“الرقيب”.. أمهات قاتلات تحت رحمة المأمورة السجينة

“وجود الأطفال في حياتنا يُحقق لنا السعادة، عندما بلغت عامي الرابع والعشرين دخلت السجن، ولن أخرج منه قبل أن أبلغ 32 عاما، عندها سيكون الإنجاب صعبا، لذا قررت أن أنجب أثناء تمضية فترة العقوبة، لدي الآن ثلاثة أطفال، نعم كان زوجي يزورني، ويدخل معي لمطبخ السجن، هكذا وقع الحمل، وكانت السجَّانات تعرفن بوجوده، فهن مَنْ سمحن له بالوجود، ولقد حصلن على بعض الأموال مقابل ذلك”.

هكذا تُجيب إحدى السجينات على “إيرينا” مأمورة السجن المرأة الشابة غير المتزوجة، وهي تستجوب جميع بطلات الفيلم في لقطات سريعة عن أسباب العقوبة، وذلك ضمن أحداث الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوانا بالإنجليزية “الأمهات 107″، بينما عنوانه بالأوكرانية هو “الرقيب” (Cenzorka)، وهو من إنتاج سلوفاكي أوكراني تشيكي (2021)، وقام بإخراجه “بيتر كيريكس” الذي حصدت أفلامه المتميزة نحو 17 جائزة من مهرجانات دولية عريقة، منها برلين وكارلوفي فاري والبندقية، ويُعرض أحدث أفلامه “الرقيب” ضمن المسابقة الرسمية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثالث والأربعين الممتد من 26 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى 5 ديسمبر/كان الأول.

إصلاحية أوديسا 74.. ولادة الأيتام في السجون الأوكرانية

ظاهريا وفي أبسط خطوطه يحكي الفيلم عن 107 من النساء يعشن ويعملن في سجن أوكراني، إنها قصص من الحياة الواقعية لسجينات أغلبهن قاتلات لأزواجهن، أو قتلن عشيقات أزواجهن بسبب الغيرة أو الخيانة، ويعشن سنوات السجن في إصلاحية أوديسا رقم 74.

إنها إحدى إصلاحيتين في السجون الأوكرانية، حيث يمكن للنساء الحوامل أن يقضين فترة عقوبتهن مع أطفالهن، ليس طوال الوقت بالطبع، لكن يُسمح لهن بقضاء ساعتين أو ثلاث في اليوم.

ومع ذلك تنص الأحكام القاسية على أنه مع بلوغ الطفل 3 سنوات، فإنه يرسل إلى دار للأيتام ويفصل للأبد عن والدته، حتى إنها لن تستطيع استعادته بعد الإفراج عنها، أما إذا كانت المرأة محظوظة وحسنة السلوك وأوشكت عقوبتها على الانتهاء، أو قاربت نصف المدة مع عيد ميلاد الطفل الثالث؛ فيمكنها حينئذ أن تتقدم بطلب العفو والإفراج المشروط.

أوقات العائلة والعمل والرياضة.. يوميات السجن

هناك ثلاثة خطوط متمازجة بالفيلم، الأول يخص السجينات وراء تلك القضبان وحكاية بعضهن مع القتل وأسبابه، والفحص الطبي الدقيق لهن، واجتماعاتهن مع بعضهن، ولقاءاتهن بأطفالهن، إذ يقمن بإرضاعهم أو اللعب معهم، والاحتفال بهم في أعياد الميلاد، أو تأملهم عند حلاقة الرأس عندما يقتربون من بلوغ 3 أعوام.

سجينات يعشن سنوات السجن في إصلاحية أوديسا رقم 74 بعد أن قتلن أزواجهن أو عشيقات أزواجهن

يتنوع الجدول اليومي لحياة النساء ما بين ساعات الاستيقاظ وتناول الفطور وبدء العمل بدرجاته المختلفة والمتنوعة بين فصول السنة بطقسها المختلف، فمرات يُزلن الثلج ويقمن بتنظيفه من فوق الأسقف والأرضيات في فناء السجن، ومرات ينظفن الأماكن من الأتربة، أو يقمن بغسيل الملابس ونشرها في الهواء الطلق، أو يقمن بتفصيل الملابس بمصنع الحياكة، وتارة يكن بالمطبخ حيث تقشير البطاطا أو التهام البطيخ في سعادة، أو يُمارسن التمارين الرياضية.

