“الغياب”.. ظلال الماضي وأشباح المستقبل

محمد هاشم عبد السلام

ركز الفيلم على بنات توفيق اللواتي شاركن والدهن دفع ثمن خطأ ارتكبه في الماضي. الثمن مكلف جداً وتمثل في فقدان الأم

ما حدث لتوفيق السالمي في فترة قصيرة من شبابه أثر بشدة على أسرته الصغيرة، ولا يزال. بناته الثلاث عانين وهن صغيرات من افتقاده عندما كان في السجن، وما أن خرج من السجن حتى بدأت معاناة أكبر وأعمق تمثلت في افتقاد البنات لأمهن التي غادرت دون أمل في الرجوع. ما الذي حدث لتوفيق وأدى به لأن يدخل السجن؟ هل ظروف القبض عليه وترحيله كانا ظالمين له ولأسرته؟ من السبب وراء ما تعرضت له أسرة توفيق وبالأخص بناته اللاتي عانين وما زلن يعانين حتى الآن، أهو الأب بمفرده أم الأم، أم هما معاً، أم ملابسات وتداعيات ما حدث؟ يحاول الفيلم التسجيلي “الغياب” (2018) للمخرجة التونسية فاطمة الرياحي الإجابة على تلك الأسئلة.

 

عبء الماضي وتبعاته

قبل نهاية فيلم “الغياب” (وهو من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية)، يقول بطل الفيلم توفيق السالمي عامل المعمار البسيط مُقرا مُعترفا “نعم، في مرحلة من حياتي أقدمت على ما اعتقدت أنه الصواب، وقد دفعت الثمن، هل من الضروري أن أدفع الثمن إلى أن أموت؟ ضُربت وسجنت وعذبت، وأهينت كرامتي وتشتتت أسرتي. فهل من المعقول أن يستمر هذا إلى الأبد؟!”. ثم يأخذ في ضرب أمثلة بمن انضموا إلى حركة المقاومة في لبنان أو فلسطين أو غيرها.

خطأ توفيق أنه في مرحلة من شبابه، ولاعتبارات مختلفة ووعي مختلف، اعتقد أن جهاده في البوسنة والشيشان وقت الحرب هناك كان رسالة وضرورة ومقاومة. وهو فعل من وجهة نظره غير خاطئ، بل جهاد عن عقيدة صادقة، وحتى إن سلَّم هو بأن ما قام به لم يكن كذلك أو تعارض مع سياسات وقوانين بلده أو غيره من البلدان، فهل من المعقول أن يظل المرء يعاقب على خطأ أو جرم ارتكبه مدى الحياة؟ ألا يكفي ما كابده في السجن؟ ألا يكفي ما حدث لأسرته من تمزق وتشتت كثمن إضافي دفعه ولا يزال يدفعه؟

مشكلة توفيق أو معاناته ومعاناة أسرته لاحقا هي خير تمثيل على أي فرد انتمى في فترة ما لتنظيم أو حزب أو غيره، سواء بناء على أفكاره أو معتقده أو رؤيته.

حالة توفيق تنطبق على الكثير ممن يقبعون في سجوننا العربية أو ممن خرجوا منها. ومع ذلك، ندرك من خلال الفيلم أن توفيق كان محظوظا بعض الشيء مقارنة بغيره، فقد خرج مباشرة في النهاية بعد انقضاء مدة الحكم، كما أن فترة سجنه لم تكن طويلة على أية حال، ست سنوات فحسب. وكذلك انتهت حرب البوسنة، ومن ثم لم يعد وجوده يشكل تهديدا لأحد، هو نفسه لم يعد ينتمي لأي فصيل أو تيار أو حزب أو خلافه، همّه ينحصر في رعاية أسرته وحسب.

مشكلة توفيق أو معاناته ومعاناة أسرته لاحقا هي خير تمثيل على أي فرد انتمى في فترة ما لتنظيم أو حزب أو غيره

البحث عن توفيق

بكثير من الوعي، لم تركّز المُخرجة فاطمة الرياحي كثيرا على شخصية توفيق وقصته، صحيح أن قصة توفيق هي الخيط الرئيسي الذي بنت عليه فيلمها من البداية إلى النهاية، لكن الجزء الأكبر من الفيلم وأكثر اللحظات القاسية والإنسانية والعميقة فيه، تأتي من تركيزها على مصاب تلك الأسرة، وتبعات ما حدث لها، وكيف أن بنات توفيق بتن – دون أي ذنب- يشاركن والدهن دفع ثمن خطأ ارتكبه في الماضي. الثمن مكلف جداً وتمثل في فقدان الأم أو بالأحرى الحرمان من وجودها رغم أنها لا تزال على قيد الحياة.

