“الرقصة الأخيرة”.. سجايا العبد والمراهق في شخصية أعظم أساطير كرة السلة

إبراهيم إمام

ليس من السهل بالتأكيد مناقشة ثماني ساعات من المصادر والمواد الفيلمية الأصلية المبهرة المسجلة عن مجموعة من أفضل لاعبي كرة السلة في التاريخ يقودهم النجم الأكثر سطوعا، والذي يعتبره كثير من أساطير اللعبة “الأعظم في التاريخ”.

لكن قبل أن نبدأ بالتحليل ربما يحسن بنا أن نشير إلى النقطة الأهم، وهي أن وثائقي “الرقصة الأخيرة” (The Last Dance) ليس وثائقيا عن كرة السلة، بل عن الرحلة الإنسانية للاعبيها، وهو وثائقي ممتع سواء كنت مهتما بهذه اللعبة تحديدا أو لا، بل يمكن أن نذهب إلى أنه سيكون مثيرا للاهتمام، حتى وإن لم تكن مهتما بالرياضة على الإطلاق.

والسبب في ذلك أن رحلة أبطاله ومجموعة التحديات التي تواجههم هي رحلة الفشل والنجاح التي يمكن تعميمها على الكثير والكثير من القصص خارج عالم الرياضة، وهي نفس القصة التي تنطوي عليها أفلام الإثارة والحركة والأفلام التاريخية وغيرها من الأفلام.

“مايكل جوردان”.. قائد التحول الأعظم في تاريخ كرة السلة

جدير بالذكر أن نشير إلى أن “مايكل جوردان” يشبه في تأثيره على اللعبة تأثير لاعب كرة القدم الأرجنتيني “مارادونا”، وهو ما يعني أن هناك الآلاف أو الملايين حول العالم لا يعلمون شيئا عن كرة السلة، ولا يتابعون مبارياتها، لكنهم يعلمون أن “مايكل جوردان” هو أحد أهم لاعبي هذه الرياضة.

 

ساهم “جوردان” في تغيير شكل اللعبة بصورة جوهرية، بل إن لاعبي كرة السلة بعده أصبحوا من أثرياء المجتمع الأمريكي، على العكس من لاعبي ما قبل “جوردان”، ويمكن التكهن بأنك إن كنت من مواليد الثمانينيات أو ما قبلها، فمن المتوقع أن شعار نادي شيكاغو الذي انتمى إليه “جوردان” يعتبر صورة مألوفة لك، حتى وإن كنت غير مدرك للعلاقة بين صورة الثور الأحمر الشهيرة والنادي، كل هذا على الرغم من أنك غير مهتم باللعبة، وعلى الرغم من كونك مواطنا عربيا لا علاقة له بالشأن الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة قبل ثورة الإنترنت.

كيف فعلها جوردان إذن؟ هذا ما نجيب عنه من خلال ما عرضه وثائقي “الرقصة الأخيرة”.

ثيران شيكاغو.. فرصة أخيرة لآخر رقصة في النادي

يحكي الفيلم قصة فريق شيكاغو الملقب بـ”الثيران” أو “ثيران شيكاغو” في أوائل التسعينيات، ففي تلك الفترة لم يكن الفريق على قدر عال من التميز، لكن هذه الحقبة شهدت نشأة مجموعة من أفضل لاعبي اللعبة على الإطلاق، مع انضمام واحد من أفضل مدربيها، مما أدى إلى فوزهم بنهائي البطولة ست مرات، وهو رقم لم يحققه أي لاعب قبل “جوردان” إلا مرة واحدة.

كثير من نخبة لاعبي اللعبة قبل شيكاغو “جوردان” استطاعوا الفوز ببطولتين في تاريخهم، لكن “جوردان” استطاع فعلها ست مرات كاملة. إلا أن المسلسل لا يبدأ من هذه النقطة، بل على العكس من ذلك يبدأ بعد الفوز الخامس لهم، حين قررت إدارة النادي التخلي عن المدرب، وربما بعض اللاعبين أيضا، في محاولة منهم لإعادة بناء الفريق.