بين كل نشاط وآخر والعودة لمكان النوم سيكون هناك تفتيش دقيق حساس إلزامي، سواء مع السجينات أو الزوار، وذلك رغم تصريح السجينة عن الرشوة في مقدمة الفيلم، لكننا نعايش صرامة التعليمات أمام الكاميرا.

“ألن يسمح لي بأن أرضع ابني؟”.. عزلة السجينة النفساء

في الفيلم سنتعرف على جوانب إنسانية أبعد من الجرائم التي كانت سببا في دخولهن عالم السجن، فمثلا “ليزا” امرأة شابة قتلت زوجها بسبب الغيرة، وكانت حاملا تضع مولودها أثناء الحبس، حيث سجلت الكاميرا لحظات الولادة.

تُخبر “إيرينا” مأمورة السجن “ليزا” عقب الولادة أنه ستعزل لمدة أسبوعين، وسيُؤخذ الطفل الرضيع منها، ولن ترى أحدا إلا حين إدخال الطعام إليها، فتسألها “ليزا” بقلق: ألن يُسمح لي بأن أُرضع ابني؟

ترد “إيرينا” بحزم: قلت لك ستكونين في عزل لمدة أسبوعين، ألا تفهمين؟ بعد ذلك يمكنك إرضاعه والعودة للحياة مع زميلاتك، لكن انتبهي؛ في عامه الثالث سيُؤخذ منك ابنك إلى دار أيتام، أمامك فرصة منذ الآن أن تعملي بجد، أن تحاولي إصلاح نفسك، ولا ترتكبي أخطاء حتى تنالي فرصة العفو المشروط، فيمكنك الخروج بصحبة ابنك. انتبهي، ستمر الأيام سريعا، إن لم تعملي على ذلك منذ الآن سيخرج ابنك ليعيش في دار أيتام للأبد، أو ربما يمكنه أن يعيش مع أهلك، هل لديك أهل؟

السجينة ليزا “ليزا” قتلت زوجها بسبب الغيرة، وكانت حاملا تضع مولودها أثناء الحبس

بعد صمت وتردد تجيبها “ليزا”: نعم.. أمي، وأختي. وبتأكيد على حروف الكلمات تقول “إيرينا”: إذن لا بد من التواصل معهم منذ الآن، لتضمني أن إحداهن ستقبل بأن يعيش ابنك معها.

بعد الولادة تنضم “ليزا” إلى صفوف الأمهات المسجونات اللائي يقضين ساعات قليلة من اليوم مع فلذات أكبادهن، نعيش معهن لحظة انتظار الأطفال الرضع بلهفة، لحظة الدخول الجماعي المصحوب بصراخ الأطفال، ثم اختطاف كل أم لرضيعها من فوق المنضدة. نعيش معهن لحظات التواصل مع ذويهم عبر الهواتف في غرفة جماعية واسعة تجلس فيها المأمورة تراقب ما يحدث وما يُقال، مثلما نراها تتنصت على المكالمات بين السجينات والزوار، تقرأ الخطابات المرسلة منهم وإليهم.

“أشعر أنك أصبحت مثل الرجل”.. رقيبة السجن

من خلال أحاديث “إيرينا” مع “ليزا” يبدأ الخط الثاني بالفيلم يتضح، وهو يخص مديرة السجن وعلاقتها بالسجينات من جهة، وعلاقتها بأمها وحياتها الشخصية الباردة الخالية من الحب ومن الأولاد إذ لم تتزوج، بينما تواصل الأم الإلحاح عليها بضرورة الارتباط. من هنا أيضا يأتي عنوان الفيلم بلغته الأصلية “الرقيب”، لقد امتصت حياة السجن شخصية “إيرينا” بالكامل، حتى إنها في لحظات الراحة في بيتها، وأثناء التهام قطع الطعام تُواصل قراءة الخطابات.

