“الخُلد”.. أخطبوط كوريا الشمالية الذي يوزع الأسلحة في العالم

قيس قاسم

يقدم الوثائقي الدنماركي “الخُلْد.. تخفٍّ في كوريا الشمالية” (The Mole: Undercover in North Korea) أدلة دامغة على تجاوز كوريا الشمالية لقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحظر بيعها للأسلحة والاتجار بها، وعلى ابتكارها أساليب جهنمية لفك الحصار الدولي المفروض عليها.

أدلة وثقت سينمائيا لأول مرة بالصوت والصورة، بعد أن تمكن الوثائقي من اختراق جدرانها والوصول إلى موطن أسرارها، وذلك عبر شخص دنماركي يُطلق عليه صفة “خُلْد” (الخُلْد أو الحفار هو حيوان يحفر الأرض، ويخترق تربتها للوصول إلى الحشرات التي يتغذى عليها)، وقد نجح في إقناع مسؤوليها بإخلاصه لهم، إلى جانب دخول شخص آخر على الخط لعب دور رجل أعمال، ونجح أيضا في توثيق صفقات سرية لإنتاج الأسلحة وتصديرها إلى مناطق مشتعلة في أنحاء مختلفة من العالم، وقعها بنفسه مع عدد من مسؤوليها.

 

عميلة المخابرات البريطانية.. غربال تصفية الحقائق

قصة الفيلم تبدو لغرابتها وكأنها خيالية، لولا ما تضمنته من وقائع وحقائق لا يدنو إليها الشك، إلى جانب حرص مُخرجه الألمعي “مادس بروغر” على تقوية مصداقية أحداثه على الدوام بشهود وقرائن موثوقة.

هذه المرة يستعين بعَميلة مخابرات بريطانية سابقة للتحقق من أقوال وشهادات الشخصيتين المتنكرتين، فتستمع إلى أقوالهم، وتتابع التسجيلات السرية التي ثبتاها بكاميرات ولاقطات صوت سرية، تسألهما عن تفاصيل مواقف وأحداث مرا بها، ثم تقوم بعد ذلك بتحليلها والتصديق عليها، أما القصة الحقيقية وكيف بدأت، فيتدخل المخرج بنفسه لسردها، مع تدوين دقيق لمساراتها التاريخية.

الطباخ الدانماركي المتقاعد “أولريك لارسن” الذي يقوم بدور “الخُلد” الذي يُساعد في اختراق كوريا الشمالية

 

“أولريك لارسن”.. طبّاخ مُتقاعد يستعد لاختراق كوريا الشمالية

يَرجع المُخرج في معرض إجابته على سؤال العميلة البريطانية حول مبعث اهتمامه بكوريا الشمالية إلى عام 2006، وذلك عندما أنجز فيلما عنها عنوانه “المعبد الأحمر” (The Red Chapel)، وقد اعتبرته السلطات الكورية مسيئا لها ولزعمائها، فقررت منع دخوله إلى البلد مدى الحياة.

ارتباطا بالفيلم تبرز قصة الطباخ الدانماركي المتقاعد “أولريك لارسن” الذي اتصل بالمُخرج وأخبره أنه قد شاهد فيلمه وأُعجب به، وعليه أبدى استعداده للتعاون معه، والدخول بدلا منه إلى كوريا الشمالية إذا أراد ذلك.

خلال اجتماعه مع المخرج تتضح رغبة الطباخ -الذي يعيش حياة عائلية بسيطة، وقد أحيل إلى التقاعد المبكر- في لعب دور “خُلْد” بديل، فقد جرّب ذلك الدور من قبل عندما تمكن من اختراق “جمعية الصداقة الدنماركية الكورية الشمالية”، وأصبح عضوا ناشطا فيها.

قصة الطباخ والوثائقي معها امتدت لمدة عشر سنوات جرت خلالها وقائع كثيرة غطت مساحات جغرافية واسعة وشملت مناطق صراعات مسلحة.

النبيل الإسباني “أليخاندرو كاو دي بينوس” المقرب كثيرا من القيادة الكورية ويتولى رئاسة “جمعية الصداقة الكورية”

 

“جمعية الصداقة الكورية”.. اختراق عالم النبلاء المقربين من السلطة

وجد “الخُلْد” في الجمعية عالما غريبا حرص على تصويره، وقدم نفسه لمسؤوليها كمصور هاو يمكنه توثيق فعالياتها، يستغل المخرج ذلك الجانب، ويعتمد على “المُخترق” لاحقا في تصوير كامل تجربته بكاميرا خَفيّة.

بالتدريج تمكن “الخلد” من كسب ثقة الجمعية، وفي عام 2012 تقرر ضمه إلى الوفد الذي يزور العاصمة بيونغ يانغ، وأثناء الزيارة تعرف هناك على النبيل الإسباني “أليخاندرو كاو دي بينوس” المقرب كثيرا من القيادة الكورية، ويتولى رئاسة “جمعية الصداقة الكورية” التي لها فروع في عدة بلدان، وتضم في صفوفها آلاف المعجبين بالتجربة الكورية.

