريان وهما “يوكو” وكيلة المركز التي ستنهمك في الاتصال بـ”ميتشي” و”يوكيو” عم “هيرومو” الذي قَبِل بفكرة القتل الرحيم، لكن التركيز ظل مُنصبا على الشخصيات الثلاث الأولى التي تنطوي على قدر كبير من الإشكالية والنَفَس الدرامي.

الموظفة يوكو تلتقي بالعجوز ميتشي خلافًا للأوامر المتبعة التي تمنع مثل هذه اللقاءات

تبلغ “ميتشي” من العمر 78 عاما، وتعمل خادمة في فندق، وهي رشيقة ومعتدة بنفسها، لكنها تعاني من الوحدة، شأنها شأن كل النساء الطاعنات في السن، خاصة حينما تعود إلى منزلها فلا تجد من تتحدث إليه غير الجدران الصماء.

وحينما يستغني الفندق عن خدماتها تبذل قصارى جهدها للعثور على عمل جديد، لكنها تخفق في جميع المحاولات بسبب كِبر السن، وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد تسلمت إخطارا بضرورة إخلاء المنزل، لأن شركة السكن قررت تهديم العمارة وإعادة بنائها من جديد، وعندما وجدت نفسها بلا عمل وبلا مأوى لم تجد بُدا من التقديم على مشروع “الخطة 75” مع صديقاتها الثلاث اللواتي سُدت بوجوههن السبل، ولم يجدنَ حلا غير القتل الرحيم.

لقاء المقهى.. أحاديث مسلية وألعاب تسبق اليوم الموعود

تستلم “ميتشي” منحة الألف دولار، وتشتري بعض المأكولات المفضلة، وتقضي ليلة مع صديقتها “إنيكو” التي توفر لها ثياب النوم وفرشاة الأسنان والمنشفة وما إلى ذلك.

وفي اليوم الثاني تذهب لإكمال استمارة التقديم للخطة 75، لأن كل محاولاتها في البحث عن عمل قد باءت بالفشل الذريع، ولم يبق أمامها سوى ملء الاستمارة والرد على مكالمات دورية تقوم بها الموظفة الشابة “يوكو”، لتستكمل معها الإجراءات الروتينية التي تسبق القتل الرحيم والحرق والدفن الجماعي، وهو ما يضمن لهم تحطيم العزلة التي عانوا منها في الحياة.

لا يُسمح لموظفي الخطة 75 بأكثر من الاتصال الهاتفي، لكن “ميتشي” تطلب لقاء “يوكو” وجها لوجه، الأمر الذي يعرّضها إلى أخطار جمة قد تصل إلى الطرد من الوظيفة، ومع ذلك يلتقيان في أحد المقاهي التي كانت ترتادها مع زوجها الثاني، وتتجاذب معها أطراف الحديث عن زواجها المرتب الأول حينما كانت صغيرة جدا، وتعمل في إيصال الطلبات بدأب من الصباح حتى ساعة متأخرة من الليل. كان لديها جنين في رحمها، لكن الحبل السُري التف على عنقه ومات مخنوقا قبل أن يرى النور.

ميتشي تملأ استمارة التقديم لمشروع الخطة 75 مع عدد من صديقاتها المسنات

أما “يوكو” فقد اصطحبتها إلى صالة البولينغ وحفزتها على رمي الكرة بعد ثلاث خطوات لتُسقط الأجسام الخشبية، ومع أنها فشلت في الرمية الأولى فإنها نجحت في الثانية، وأسقطت كل الأجسام الخشبية، فنالت إعجاب الحضور واستحسانهم.

لا بد من الإشارة إلى أن اللقاء بين الموظفين ومقدمي الطلبات غير مسموح به، خشية أن تحدث علاقة حميمية بين الطرفين قد تفضي بالمتقدم إلى تغيير رأيه بالقتل الرحيم، والعودة إلى الحياة الطبيعية مُجددا، رغم الوحدة والصعوبات الأخرى التي أشرنا إليها سلفا.

عمّ “هيرومو”.. غداء أخير قبل حلم الموت الهادئ

الشخص الثاني الذي ركزت عليه المخرجة “تشي هاياكاوا” هو “هيرومو”، وهو موظف شاب في مشروع “الخطة 75″، وكان يعمل بدأب واضح، لكنه سرعان ما يُصاب بالصدمة حينما يتصل بعمِّه المُسن “يوكيو” الذي لم يرَه منذ عشرين عاما، ولم يحضر حتى إلى جنازة أخيه حين فارق الحياة، وظل يعيش في عزلة تامة في بيته شبه المهجور، ولا يتواصل مع الآخرين إلا للضرورات القصوى.

يأخذه “هيرومو” بسيارته، ويتناول معه وجبة غداء، ثم ينقله إلى المستشفى، ليفارق الحياة بهدوء تام كما وعدوه.

الموظف هيرومو ينصدم حينما يرى عمه بعد عشرين عامًا وهو يقرر التوقيع على اتفاقية القتل الرحيم

“ماريا”.. أم متعففة في مستشفى القتل الرحيم

تنطوي الشخصية الثالثة على بُعد درامي يمكن تلمّسه بسهولة، فقد كانت المهاجرة الفلبينية “ماريا” تعمل في مركز رعاية للمسنين، وبسبب مرض ابنتها “روبي” التي تعاني من مشاكل في القلب، فقد تركت عملها ووجدت عملا آخر في مستشفى “القتل الرحيم” تتقاضى فيه راتبا أعلى يساعدها في إجراء عملية “روبي”.