لقد تحوّلت مأمورة السجن والرقيب “إيرينا” إلى سجين آخر، لذلك ندرك مغزى الزيارة المفاجئة التي قامت بها والدتها، زيارة محملة بالخيرات والمأكولات الشهية التي تُحبها ابنتها، لكنها تكشف عن الجانب الخفي في شخصية الابنة المأمورة، وسنكتشف من بعض اللقطات أن الأم بدورها تمارس دور الرقيب على ابنتها قبل أن تقول لها: أنا قلقة عليك، يجب أن تفكري في وتُريحي بالي، كل زميلاتك قد تزوجن وأنجبن وكونَّ عائلات إلا أنت، فأنت الوحيدة التي لم تكوّن عائلة، أنت اخترت البقاء هنا، أشعر أنك أصبحت مثل الرجل، أشعر بهذا وبالخوف وأنا أتعامل معك.

مخرج الفيلم “بيتر كيريكس” مع “إيرينا” مأمورة السجن بفيلم “الرقيب”

ظاهريا لا تستجيب “إيرينا” لمطالب والدتها، إذ تُعاملها بحزم يتفق مع شخصيتها كمأمورة، وتواصل مهام عملها، لكن قراءة النص التحتي لتصرفاتها تكشف بوضوح عن اشتياقها لتكوين أسرة، مثلما تُؤكد افتقادها للحب وللأطفال، نظراتها للأطفال تُؤكد ذلك، خصوصا في تعاملها مع ابن “ليزا” والقرب الدائم منه، حتى أنها تتركه أحيانا معها بالمكتب تدربه على بعض الأشياء الصغيرة.

“لا أستطيع النوم وأنا أفكر فيك بين هذه الجدران الباردة”

يتمثل الخط الثالث بالفيلم في إحضار العالم الخارجي إلى داخل جدران السجن، وذلك عبر خطابات الأزواج، إذ ترسم الكلمات تجسيدا قويا لحالة الخارج، أو من خلال الزيارات، أو من خلال الحفلات التي تحضرها المأمورة والعاملات معها في السجن.

فمثلا نسمع صوت أحد الأزواج يقول في خطابه: أشعر بأن الشتاء لن ينتهي أبدا، لكن حينما أتذكر أنك هناك، وأتذكر أين أنت وأين أنا أكف عن هذا التفكير.. الآن، أرى قطع الثلج تتساقط من خلف زجاج نافذتي، لا أستطيع النوم وأنا أفكر فيك بين هذه الجدران الباردة، بينما أنا أنعم بالدفء.

ليزا لحظة احتضان طفلها الذي بلغ الثالثة من عمره، وسيخرج من عندها إلى جدته أو إلى دار الأيتام

هذا الشعور بالذنب، بالخطاب السابق، قد يُعبر أيضا عن شعور “إيرينا” مأمورة السجن التي نراها -أثناء الاستماع لكلمات الخطاب- تنظر من الشباك والثلج المتساقط، وكأنها تفكر في سجيناتها، أو كأنها تفكر في حياتها الجافة. مرات أخرى نراها تقرأ الخطابات أثناء التهام الطعام كأنها تحاول أن تنسى، أو أن تسرق نفسها من وحدتها، تحاول الترويح عن نفسها بقراءة تلك الخطابات والأكل.

“هل سنرسل قطعة من الورق إلى القبر؟”.. رسالة الخلاص

لاحقا يؤكد الفيلم أن تصرف “إيرينا” لا يقتصر على تمضية الوقت أو الحفاظ على وظيفتها، أو رغبة في ممارسة دور الرقيب فقط، فقد تجاوبت إنسانيا مع السجينات، فبدأت تُحاول مساعدتهن بصدق، كأنها تُعيد تأهيلهن للحياة، إذ تقدم لهن دروسا يتعلمن فيها أشياء قد تفيدهن في إصلاح مسيرتهن، منها مثلا درس عن رحلة الخلاص النفسي، بكتابة كل امرأة منهم لخطاب سيكون موجها للضحية.

هنا، تتساءل إحداهن بسخرية: للضحية؟ للقتيل أو القتيلة؟ كيف؟ هل سنرسل قطعة من الورق إلى القبر؟

فتقول “إيرينا” بيقين: الأرواح لا تموت، ستشعر الأرواح بكن، وربما تصفح عنكن، ربما أيضا تكتبن الخطاب لأحد من أهل الضحية، تطلبن المغفرة، تعترفن بالخطأ وبأنكن تتحملن العواقب.