الثور الأحمر المميز لفريق كرة السلة الخاص بمدينة شيكاغو، والملقب بـ”ثيران شيكاغو”

 

كانت الإدارة ترى أنهم فازوا خمس مرات، ومن المهم أن يحافظوا على شباب الفريق، وأن هذه اللحظة تحتاج إلى شجاعة كبيرة كي يتوقف الفريق للحظة ويعيد بناء نفسه. أتت هذه الأخبار بوصفها كارثة، كان الفريق مهيمنا على اللعبة بشكل كامل، ومن غير المفهوم التخلي عنهم بينما لا يزالون يفوزون، ونتيجة لبعض الضغوط والظروف المختلفة قررت إدارة النادي استمرار المدرب والفريق بشكله المعهود لسنة أخرى واحدة فقط.

وهكذا أطلق المدرب “فل جاكسون” على هذه الدورة اسم “الرقصة الأخيرة”.

دورة التحدي.. خطة إثبات الهيمنة على اللعبة

لم تكن هذه الدورة دورة عادية يواجه فيها الفريق تحدي الفوز على الآخرين كالمعتاد، لكنهم كانوا يواجهون هذا التحدي المعتاد مع العلم بأنها ستكون آخر مرة، بالإضافة إلى أن الفوز بهذه الدورة أيضا سيثبت أنهم ما زالوا قادرين على الفوز، وأنهم لا يزالوا مهيمنين على اللعبة، وأن إدارة النادي مخطئة في تقييمها.

بينما يحكي الوثائقي قصة هذه الدورة، فإنه يعود بالذاكرة إلى البدايات مخصصا حلقة كاملة عن بدايات “جوردان”، ثم حلقة أخرى عن “سكوتي بيبن”، ثم واحدة عن “دينيس رودمان”، وهم الثلاثي الأهم في الفريق.

الثلاثي الأبرز في فريق شيكاغو “مايكل جوردان” و”سكوتي بيبن” و”دينيس رودمان” مع المدرب “فيل جاكسون”

 

يبدأ المسلسل ببدايات الثلاثي مرورا بانضمامهم إلى الفريق حتى صعودهم إلى القمة والفوز بالبطولة، وبينما يحكي هذه القصة ينتقل بين الحين والآخر إلى أحداث الدورة السادسة أو الرقصة الأخيرة، وقد رأى بعض النقاد أن هذا الهيكل لم يكن موفقا، فالفارق الزمني بين هذه الأحداث يكون في أقصاه ست سنوات، وفي أقله سنة واحدة، مما وضع الكثير من المشاهدين في حالة ارتباك وحيرة لعدم القدرة على التفرقة بين الزمن الذي يشاهدون أحداثه.

“إن وجودك في محيط جوردان يعني أنك في مسابقة معه”

“قد يتعجب البعض قائلين ما هذا؟ إنه لم يكن شخصا لطيفا، لقد كان طاغوتا، نعم، هذا ما ستقوله أنت.. أنت لم تفز بأي شيء”. مايكل جوردان.

بعد انتهاء المرحلة التقديمية في المسلسل التي يعرض فيها الشخصيات الرئيسية، يبدأ التركيز على رحلة الفوز التي قادها “مايكل جوردان”، وشخصية “جوردان” ما زالت تثير الجدل حتى اللحظة، فهي تقدم نموذجا محيرا يراه الكثيرون ملهما، بينما يراه آخرون غير أخلاقي.

يجمع كل من عاصر “جوردان” -بالإضافة إليه نفسه- أنه امتلك شخصية تنافسية لم ينازعه فيها أحد، بل إن الممثل الأمريكي الشهير “ويل سميث” عندما سئل عن شكل علاقته به قال: مسابقة، إن وجودك في محيط “جوردان” يعني أنك في مسابقة معه، لو كنتما تأكلان معا فسيجد أمرا ما ينافسك فيه، ربما من ينهي الأكل أولا أو من يأكل كمّا أكبر، وإن كنتما تمشيان سويا فسيكون هو أمامك بخطوة على الدوام.

 

من الطبيعي أن تكون هذه الشخصية هي الأنسب للفوز بالبطولات الرياضية بطبيعة الحال، لم يكن “جوردان” يقبل بالخسارة أبدا، والمسلسل يعرض لأول مرة كمّا ضخما من المواد مصورة عن قرب من بدايات التسعينيات لم  يفصح عنها من قبل، تمتد هذه المواد الفيلمية لتغطي لحظات شديدة الشخصية، مثل بكاء “جوردان” في غرفة تغيير الملابس بعد وفاة والده على سبيل المثال.

