“الضابط والجاسوس”.. حكاية ظلم عنصري من تاريخ الجيش الفرنسي المظلم

بعد انتهاء الحرب الفرنسية الألمانية في سبعينيات القرن التاسع عشر كانت الأجواء في فرنسا مُلبدة بغيوم الشك والتوتر، ولم تزل هذه الأجواء موجودة بشكل مستتر، لتعود من جديد في عام 1894 حينما اتهم زورا ضابط المدفعية الفرنسي “ألفريد دريفوس” بالخيانة العظمى لصالح ألمانيا.

يلتقط المخرج “رومان بولانسكي” من هذه النقطة التي تُشكل جزءا حساسا في التاريخ الفرنسي هذه القصة المثيرة من أرشيف التاريخ، ليصوغها في قالب سينمائي في فيلمه الأحدث “الضابط والجاسوس” (An Officer and a Spy) الذي أنتج عام 2019، وقد عرض الفيلم في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، وقد حصد جائزة لجنة التحكيم الكبرى “الأسد الفضي” عن رواية بنفس الاسم للكاتب “روبرت هاريس” الذي قام أيضا بمشاركة بولانسكي في السيناريو.

يبدو الفيلم مهموما بتقديم عدة أفكار لا يقل بعضها أهمية عن البعض الآخر، بعضها يتعلق بالإنسان ودوره في المجتمع مثل كيف يُمكن للإنسان أن يناضل من أجل إظهار الحقيقة، والأهم هو ثبات الإنسان على موقفه مهما تعرض للضغوط أو الإغراءات، والبعض الآخر يتسم بالشمولية وتقديم نظرة بانورامية للمجتمع والدولة الفرنسية لا تخلو من انتقاد لاذع للسياسة التي تكيل بمكيالين، وتأتي على حساب الفرد في مقابل تعظيم دور مؤسسات الدولة.

تدور أحداث الفيلم حول تلك الحادثة التاريخية التي جرت وقائعها في نهايات القرن الثامن عشر، حيث يُتهم ظلما الضابط “ألفريد دريفوس” (الممثل لويس غاريل) بخيانة الجيش الفرنسي وإفشائه بعض الأسرار العسكرية لصالح ألمانيا تلك الدولة المؤسسة حديثا، والتي تُشكل قوة كبرى تهدد الكيان الفرنسي.

يستعرض الفيلم في إطار يغلب عليه التشويق والإثارة تلك القضية بملابستها وتطوراتها التي تُقدم رؤية ثاقبة للسياسة الفرنسية.

بداية النهاية.. شذرات سردية

يبدأ الفيلم بلقطة بعيدة نرى فيها فناء واسعا يقف فيه جنود من الجيش الفرنسي مدججين بأسلحتهم، ثم تتغير زاوية الكاميرا للقطة مقربة نرى فيها وجه “دريفوس” وهو يسير شامخ الرأس نحو الضابط الذي يجرده من رتبته ويكسر سيفه، ويُعلن إنهاء خدمته العسكرية، لنجد أن الفيلم يدخلنا رأسا ودون تمهيد لصلب الأحداث وحجر أساس السرد، ليتخذ السيناريو من هذا المشهد منطلقا لأحداثه.

فقد نسج السيناريو السرد في خطين دراميين متصلين كل منهما يكمل الآخر، ومن ثم تكتمل الصورة النهائية للقصة بكافة زواياها، فالبداية مع الخط الأول الحاضر، ويقع عليه العبء الأكبر من السرد، ففيه يكشف جانبا كبيرا من الأحداث، إذ نرى فيه الحادثة من نهايتها المأساوية استبعاد “دريفوس” من الجيش، ثم يتتبع السيناريو بشكل خطي تصاعدي تبعات تلك الحادثة، سواء على “دريفوس” أو المحيطيين به، وأولهم الكولونيل “جورج بيكورات” (الممثل جان دوجردان)، المُنتقل حديثا لإدارة المخابرات الحربية الفرنسية كمكافأة له على تقديمه معلومات عن “دريفوس”.

هنا يأخذ السرد زاوية “بيكورات” الذي يحتل الجانب الأكبر من الفيلم، ليبدأ الفيلم تمهيده للأحداث والشخصيات، بعدما بدأ بداية متقنة الإثارة، فالأحداث تُروى من الخلف للأمام بشكل عكسي، فتبعات وآثار الحادثة تظهر أولا، ثم تبدأ الحادثة نفسها تتكشف شيئا فشيئا، من خلال ربط أحداث الحاضر المتتوالية بشكل متسارع مع أحداث الماضي التي تُظهر الجانب الآخر من الحقيقة.

