السينما المصرية.. مسلسل الاحتكار والكساد والتعفن

الفنان المصري هشام عبد الحميد

لعل أشد التحديات التي تواجه السينما المصرية وما تزال تواجهها هي الاحتكار في أشرس حالاته، فقد كان الاحتكار في الماضي له حدود وضوابط نسبية، لكنها تفاقمت وتفاحشت مع مرور الزمن وزيادة الضغوط والمنغصات والمحبطات، وفقدان البوصلة الصحيحة للفن بشكل عام والسينما بشكل خاص، وتدهور المضمون على حساب الشكل السطحي، وظهور مجموعة أفلام مُسفة أُطلق عليها مجازا “أفلام كوميديا”، واختفاء سينما الأدب التي كانت تُقدم تحفا سينمائية رصينة كفيلم “دعاء الكروان” لفاتن حمامة عن قصة الأديب الكبير طه حسين، وفيلم “قنديل أم هاشم” عن قصة يحيى حقي (مع حفظ الألقاب)، وفيلم “البوسطجي” عن قصة يحيى حقي أيضا وإخراج حسين كمال، وفيلم “الأرض” قصة عبد الرحمن الشرقاوي وإخراج يوسف شاهين، وفيلم “فجر الإسلام” عن قصة عبد الحميد جودة السحار وإخراج صلاح أبو سيف. هذا فضلا عن تجارب فنية سينمائية طموحة كفيلم “المستحيل” إخراج حسين كمال، وفيلم “زوجتي والكلب” إخراج سعيد مرزوق.

انقرضت كل هذه الأعمال التي شكلت سينما مصرية حقيقية في محتواها، رصينة في شكلها، وحُرم الجمهور المصري من سينماه التي كانت تُعبر عن أحلامه وطموحاته وفكره، لكي تبدأ حركة الإنتاج السينمائي المصري بالتخبط في السبعينيات والثمانينيات.

 

الثمانينيات.. تدهور المضمون

أُرجح أن سببا مهما برز في فترة الثمانينيات أدى إلى تدهور المضمون لحساب الشكل، حيث ظهرت في البدء شركتان استحوذتا على السوق السينمائي، وهما شركة واصف فايز الذي قدّم أفلام عادل إمام بالدرجة الأولى، وشركة إبراهيم شوقي، ثم تدرج الأمر وانضم إليهم السبكي الذي كان يعمل بالجزارة، لينضم إلى المشهد السينمائي بقوة.

لكن يجب ألا نُغفل أنه كانت في تلك الفترات مساحة لظهور شركات صغيرة تضع نصب عينيها القيمة الفنية بالدرجة الأولى، والقيمة التجارية بالدرجة الثانية، وذلك كشركة “الأصدقاء” التي تكونت من محمد خان وبشير الديك وعاطف الطيب، وأثمر هذا التعاون عن فيلم “سواق الأوتوبيس”.

كما ظهرت أيضا “شركة إستديو 13” لصاحبها ومكونها المخرج رأفت الميهي، وشركة أخرى لأصحابها نور الشريف وبوسي باسم “إن بي”، وبالطبع لا نستطيع أن نُغفل شركة المنتج “حسين القلا” وغيرها.

رئيس الوزراء المصري “كمال الجنزوري” في فترة التسعينيات

 

التسعينيات.. سينما للكبار فقط

في أواخر التسعينيات أصدر رئيس الوزراء آنذاك “كمال الجنزوري” حزمة قرارات لتُمكن الكيانات الاقتصادية الكبيرة -ومن ضمنها السينما بالطبع- من السيطرة على السوق، وكانت القرارات تتمثل في إعطاء تسهيلات كبيرة وكثيرة للشركات، بشرط أن يربو رأس مال تلك الشركات على 200 ألف دولار. ومن تلك التسهيلات الإعفاء الجمركي، وهذا ما أدى إلى إصابة الشركات الصغيرة في مقتل.

بدأت ملامح مرحلة جديدة تتشكل، فتمخضت عن سبع شركات إنتاج وتوزيع، ومنها على سبيل المثال شركة “الإخوة المتحدون” و”العربية للإنتاج الفني” و”أوسكار” و”الماسة” و”أفلام النصر” و”جهاز السينما”. ومما زاد الطين بِلّة أن هذه الشركات الكبيرة كونت مع بعضها البعض اتحادات لكيان أكبر، كالمجموعة الفنية المتحدة التي تُمثل شركات “أوسكار” و”الماسة” و”أفلام النصر”.