إنتاج الفيلم.. مسابقة خفية بعد عشرين عاما

لم يكن طريق “جوردان” سهلا بالتأكيد، وقطع هذا الطريق والوصول إلى هذه النتائج لم يكن ليحدث دون هذه الشخصية المقاتلة المتعطشة للانتصار دون أن يشبعها شيء.

هنا تظهر المشكلة، فالفيلم وربما الثقافة الأمريكية عامة تحتفي بهذه الشخصية التي تفعل أي شيء إلى درجة تخطي الحدود في التعامل الشخصي بين “جوردان” وزملائه من أجل النصر، إلى درجة الاعتداء اللفظي والبدني.

تتسم هذه الشخصية بسعيها غير المقيد بشيء في سبيل هدف واحد فقط، ومن الطريف أن بعض اللاعبين يشير إلى أن إنتاج الوثائقي ذاته كان جزءا من مسابقة خفية، فقد صُوّر هذا الكم الهائل من المصادر المعروضة في المسلسل في التسعينيات، لكنها ظلت حبيسة سجلات دوري كرة السلة الأمريكية، فقد رفض “جوردان” إنتاج هذا الوثائقي الذي كانت فكرته مطروحة منذ عام 1997.

 

شيء ما حدث عام 2016 دفع “جوردان” إلى الموافقة على البدء في إنتاج الفيلم، وهذا الشيء هو فوز فريق “كليفلاند” على فريق “جولدن ستيت”، ومعه فوزهم بالبطولة، وقد كان فريق “جولدن ستيت” من أمهر الفرق التي شهدتها اللعبة، إلى درجة مقارنتهم مباشرة بشيكاغو “جوردان”.

“هذا الفوز يجعلني الأفضل في التاريخ”.. استفزاز ثور شيكاغو المراهق

علق نجم “كليفلاند” وأحد أفضل اللاعبين في التاريخ “ليبرون جيمس” بعد فوزهم هذا قائلا “هذا الفوز يجعلني الأفضل في التاريخ”. وفي مساء هذا اليوم أعلن “جوردان” موافقته على البدء في العمل على الوثائقي.

يبقى أن نشير إلى أن إحدى الشركات التي أنتجت الوثائقي هي شركة مملوكة للاعب “جوردان” ذاته، وأن العقود المبرمة اشترطت أن تحصل النسخة الأخيرة على موافقته الشخصية قبل النشر، وهو ما يعطي فكرة جيدة عن أن الهدف الأكبر من الوثائقي هو تعزيز صورة “جوردان” بوصفه الأفضل في التاريخ، وهو ما يبرر أيضا غضب “سكوتي بيبن” وتعليق الكثيرين على الوثائقي بوصفه تلميعا لصورة “جوردان” على حساب جميع من حوله، بما يتضمنه ذلك من زملائه في الفريق.

لكن “جوردان” وآخرين معه يناقشون هذه الميول التنافسية المفرطة بوصفها إحدى علامات ودلائل العظمة. يقول “جوردان” إن هذه الميول بدأت عنده منذ الصغر لأن والده كان يفضل أخاه الأكبر عنه، وهو الأمر الذي أكده الوالد بالفعل، كان هذا هو العامل الأكبر الذي دفعه إلى منافسة أخيه للحصول على رضا والده، وهو الأمر الذي لم يتوقف عنه طوال مسيرته.

“مايكل جوردان” حاملا لكأس البطولة بعد أن أصبح من الواضح للجميع أنه أحد أهم اللاعبين في التاريخ

 

يمكننا أن نتأكد من هذا عندما نعلم أنه بمجرد وفاة الوالد، اتخذ “جوردان” قرار الاعتزال، فبغياب الوالد غابت رغبته في المنافسة.

“وظيفتي هي الفوز وليس أي شيء آخر”.. لغة العبيد الرومان

يقول “مايكل جوردان”: أعظم شرف يمكن أن يحصل عليه لاعب كرة السلة، هو الفوز بالبطولة.

من المثير للغاية أن هناك تشابها مدهشا بين اللغة التي يستخدمها “جوردان” وعدد من لاعبي الرياضات المختلفة، وبين اللغة التي يستخدمها العبيد في الحضارة الرومانية القديمة.

ففي أفلام ومسلسلات عدة مثل “المصارع” (The Gladiator)، وفيلم “سبارتاكوس” (Spartacus)، وكذلك المسلسل الذي يحمل نفس الاسم “سبارتاكوس” (Spartacus)؛ نشاهد الصراع المستمر بين البطل، سواء كان “سبارتاكوس” أو غيره وبين نفسه، أو بينه وبين عبيد آخرين، حيث يرغب البطل في الحصول على حريته والخروج من حلبة المصارعة، بينما لا يرى الآخرين أبعد من الحلبة نفسها.