مراسم تجريد الضابط “ألفريد دريفوس” من رتبته العسكرية في الجيش الفرنسي بعد اتهامه بالخيانة

يعود الشق الآخر من السرد الماضي بنا للوراء كاشفا الوجه الآخر من الأحداث، فالماضي يتوالد من رحم الحاضر، وبشكل يجعل خطي السرد متصلين ببعضهما، ففي أحد المشاهد نرى “بيكورات” بعد استلامه العمل في إدارته الجديدة يتفحص اللوحات المزينة حائط مكتبه، ثم تقع عيناه على الرسالة المرسلة من أحد الجواسيس الفرنسيين، إلى الملحق العسكري الألماني، وهي الرسالة التي نُسبت ظلما إلى “دريفوس”.

رسالة الخيانة.. تفاصيل الإيقاع بـ”دريفوس”

يعود السرد للوراء كاشفا تفاصيل الإيقاع بـ”دريفوس”، فحينما تقع الرسالة السرية في أيدي المخابرات الفرنسية بدون توقيع، يحاول الضباط الوصول لصاحب الرسالة، متتبعين صاحب الخط المكتوب في الرسالة، لتبدأ اللجنة بحثها، وتقع أعينهم على ملف الضابط  “ألفريد دريفوس”، وتبدأ الشكوك تتناثر حوله، لكونه هو اليهودي الوحيد في هيئة الأركان.

وبذلك يكشف الفيلم عن جانب آخر من مضمونه وهو العنصرية داخل المجتمع الفرنسي، تلك العنصرية والإحساس بالاغتراب التي عبر عنها مخرج الفيلم “رومان بولانسكي” من قبل في فيلمه “المستأجر” (1976)، والتي يبدو أنه لقي معاناة منها بحكم أصوله البولندية، فالفيلم يحوي العديد من الإشارات عن رفض السلطة والشعب للأجانب، مثل المشهد الذي يجمع بين “بيكورات” والضابط السابق “ساندهير” حينما يسلمه قائمة بأسماء الأجانب جاهزة للاعتقال الفوري في حالة نشوب حرب، قائلا له بتهكم “عندما أرى الكثير من الأجانب من حولي ألاحظ انحطاط قيمنا الفنية والأخلاقية”، وكأن وجود الأجانب داخل نسيج المجتمع الفرنسي سيقوض الحياة الفرنسية ومن ثم يقضي على الحضارة الحديثة.

أحد المتظاهرين الفرنسيين الغاضبين من مقال الكاتب أميل زولا الذي يكشف فيه تفاصيل براءة “دريفوس”

وهكذا يظل السرد متأرجحا بين الحاضر والماضي، شذرة من هنا مع مثيلتها من هناك، حتى تكتمل قطع الأحجية مع نهاية الفيلم بشكل يجعل الإيقاع لاهثا وسريعا، وكلما ازدادت جرعة المعلومات التي يُزاح عنها الستار كلما ازدادت الأحداث سخونة.

كشف المستور.. خواء شعار الثورة الفرنسية

جعل السيناريو الصراع الدرامي على محورين، المحور الأول داخلي نفسي يتعلق بالإنسان ذاته، وكيف يمكنه أن يسعى لإثبات الحقيقة مهما كانت تكلفتها، فـ”بيكورات” الذي تقع في يديه بحكم منصبه الجديد أدلة اتهام “دريفوس” يكتشف ضعف هذه الأدلة، ومن ثم عوار الإجراءات، ليتتبع مسار القضية من بدايتها، وتبدأ الشكوك تساوره حيال اضطلاع “دريفوس” بالخيانة.