بعد عام كامل يقترح الإسباني على الطباخ الدنماركي تولي مسؤولية فرع الجمعية الدولية في إسكندنافيا. لم ينتظر النبيل الإسباني طويلا، فبدأ بالضغط على “أولريك” مطالبا إياه بجذب الاستثمارات وتشجيع رجال الأعمال الإسكندنافيين على إقامة مشاريع كبيرة في كوريا الشمالية، أو لصالحها في الخارج.

 

“مستر جيمس”.. لقاء مع وسيط كوريا في أوسلو

يهرع مخرج الوثائقي لنجدة الطباخ عبر زج “مستر جيمس” (اسم مستعار يطلقه على نفسه) في العمليات التجارية المطلوبة، ويوصي “الخُلْد” بتقديمه للإسباني كمستثمر يعمل في مشاريع استيراد وتصدير البترول.

للتعريف به يعرض الوثائقي نبذة عنه، جندي مرتزق سابق، وتاجر مخدرات حُكم عليه في كوبنهاغن لعدة سنوات، وعند خروجه من السجن أخذ يُقدم نفسه كتاجر ورجل أعمال. قَبِل بلعب الدور وطلب مقابلة “أليخاندرو” في أوسلو، وفي أحد الفنادق ربط المخرج كاميرا خفية على جسده وسجّل كل ما جرى بينه وبين الإسباني بحضور “الخُلْد”.

تكشف المقابلة دور رئيس “جمعية الصداقة” والمهام التي يكلفه بها الكوريون، فهم يريدون بكل السبل الحصول على استثمارات مالية واسعة يكسرون بها حصارهم ويجنون من ورائها “عملة صعبة”.

دون خشية يعرض الإسباني على الملياردير مشاريع تطوير أدوية يظهر من خلال كلامه أنه يعني بها حبوبا ومخدرات ممنوعة، ويقدم له فرص الحصول على أنواع الأسلحة والاتجار بها بما فيها المتطورة، مثل صواريخ بالستية ودبابات وغواصات.

لا يخفي الإسباني تصدير كوريا الشمالية الأسلحة المتطورة بما فيها الصواريخ لإيران، من جانبه يلعب “مستر جيمس” دوره بإتقان ويطلب من الوسيط الحصول على أسلحة متطورة.

“الخُلد” يستعد للتوثيق بكاميرته الخفية اللقاء الذي سيجمعه بـ”مستر جيمس”

 

بيونغ يانغ.. إبرام صفقات بيع السلاح في مكان مهجور

في مدريد يرتب “الخُلْد” رغم تضييق السلطات الإسبانية الخناق على رئيس الجمعية الدولية عام 2016 لقاء بين رجل الأعمال “مستر جيمس” وبينه، ويتفق الطرفان على إبلاغ الكوريين بما يريده منهم.

في عام 2017 يطلب الكوريون من المستثمر المجيء إلى العاصمة بيونغ يانغ، وفي إحدى الأمكنة المهجورة يستقبل “مستر جيمس” من قبل مسؤولين كبار في الدولة، ويجري الاتفاق معه على إبرام صفقات سرية، وسط أجواء أمنية مشددة تزيد من درجة توتر الوثائقي، وتُجلي ضخامة العروض المقدمة بصورة لا تقبل التأويل.

قدم المسؤولون لرجل الأعمال قائمة بالأسلحة وبأسعارها، ودون تردد أخبروه بأنهم على استعداد لتزويده بكل ما يريد من أسلحة، بشرط أن يكون ذلك خارج أراضي كوريا الشمالية.

بعد تأكدهم من رغبته في العمل معهم رفعوا من منسوب عروضهم، واقترحوا عليه بناء مصنع للأسلحة في أفريقيا تحت غطاء مشروع سياحي يُقام في أوغندا لحسن علاقاتهم وصداقتهم مع بعض مسؤوليها.

رجل الأعمال “مستر جيمس” يعقد صفقة يحصل بموجبها على حق شراء جزيرة صغيرة تقع وسط بحيرة فكتوريا

 

شراء الجزيرة وتهجير السكان.. تغلغل الفساد الكوري في أوغندا

في العاصمة كامبالا ينجح رجل الأعمال “مستر جيمس” في إبرام صفقة تجارية يحصل بموجبها على حق شراء جزيرة صغيرة مأهولة بالسكان تقع وسط بحيرة فكتوريا. يتواطأ مسؤولو المنطقة معه على تهجير سكانها تسهيلا لإقامة مدرج لطائرات الهليكوبتر بعيدا عن أنظارهم.