 

يتقبل العبد دوره كعبد مقاتل ليس له وظيفة أخرى، وأعلى شرف يمكن أن يحصل عليه هو الفوز لإرضاء سادته والمتفرجين. وهي اللغة ذاتها التي يستخدمها “جوردان” بالضبط، إذ يقول “أنا لاعب كرة سلة، وظيفتي هي الفوز وليس أي شيء آخر”، وهي الفكرة التي يشاركه فيها عدد غير قليل من اللاعبين.

لهذا السبب فإنه من المعتاد أن نشاهد المقارنة بين رياضيين مثل “جوردان” والملاكم الشهير “محمد علي”، وهي المقارنة التي عرضها الوثائقي نفسه.

“الجمهوريون أيضا يشترون الأحذية الرياضية”.. مقارنة الأساطير

يعرض الوثائقي مقارنة بين “مايكل جوردان” و”محمد علي كلاي”، فقد حقق كلاهما أعلى الألقاب في رياضتيهما، ويحمل محمد علي بدون منافسة تقريبا لقب الأعظم في التاريخ، تماما كما هو الحال مع “جوردان”، لكن السعي الدائم والصراع المستمر الذي خاضه علي لصالح حقوق المسلمين والأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي لا يخفى على أحد، وهو من أهم الجوانب في قصته التي جعلته يتربع على عرش رياضته.

وأما على الجانب الآخر في حالة “مايكل جوردان”، فإنه لم يقدم أو يحاول تقديم الدعم لمجتمعه على الإطلاق، بل إنه أعرض عن هذا عندما أتيحت له الفرصة، ففي انتخابات عام 1990 في ولاية “نورث كارولينا” التي ينتمي إليها “جوردان”، ترشح الجمهوري “جيسي هيلمز” المعروف بمواقفه العنصرية الواضحة والمباشرة، في مقابل الديمقراطي الأفريقي الأمريكي “هارفي جانت”.

على يمين الصورة “مايكل جوردان” معبرا عن سعادته بالفوز، وعلى يسارها الملاكم محمد علي كلاي صارخا للإعلان فوزه

 

في هذا الوقت كان “جوردان” قد أبرم عقدا مع شركة “نايكي” (Nike) للملابس الرياضية كي تستخدم الشركة اسمه وصورته وتنتج حذاء رياضيا باسمه، وقد حقق هذا الحذاء مبيعات تقدر بما يقرب من 126 مليون وحدة، مما جعل “جوردان” نجما رياضيا عالميا، وأحد أكثر الرياضيين ثراء.

طلب كثيرون من “جوردان” دعم “هارفي جانت” في الانتخابات في مقابل العنصري “هيلمز” لكنه رفض، قائلا واحدة من أشهر عباراته “الجمهوريون أيضا يشترون الأحذية الرياضية”، مشيرا إلى أن فوز أي منهم غير مؤثر على مصالحه الاقتصادية.

“برايم تايم إيمي”.. جائزة أفضل سلسلة وثائقية

لم يكن وثائقي الرقصة الأخيرة مجرد وثائقي عابر كما هو الحال مع كثير من الوثائقيات عن كرة السلة، لكنه أثار كثيرا من الجدل والنقاشات المحتدمة بين النقاد واللاعبين، سواء القدامى أو المعاصرين، وقد حصل على جائزة “برايم تايم إيمي” (Primetime Emmy) لأفضل سلسلة وثائقية.

لكن من تباين ردود الأفعال المختلفة يمكننا أن نكوّن صورة بسيطة نسبيا عن المسلسل في عدة نقاط هي أن الوثائقي ممتع بالتأكيد، ولا يحتاج إلى علم بالرياضة أو اهتمام خاص بها، فإذا قررت مشاهدته أعط بعض التركيز لتاريخ الأحداث حتى لا ترتبك.

وأخيرا نشير إلى أن الوثائقي يعكس وجهة نظر “جوردان” نفسه، ومن ثم فهناك انحياز واضح لروايته، وإذا وضعت هذا في الاعتبار فسيكون المسلسل فرصة جيدة لقضاء بضع ساعات تتعرف فيها على السبب الذي يجعل صورة الثور الأحمر مألوفة لك.