يطلب “بيكورات” من قادته إعادة المحاكمة في ضوء المزيد من الأدلة التي توافرت حديثا لديه، وتشير إلى اتهام ضابط آخر، وبراءة “دريفوس” من التهم المنسوبة إليه، ومن هنا ينشأ المحور الآخر من الصراع، وهو الصراع الخارجي، المتمثل في مجابهة “بيكورات” لقادته الذين يمثلون السلطة، بما يشير لصراع الفرد مع السلطة، ومواجهة كل منهما للآخر.نجح السيناريو في إبراز أوجه الاختلاف بين الطرفين، “بيكورات” يرى أن مهمة السلطة كشف الحقيقة، بينما ترى السلطة أن مهمتها تنحصر في الحفاظ على سمعتها حتى لا تتخلخل ثقة الشعب فيها، ففي أحد المشاهد نرى “بيكورت” داخل قاعة المحكمة أثناء محاكمته وهو يصيح قائلا “الشرف لا يدافع عن نفسه بالطاعة العمياء، مازلت أعتقد أن واجبي هو البحث عن الحقيقة، فالجيش يجب أن يخدم بهذه الطريقة”.

“بيكورات” يُطالب بإعادة محاكمة “دريفوس” في ضوء الأدلة التي توفرت إليه وتُشير إلى اتهام ضابط آخر

ومع اكتمال محوري الصراع يتضح جانب ما في مضمون الفيلم، وإن بدا مستترا بعض الشيء، وهو خواء شعارات الثورة الفرنسية (الإخاء والمساواة والعدل)، تلك الشعارات التي قام الاستعمار الفرنسي بتصديرها، ففي الداخل أيضا كان المجتمع الفرنسي يُعاني من العنصرية والتعصب، ففي أحد المشاهد نرى جموع المتظاهرين الغاضبين، وهم يقذفون منزل الكاتب “إميل زولا” بعد كتابته لمقال يكشف فيه تفاصيل القضية وبراءة “دريفوس”، ليوضح السيناريو حقيقة أنه لا فرق بين الاستعمار وغيره، بل على العكس، فالشعوب المُحتلة أفضل منهم، ولديهم قدر من التسامح قد لا يتوفر لدى المستعمر الفرنسي نفسه.

“بيكورات و”دريفوس”.. وجهان لعملة واحدة

رسم السيناريو شخصية “بيكورات” مُعتدة بذاتها وطموحة لأقصى حد، فأظهره دؤوبا في العمل لا يهمه سوى الاجتهاد فيه على الوجه الأكمل، فشخصية بهذه المواصفات يصعب ترويضها وجعلها طيع رؤسائه، وبذلك ينشأ الصراع الرئيسي في الفيلم، حينما يرفض “بيكورات” تنفيذ أوامر قادته بإخفاء أمر القضية، لكنه يحوي بداخله تناقضا خفيا لا يُفصح عنه السيناريو سوى بشكل خافت من خلال علاقته بالسيدة “مونييه” زوجة صديقه السيد “مونييه” الذي يعمل في وزارة الخارجية.

تسأله السيدة في أحد المشاهد عن علاقتهما قائلة له “هل تشعر بالذنب؟” ليخبرها بتلقائية “لماذا أشعر بالذنب، فقد كنت أعرفك قبل أن تتزوجيه”، لتبدو صفات الشرف والفروسية التي يتحلى بها وكأنها مجرد قناع يرتديه في عمله فقط، أما في ما يتعلق بحياته الخاصة فلا يجد أي حرج في خيانة صديقه، وبالتالي جعل السيناريو من الشخصية مكتملة وليست أحادية الجانب، بل بداخلها خير وشر، وتملك انحناءاتها النفسية والسلوكية أيضا في تعبير عن الطبيعة الإنسانية.

وعلى الجانب الآخر شخصية “دريفوس” التي تبدأ أحداث الفيلم بها، رغم أن مساحة الدور والشخصية قد تبدو هينة بالمقارنة مع “بيكورات” إلا أنه محرك للأحداث، وقد جعل السيناريو الشخصية متشابهة إلى حد ما مع شخصية “بيكورات” من حيث اجتهادها وتفانيها في العمل ومثابرتها في إثبات براءتها، وقد جعل السيناريو الشخصيتين مرتبطتين ببعضهما البعض، وكل منهما في حاجة للآخر، “دريفوس” في حاجة لمثابرة “بيكورات” لإثبات براءته، و”بيكورات” بشكل غير مباشر تتغير حياته بعد نضاله في هذه القضية، إذ يعود بعد تغيير الحكومة في منصب جديد تماما، ألا وهو وزير الحربية.