الخطة تتضمن التزام الجانب الكوري بجلب المعدات والآلات من البلد جوا تحت غطاء “مساعدات إنسانية”، ليقوم بنصبها والشروع بإنتاج الأسلحة بشكل سري، مقابل أن يتكفل رجل الأعمال بتسديد تكاليف المشروع.

وتكشف عملية شراء الجزيرة ومخطط البناء حجم الفساد الهائل في مؤسسات الدولة الأوغندية، ومقدار توغل كوريا الشمالية داخلها.

أسلحة النظام السوري.. تدخل الصين على خط الوساطة

في تطور لاحق يواكبه الوثائقي تتكشف شدة تعقيد شبكة العلاقات الكورية الشمالية الممتدة إلى أنحاء العالم عبر وسطاء يعملون لصالحها مقابل المال، ومن بين ذلك منطقة الشرق الأوسط، حيث يطلب الكوريون من التاجر التوسط لنقل أسلحة للنظام السوري.

وعلى الخط السوري يتدخل الصينيون الذين يطلبون من رجل الأعمال “مستر جيمس” القدوم إلى بكين من أجل تسهيل عملية نقل الأسلحة، وفي بكين تسجل تفاصيل اللقاءات والمباحثات بكاميرا خفية.

مع كثرة تشعب حركات الجهات المعنية بنقل الأسلحة وبناء المصانع وتوقيع العقود؛ يبدو النبيل الإسباني مطلعا على الكثير من تفاصيلها، وبدوره يقوم بالتغطية عليها عبر مقابلات تلفزيونية وصحفية، ويشدد على نفي الأخبار الواردة عنها، ويصفها دوما بعبارة “أخبار كاذبة”.

لقاء سري يُعقد في الأردن يكشف طبيعة البضاعة الكورية الشمالية التي تُهرب بطريقة غير شرعية

 

تهريب النفط لكسر الحصار.. لقاءات سرية في الأردن

لا يكتفي الكوريون ببيع السلاح وبناء مصانع إنتاجه في الخارج، بل يسعون إلى توسيع علاقاتهم بالتجار والوسطاء من أجل تسهيل وصول البترول إليهم، كسرا للحصار الأممي المفروض عليهم.

يُطلب من “تاجر البترول” مفاتحة صاحب شركة أردني لنقل كميات من النفط بطرق غير شرعية إليهم، ويسجل الوثائقي سِرّا اللقاءات التي تجري في الأردن عام 2018، ومراسيم توقيع صفقات نقل النفط بين صاحب الشركة و”مستر جيمس”.

عمليات شحن النفط معقدة تتنقل من طرف إلى آخر، وتجري غالبا وسط البحار، وتشحن بسفن تجارية مجهولة الهوية يصفها المتورطون بها بأعمال مافيا خطيرة.

 

اختفاء الشبح الغامض.. نهاية ألاعيب المخرج

تتوسع مساحة الوثائقي بتوسع مساحة حركة البيع والشراء في مناطق مختلفة من العالم، وفي اللحظة المناسبة وخشية من احتمال كشف حقيقتهم، وتعرض حياتهم للخطر؛ يقرر المخرج إيقاف دور رجل الأعمال “مستر جيمس”، ويُطلب منه الاختفاء فورا، ودون مقدمات يختفي الرجل مثل شبح غامض.

أوقف المخرج اللعبة بعد أن حصل على كل الأدلة التي تثبت وتفضح أساليب تملص كوريا من الحصار المفروض عليها، ودورها في توسيع تجارة السلاح وبيعه بطرق غير شرعية، بما يساعد على تأجيج الحروب في مناطق مختلفة من العالم.

أصابت الصدمة النبيل الإسباني عندما سمع بخبر اختفائه، وكانت أكبر عندما أعلن له مندوب جمعيته في أسكندنافيا المُطّلع على الكثير من أسرارها، والشاهد على الكثير من صفقات بيع الأسلحة والمخدرات؛ عن دوره في توثيقها وكشفها للعلن عبر فيلم للمخرج الدانماركي “مادس بروغر”.

 

حماية الخُلد وعائلته.. أخلاقيات المهنة السينمائية

تقيّدا بالتزام الوثائقي بأخلاقية المهنة السينمائية، وبعد الانتهاء عام 2020 من العمل بالفيلم؛ يتعهد مخرجه بتأمين حماية خاصة للخُلْد ولعائلته، أما “مستر جيمس” فقد رفض العرض معتمدا على نفسه في تأمين تحركاته والحفاظ على سرية إقامته.

على مستوى آخر يحاول المخرج التوسط بين “الطباخ” وزوجته التي ظلت تجهل دوره خلال عشر سنوات، وبعد معرفتها بالأمر زاد غضبها على زوجها الذي تعهد أمامها بعدم القيام بدور الخُلْد ثانية.

منجز الدانماركي “بروغر” يضعه بين أهم المخرجين الوثائقيين في العالم، ويضع فيلمه بين أهم الأفلام الاستقصائية التي أُنتجت مؤخرا.