يبدأ فيلم “الغياب” بإهداء من المخرجة إلى ذكرى والديها: مبروك الرياحي وسعيدة الزريبي. والإهداء ليس عابرًا، فعائلة المخرجة -وبالأخص والدتها- كانت السبب في استضافة عائلة توفيق في منزلها، وذلك بعدما علمت في عام 2006 بأمر تلك العائلة التي تبحث عن سكن في العاصمة.

استضافت والدة المخرجة زوجة توفيق التي تُدعى مارسيدا وبناتها الصغار يمينة وإيمان وخديجة، لكن الاستضافة مع مرور الوقت وطوله تحولت إلى إقامة حتى خرج توفيق من السجن بعد قضاء عقوبته، وبعد ذلك أخذ توفيق عائلته واختفى، ومن ثم انقطعت أخبارهم إلى أن بحثت المخرجة ونقبت عنهم وعثرت عليهم.

بعد عيد ميلاد يمينة الذي نراه في فيديو منزلي تم تصويره خلال سنوات سجن الأب ليشاهده لاحقا كنوع من التواصل مع بناته في تلك المرحلة، نستمع إلى سرد يمينة لجانب كبير من القصة، وكيفية تم القبض على والدها ووالدتها، ثم وضعهما على متن الطائرة التي أقلتهما من لكسمبورغ إلى تونس بناء على طلب الأمن التونسي، وذلك في واحدة من أغرب عمليات الترحيل القسري التي شهدتها لكسمبورغ والبلدان الأوروبية، وفي خرق واضح لكثير من القوانين والاتفاقيات الدولية.

تسافر المخرجة إلى ذات المكان الذي هربت منه تلك الأسرة قبل سنوات لتستكشف الأمر، لذلك مكثت المخرجة وطاقم التصوير والتسجيل في منزل توفيق، فقد عاشوا معه وأسرته بشكل يومي تقريبا للاقتراب تدريجيا من ذلك الرجل ومعرفة سره، وما تخفيه بناته من خجل وحزن وعذاب.

يعيش مع توفيق أيضا والداه المُسِنّان، فنحن نرى والده يتحدث أكثر من مرة ويروي تفاصيل ما حدث، بينما تظهر الأم التي توفيت لاحقا، على نحو عابر في مشهدين أو أكثر.

الملصق الدعئي لفيلم الغياب للمخرجة التونسية فاطمة الرياحي

حقيقة الحكاية

يقول والد توفيق “سافر ابني إلى إيطاليا عام 1991 للعمل وتوفير المال، ومن ثم العودة والزواج من خطيبته، لكنه لم يعد، بعد ذلك أخبرني أنه في طريقه إلى السفر من إيطاليا إلى البوسنة”.

حدثه توفيق هاتفيا عن الموت هناك ورغبته في “أن يكون شهيدا”، رد والده بضرورة عودته ليموت شهيدا ببلده، لكنه لم ينصت على حد قول الوالد.

وبعد أربع سنوات، يخبرنا والده، أنه تواصل معه فجأة من لكسمبورغ التي كان قد انتقل للعيش بها حديثا، كتب له توفيق في الرسالة أنه تزوج من فتاة بوسنية اسمها مارسيدا، وأنهما يعيشان الآن وأسرته في لكسمبورغ.

طلب توفيق من والده ألا يحتفظ بالرسالة، وأن يخفيها عن العيون ولا يخبر أي مخلوق بها. لم يفعل الوالد واستهان بكلام ابنه. قريب لهما كان في زيارة لهم، فأخذ العنوان كاملا مع كل التفاصيل اللازمة وأبلغ بها الأمن الوطني.

وبناء على ذلك توجهت الشرطة وألقت القبض عليه هو وأسرته ورحّلتهم، وقضى توفيق في السجن ست سنوات بناء على مجموعة من التُهم المركبة، مثل الانضمام إلى جماعة إرهابية تعمل في الخارج، والتحريض على الفتنة الطائفية، والتحريض على قتل رموز الدولة.. فعل الأمن في لوكسمبورغ ذلك بناء على تلك التهم، ومن قبلها التقارير التي كان يرسلها إليهم الأمن التونسي.

خلال فترة التحقيقات وقضاء العقوبة، كان الأمن يضغط على مارسيدا ويعذبها نفسياً، ثمة تلميح أو عدم تيقن من جانب توفيق بأنها قد اغتُصبت، فقد تحملت مارسيدا الكثير، ولكن لكل إنسان قدرة على التحمل. ويعتقد توفيق أنهم أفقدوها عقلها بعدما زرعوا الخوف بداخلها لسنوات طويلة.