إضاءة بُنية خافتة.. تجسيد لصورة قاتمة

أجاد مدير التصوير البولندي “باول إيدلمان” الذي عمل مع “بولانسكي” في عدة أفلام التعبير بالصورة عن حالة “بيكورات” وطبيعة عمله بشكل بليغ، فحينما يتسلم “بيكورات” العمل في إدارة الإحصاءات في المخابرات الحربية تتحول الإضاءة والصورة تلقائيا نحو اللون البني القاتم المائل إلى السواد، لنجد أن الصورة معبرة بدقة عن مدى الظلم الذي يحويه هذا المكان، وخاصة مكتب “بيكورات” المعتم الإضاءة، ففي أحد المشاهد نراه وهو يحاول فتح النافذة المغلقة، ولكنها تأبى الانصياع لحركات يده، فيرضى بها وهي مغلقة، وكأن النافذة تحكم حصارها هي الأخرى عليه على عكس منزله الذي تميل إضاءته نحو الألوان الفاتحة، ليبدو التضاد واضحا بينهما.

المخرج رومان بولانسكي رفقة مجموعة من الممثلين خلال فوز فيلمه بجائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي

تعود تلك الإضاءة القاتمة في السجن، حينما يقبع “بيكورات” في زنزانته الضيقة، لتصبح الصورة هنا أيضا معبرة عن حالة الحصار التي يعاني منها، وكذلك جاءت زوايا الكاميرا هي الأخرى معبرة عن هذه الحالة، عبر استخدام العدسات المقربة، فتقترب من الوجه وتلتقط أدق تعبيراته.

ملاعبة خيوط السرد.. براعة الإخراج

اجتهد المخرج “رومان بولانسكي” في الإمساك بكافة خيوط السرد من خلال سيناريو متماسك، وقطعات مونتاجية سلسة دون أن يشعر المتفرج بالتشوش أو الارتباك، مُتتبعا القضية من بدايتها عبر خطين سرديين دون أن ينفرط عقد السرد، رغم أن السيناريو يميل ناحية “بيكورات” الذي تحتل مشاهده النسبة الأكبر من الفيلم، إلا أنه لم يغفل “دريفوس”.

المخرج رومان بولانسكي يوجه الكولونيل “جورج بيكورات” الذي يقوم بدوره الممثل جان دوجردان في إحدى المشاهد

فالأهم هو رصد الحقيقة من رؤية مغايرة، وهي عين “بيكورات” أحد المنتمين للسلطة، وبالتالي يعبر عن سمات المجتمع الفرنسي وقتها، ومن أهمها أنه يعاني من العنصرية، وقد عبر عن سمات البيئة والواقع حينها بشكل مقنع للغاية، مثل المشاهد الخارجية كالمظاهرات والتجمعات المناهضة لـ”دريفوس”، أو المشاهد الداخلية التي تصور وقائع الحياة اليومية في تلك الفترة.

براءة “دريفوس”.. براعة الغطس في التاريخ

برز من ناحية الأداء التمثيلي بصفة خاصة أداء الممثل “لويس جاريل” في دور “دريفوس”، رغم مساحة دوره القصيرة نوعا ما، حيث بدا مُتحكما بانفعالاته ومعبرا عن إحساس المضطهد المظلوم، وقد نجح في الوصول بالشخصية للمتلقي، بل والتعاطف معها، فمشاهده أثناء تجريده من رتبته، أو أثناء المحاكمة معبرة عن الشخصية بكافة جوانبها ومشاعرها بشكل لافت يستحق الثناء.

الممثل “لويس جاريل” بدور  الضابط “دريفوس” في إحدى جلسات محاكمته التي انتهت بإعلان براءته

لم تنتهِ فصول القصة بل استمرت تبعاتها لسنوات، حتى اقتنص “دريفوس” براءته وردت إليه رتبته المستحقة، لكن ظلت القضية ساطعة في الأذهان، لتعبر بجلاء عن الظلم الاجتماعي والعنصرية الذين استشريا في جسد مجتمع ينادي بالحرية، لكنه يطمس بالداخل من ينادون بها، وكأن الفيلم التقط تلك الواقعة ليس بغرض المحاكاة التاريخية فحسب، لكن للوصول لما هو أعمق، ألا وهو التعبير عن الحاضر بمقاييس الماضي، وذلك بأسلوب فني جريء، ليجعل الفيلم فريدا من الناحية الفنية سواء على مستوى طرحه لمضمونه أو كيفية التعبير عنه دراميا وبصريا، ويبقى في النهاية الحكم للتاريخ، فهو المنصف دائما.