“أريده أن يعيش معي لكنني لا أقدر”

تختلف شخصيات السجينات، فبعضهن لم يستسلمن للسجن، بل يحاولن أن يستفدن من العفو المشروط وينجحن، لكن “ليزا” لا تفعل، فلا نشعر أنها تكافح من أجل التكيف مع حياتها الجديدة في السجن، إنها مستسلمة تماما، شاردة أغلب الوقت كأنها في عالم آخر.

اللقطات البصرية لهذه المرأة الشابة -المحكوم عليها بسبع سنوات لقتل زوجها بسبب الغيرة- تقول إنها كالضائعة، فهي تائهة، وكأنها تستعيد الحدث في خيالها، نراها في مرات نادرة تجلس بصحبة إحدى زميلاتها تهمس بخواطرها عن الندم، وماذا ستفعل إن عاد بها الزمن، إحداهن تعترف بعدم الندم، لكنها في ذات الوقت تقول إن هذا الاعتراف ليس للمحكمة، وإنما هو أمر يخصها.

يتوقف تصوير الفيلم ثم يعود المخرج بعد ثلاث سنوات، لنرى التطور على الشخصيات، على الأخص “ليزا” وابنها في مواجهة نصائح “إيرينا” مأمورة السجن، فقبيل موعد عيد الميلاد الثالث لابنها تتقدم “ليزا” بالتماس بالعفو المشروط، لكن طلبها يُرفض، وبعدها تحاول إقناع الأم والأخت كلا على حدة بأن يعيش ابنها معهم، فترفض الاثنتان بحجة أنه ليس لديهم مكان للطفل، ولا مقدرة مالية لإعالته.

ليزا تحتفل بعيد الميلاد الثالث لابنها قبل أن تقدم طلبا بالعفو المشروط عنها من قبل مندوبة السجن

تسأل “ليزا” والدتها: هل ترفضين اصطحابه معك أم أنك لا تقدرين؟

فتجيبها الأم: أريده أن يعيش معي لكنني لا أقدر.

“أنا واثقة من أنه سوف ينساك للأبد”.. انتقام الجدة

تقوم “إيرينا بنصح “ليزا” بتوجيه خطاب إلى والدة زوجها تطلب منها العفو والمغفرة لأنها قتلت ابنها، ترجوها أن تصفح عنها، وتأخذ الطفل عندها مدة السنوات الأربع الأخرى الباقية في مدة العقوبة، تقول في كلماتها: أكتب إليك، ولم أجرؤ أن أفعلها بنفسي، بل طلبوا مني ذلك، أنا هنا لست بخير ولا سيئة، الأيام تمر بطيئة رتيبة بإيقاع مر، فجأة نكتشف أن الأسابيع قد مرت، بدون أن ندرك كيف مرت.

المفاجأة أن حماتها تُرحب باقتراحها قائلة: لن نأخذ أيا من أشيائه القديمة، لقد رتبنا له كل شيء، سنشتري له أشياء جديدة، وفرنا له مكانا للإقامة، لكن هناك شرط واحد وحيد: عليك أن تنسيه تماما، فإذا أخذناه ليعيش معنا فإنك لن تريه أبدا.

تسألها “ليزا”: كيف ذلك؟ إنه ابني، وسوف يسأل عني، فماذا ستقولين له؟

فترد عليها: سيصبح ابني أنا، واطمئني، أنا واثقة من أنه سوف ينساك للأبد.

مأمورة السجن إيرينا تداعب ابن السجينة ليزا، كأنها بوجوده في حياتها قد استعادت الجانب العاطفي المفقود في قلبها

ترفض المرأة الشابة المساومة في حزم، وترخي سماعة الهاتف بينما لا تزال حماتها تجلس أمامها خلف اللوح الزجاجي بغرفة الزيارات، ثم تنتقل الكاميرا إلى “إيرينا” التي تتابع نص الحوار بين المرأتين بحزن.

تستسلم “ليزا” لفكرة إيداع ابنها في دار للأيتام، لكنه لن يكون وحيدا محروما من الرعاية الأسرية، لأن مأمورة السجن “إيرينا” المرأة الأربعينية التي لم تتزوج، سنراها وهي تصطحبه في بعض الأيام في نزهة، يبدو خلالها الطفل سعيدا، وكأنها خلقت معه علاقة أمومة وارتباط قوي، وكأنها بوجوده في حياتها قد استعادت الجانب العاطفي المفقود في قلبها.