وقد احتكرت هذه الكيانات معظم دور العرض، وأصبحت تُقيد عمليات توزيع الأفلام وحرمان الشركات الأخرى من حق التوزيع والعرض.

بوستر فيلم “عصافير الجنة”

 

“عمرو عثمان”.. صراعات داخل مملكة السينما

دخلت هذه الكيانات بالطبع في صراعات مع بعضها على حساب الكثير من المصلحة العامة، فعلى سبيل المثال اضطر عمرو عثمان رئيس إدارة الشركة المصرية للاستثمارات الإعلامية إلى التنازل عن 19 داراً للعرض كان يمتلكها لصالح تلك المجموعات. وذلك بعد أن تكبّد خسائر فادحة نتيجة تعنّت هذه الكيانات معه من ناحية، ومع بعضها الآخر من ناحية أخرى، فقد رفضت هذه الكيانات كلها عرض الأفلام “عسل أسود” و”8 جيجا” و”الطيور”، وذلك كعقاب لعمرو عثمان على تعامله مع الشركة العربية للسينما التي تديرها إسعاد يونس نيابة عن زوجها علاء الخواجة، وهي جزء من شركات كيان ضخم يسمى “هيرميس” للمعاملات المالية “لأصحابها أبناء كل من الصحفيين محمد حسنين هيكل وزياد أحمد بهاء الدين، بينما عُرضت الأفلام التي هي من إنتاج هذه الشركة، مثل “رسائل بحر” لداوود عبد السيد، وفيلم “عصافير الجنة” لمجدي محمد علي.

وهنا أتوقف من أجل التحليل لهذا الخلاف والاعتراض والعقاب الذي أتصور أنه ليس خلافا من أجل المال والهيمنة بالدرجة الأولى، لكنه خلاف وصراع على مفهوم الفن بشكل عام والسينما تحديدا، فالعقاب الذي وقع على عمرو عثمان كان لأنه قَدّم نوعية أعمال تنتمي للسينما الخالصة والجادّة.

يبدو أن عمرو عثمان فضّل قيمة الفن والفكر ووضعها أعلى من قيمة التسلية، هذا فضلا عن أن صانعي تلك الأفلام لهم أفكار وتوجهات مختلفة عن مجدي أحمد علي وداوود عبد السيد.

 

الإسفاف والسطحية.. تراجع السينما المصرية في المحافل الدولية

إن صانعي الأفلام التي كان يعرضها عمرو عثمان كانوا يبتعدون تماما عن استخدام الفن كأداة تسلية تصل في أغلب الأحيان إلى درجة الإسفاف والبلادة والسطحية، ولهذا عاملت تلك المجموعة عمرو عثمان بنوع من الحصار، لكونه ساهم بل أصرّ على إتاحة الفرصة لأن يُعرض الفن الحقيقي على شاشاته.

لقد أرادوا -وتم لهم ما أرادوا- تسطيح الفكر السينمائي، وجعل السينما المصرية ذات التاريخ العريض تتحول إلى مجموعة من إسكتشات مُقززة وغليظة الإحساس، بينما تُقلد مجموعة أخرى الأفلام الأمريكية لتنقل الفيلم شوطا بشوط دون وعي أو هدف أو موهبة، لدرجة أن السينما المصرية أصبحت نتيجة لهذا الاحتكار البغيض سينما بلا شخصية ولا ماهية ولا احترافية مهنية حقيقية، ولا تستطيع الوقوف أمام سينما العالم في المهرجانات الكبرى كمهرجان كان وبرلين وفينيسيا، والنتيجة تراجع مخجل ومتدهور، وغياب مؤسف عن ركاب السينما العالمية.

يكفي أن نُلقي نظرة على قوائم الأوسكار لهذا العام لندرك فداحة الجريمة التي ارتكبها هؤلاء بحق السينما المصرية، فمع الأسف خلت قوائم المهرجانات من أي فيلم مصري، بينما نجد على سبيل المثال أن السنغال يوجد لها فيلم ينافس على الأوسكار.

رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة

 

أبو هشيمة.. احتكار ما بعد الثورة

بعد ثورة يناير ساد المشهد السينمائي والإعلامي على حدّ سواء الكثير من التخبطات وضبابية الرؤية، وكثرت الأبعاد الارتجالية، حيث انفرط العقد بعد رحيل صفوت الشريف -مهندس الإعلام في الفترة المباركية- ونظيره فاروق حسني الذي كان مشرفا على هندسة الواقع الثقافي في مصر، وهما من حققا توازنا في الفترة المباركية، حتى ولو كان ظاهريا فقط.

لكن بعد الثورة ظهر رجل غامض لم يَسمع عنه أحد من قبل يُدعى أحمد أبو هشيمة، وهو رجل أعمال وله شركات للحديد. قبل الثورة تقرّب أبو هشيمة من الرئيس محمد مرسي في فترة حكمه، ورافقه في أكثر من رحلة خارج البلاد، لكن سرعان ما انقلب عليه عندما انتقلت الدفة إلى عبد الفتاح السيسي، ليبدأ بحملات إعلامية منظمة لدعم السيسي محليا وعالميا، فاستأجر صفحات في كبريات الجرائد الأمريكية والإنجليزية، وسيطر على 51% من شركة “برزنتيشن سبورت”، ثم استحوذ على موقع “دوت كوم” من شركة بلاك “آند وايت” لصاحبها ياسر سليم، كما استحوذ على نصف أسهم جريدة “اليوم السابع”، ومن بعدها اشترى جريدة “الأمة”.

واستحوذ أبو هشيمة في وقت قصير على مجموعة “أون تي في”، وأتبعها باستحواذه على مواقع انفراد عين المشاهير وموقع “إيجبت توداي”، ثم استحوذ على 50%من شركة مصر للسينما وسينرجى للإعلان وسينرجى للإنتاج، وشركة “هاشتاغ” المتخصصة في وسائل التواصل الاجتماعي.

قنوات DMC

 

الاستحواذ على الإعلام.. صراع استخباراتي

كان هذا الظاهر على السطح، لكن في العمق كان صراعا استخباراتيا بامتياز، وذلك بين المخابرات العامة والمخابرات الحربية، من أجل الاستحواذ على المشهد الإعلامي والسينمائي في مصر.

يبدو أن أحمد أبو هشيمة ليس إلا الرجل الذي تحركه المخابرات العامة، في مقابل سيطرة المخابرات الحربية على “دي إم سي” (DMC)، وبات واضحاً أن سبب الصراع هو السيطرة التامة على عقل المشاهد المصري في جميع حقول التعبير المرئي والسمعي.

لقد نجح النظام مرحليا في توظيف أبو هشيمة التوظيف الأمثل، لكن في عام 2018 فوجئ الجميع بالإطاحة بأبي هشيمة، وسيطرة شركة “إيغل كابيتال” للاستثمارات المالية، وهي شركة مساهمة مصرية، وأصبحت السيدة داليا خورشيد -زوجة طارق عامر رئيس البنك المركزي- هي المتحكمة في كل مفاصل المشهد الإعلامي والسينمائي.

المنتج “تامر مرسي” رئيس مجلس إدارة شركة إعلام المصريين

 

قبضة المخابرات.. آخر مسمار في نعش السينما

في تطور مفاجئ في السينما تولى المنتج “تامر مرسي” رئاسة مجلس إدارة شركة إعلام المصريين، وبالتالي بات المشهد الفني والإعلامي في قبضة واحدة، وهي قبضة المخابرات بشكل مباشر وصريح. ونتيجة لهذا التطور اهتز المشهد الإعلامي والسينمائي، وانصرف المشاهدون عن إعلام الصوت الواحد ليتابعوا منصات إعلامية أخرى على رأسها قناة الجزيرة.

واهتز أيضا المشهد الفني بشقّيه التليفزيوني والسينمائي، وذلك بعد أن غلب عليه الصوت الواحد والمباشرة والديماغوجية (خداع الجماهير للتحكم بعقولهم)، فانصرف الناس، وقلت كثافة المشاهدة، وسجلت الشركة خسائر مادية كبيرة، هذا فضلا عن عدم استثمار الطاقات الفنية كقوة ناعمة، وبقاء كثير من الفنانين والفنانات بدون عمل، مما أدى إلى مزيد من التخبط.

هذه هي الصورة في ظل احتكار لا يرحم، ولا شك أن القادم من الأيام يحمل في جعبته الكثير من المفاجآت.