ثمة مؤسسة دينية تجمع لها “روبي” تبرعات مادية تعينها على إنقاذ ابنتها في أسرع وقت ممكن، ورغم حاجتها الماسة فإن “ماريا” لم تمد يدها إلى حقائب النساء التي تركْنها بعد القتل الرحيم، حتى أن زميلها في العمل أعطاها ساعة نسائية كانت ستُرمى في النفايات، ولم تقبلها إلا بعد إلحاح شديد.

حزن عميق خال من النفَس البكائي.. فن النقد

ما يميز هذا الفيلم الدرامي المتمحور حول الشيخوخة والموت والأزمات المجتمعية هو خلوّه من النفَس البكائي، كما أن الأغنيات التي سمعناها على مدار الفيلم (مدته 112 دقيقة) هي أغانٍ رومانسية ودينية معززة بموسيقى جميلة تدفع المُشاهد إلى السقوط في دائرة النشوة الوجودية التي تتعالق مع شروق الشمس وغروبها.

كما تفرّد المصور “هيديهو أوراتا” -سواء باللقطات القريبة أو البعيدة- في التعبير عن العزلة والكآبة والحزن العميق الذي ينتاب هذه الشخصيات الثلاث التي ارتأت أن تغادر الحياة، بعد أن وضعتها الدولة في زاوية حرجة لا تتيح المجال للمراوغة أو التملص أو الاحتيال.

ينتقد الفيلم بوضوح تراجع الخدمات الاجتماعية والصحية والمالية للمواطنين الذين خدموا الدولة على مدى خمسة عقود في أقل تقدير، ولم تفكر الدولة بمساعدتهم أو حتى تقديم أي بديل لهم سوى القتل الرحيم.

مشهد لموظفات الخطة 75 اللواتي يروجن للقتل الرحيم عبر التواصل مع العجزة

أوهام الاستشهاد.. خطة الحكومة اليابانية لإبادة المسنين

تعاني الحكومة اليابانية من ملفات عدة أبرزها ملف حقوق الإنسان، سواء أكان سجينا أو لاجئا من دول الجوار أو بقية بلدان العالم. ومشروع “الخطة 75” هو نوع من الإبادة الجماعية، واستحضار لخطاب “الهولوكوست” وأسلوبه الوحشي في تحفيز المواطنين الكبار في السن على الانتحار الجماعي، والإفادة حتى من موتهم عن طريق إعادة المعالجة الصناعية لعظامهم بعد الحرق.

إن من يدقق في تفاصيل حقوق الإنسان في اليابان يكتشف أن هذا البلد غير متسامح، ويسعى لتعزيز الثقافة الفردية، ويكرّس العزلة الاجتماعية للطاعنين في السن، ويحرمهم من فرص العمل والسكن الكريم، الأمر الذي دفع بعض المؤسسات الاجتماعية لتكييف مصاطب الحدائق كأسرّة للنوم، وإضافة متكئات معدنية أو خشبية لها تقوم مقام الوسائد.

والأغرب من ذلك أن الحكومة اليابانية تفكر بتخفيض السن المحدد لمشروع هذه الخطة عشر سنوات، أي أن الناس الذين يبلغون من العمر 65 عاما سوف يصبحون مؤهلين للحصول على هذه الفرصة النادرة التي تكرس أوهام الاستشهاد، بحجة أن اليابانيين معروفون بالتضحية، والجود بالنفس على مر التاريخ.

أبطال الفيلم رفقة المخرجة اليابانية “شي هايكاو”

كراهية المُعاقين.. فيلم يعكس واقعا يابانيا يرفض العجزة

لا تقتصر هذه الفظاظة والقسوة على الحكومة النيوليبرالية الحالية، وإنما تمتد إلى شرائح محددة في المجتمع الياباني.

هذه القصة مستوحاة في جانب منها من حادثة مروِّعة هزّت مشاعر اليابانيين جميعا في يوم 26 يوليو/تموز عام 2016، حين أقدمَ “ساتوشي أويماتسو” على مهاجمة دار رعاية للمعاقين وقتلَ 19 رجلا مُسنا وجرح 26 آخرين جروح 13 منهم بليغة جدا، ثم سلّم نفسه إلى الشرطة مُدعيا بأنه كان يحاول تخفيف العبء عن عائلاتهم، وسوف تكشف التقارير الطبية لاحقا أن الدافع الحقيقي وراء هذه الجريمة الشنعاء هو كراهية المُعاقين.

جدير بالذكر أن “تشي هاياكاوا” من مواليد طوكيو، وقد درست التصوير في مدرسة الفنون البصرية في نيويورك، وأنجزت حتى الآن خمسة أفلام، من بينها “ما تحمله ليس تفاحا” و”نياگارا” الذي فاز بجائزة الفبريبسي في فلاديفوستوك، و”الخطة 75″ الذي فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان “كان” السينمائي الدولي.