لا أحد يعرف على وجه التحديد لماذا غادرت مارسيدا تونس، ولا كيف حدث هذا ولا من ساعدها، تلك النقاط غائبة عن الفيلم

الأم تهجر بناتها وتفر

في النهاية، ما أن خرج توفيق من محبسه حتى تركت مارسيدا الأسرة وفرت عائدة إلى بلادها، تركت مارسيدا المنزل منذ 14 سنة تقريبا وأكبر بناتها لا تزال في السابعة أو نحو ذلك. يمينة الآن في الـ18 وإيمان في الـ17 وخديجة في الـ16.

لا أحد يعرف على وجه التحديد لماذا غادرت مارسيدا تونس، ولا كيف حدث هذا ولا من ساعدها، تلك النقاط غائبة عن الفيلم، وكان من الأفضل للمخرجة تقصيها بدقة، حتى وإن تطلب الأمر السفر إلى البوسنة والبحث عنها والتحاور معها ما دامت على قيد الحياة، ومعروف أنها تعيش هناك بمفردها، ولم تتزوج كما يؤكد توفيق، على الأقل نحتاج أن نعرف سر هذا الانقطاع عن بناتها رغم أننا نعيش في عصر الاتصالات الفائقة.

بالطبع، تتعدد الأسباب التي نلاحظها أو التي يمكن لنا استنباطها من الفيلم، من ناحية توفيق فهو شخصية شديدة العنف والغيرة والعصبية، ربما الآن هدأ كثيرا مقارنة بما كان عليه سابقا، وبات الاعتدال يسود شخصيته، لكنه في النهاية خشن الطباع حتى مع بناته اللاتي بتن وحيدات الآن، وبحاجة لكل عاطفة وحب من جانبه، ربما هذا أيضا أحد أسباب ترك مرسيدا له، ربما بسبب الحياة في تونس مقارنة بالبوسنة أو لوكسمبورغ، ربما كان السبب السنوات التي كابدتها خلال سجنه، ربما ما تعرضت له على يد الأمن، ربما خوفها من المستقبل مع سجين وعاطل ومُهدد ومستقبل غامض ومظلم، ربما من ظلال ما حدث في الماضي وتبعاته على المستقبل.

كل ما سبق من أسباب أو غيرها، لا تنفي أبدا أننا أمام حالة شاذة وغير إنسانية، أي ترك الأم لبناتها، بصرف النظر عن الأسباب ووجاهتها. بكاء يمينة الوحيدة القوية التي تحكي بجرأة أكثر من مرة للكاميرا مقارنة بشقيقتيها المنطويتين الخجولتين يكاد يفطر القلب، افتقادها لحب وحنان الأم بالغ التأثير. كذلك الكراهية التي نبتت في القلب وأثمرت عزوفا عن الرغبة في رؤيتها حتى في الصور الفوتوغرافية القديمة لهم معا كأسرة، باتت مؤلمة للجميع، بما في ذلك توفيق نفسه، فبرغم قسوته نلمس مدى رقته كرجل وحبه لتلك المرأة التي يجهر بأنه لا يزال يحبها، لكنه لا يدري ما الذي سيفعله بها لو رآها أمامه. ومن ثم، فهو ينفي جازما مجرد التفكير في أن يردها إليه، وأن الموضوع ليس مطروحا للنقاش، وذلك عندما سألته المخرجة.

بصرف النظر عما سبق، ثمة أسرة تفككت وتضررت أبلغ الضرر على أكثر من مستوى، لا سيما النفسي. بنات لا يدري أحد كيف سيجتزن محنتهن القائمة، أو كيف سيتغلبن عليها مع أطفالهن في المستقبل، ففيلم “الغياب” بالغ التأثير حقا، ولو ألقينا اللوم على توفيق وما فعله في الماضي، فلا بد من ناحية أخرى أن نلقي اللوم أكثر على الأم التي تركت بناتها وفرت وانقطعت عنهم.

وبصرف النظر عن مدى جرم الأبوين أو إلقاء اللوم عليهما، ففي النهاية شاهدنا مدى تأثير ما جرى على المراهقات البريئات اللواتي ما زلن بصدد خطواتهن الأولى نحو مستقبل مؤلم، وبجرح لا يزال ينزف.

اعتقد توفيق أن جهاده في البوسنة والشيشان وقت الحرب هناك كان رسالة وضرورة ومقاومة

أبعاد دولية

بعد ترحليه من لكسمبورغ عام 2003، اعترضت منظمات حقوقية بأن هذا ضد اتفاقية جنيف وحقوق الإنسان التي تحظر إعادة مواطن إلى بلد يكون عرضة فيه لأي انتهاك. وقد تحركت عدة منظمات للوقوف معه ضد قرار ترحيله والتعذيب الذي تعرض له في تونس، مثل منظمة العفو الدولية وغيرها، لكن لم يستجب أحد.

وفي عام 2011 قدم نائب لكسمبورغي إحاطة ضد رئيس الحكومة ووزير الداخلية والعدل والخارجية والهجرة بسبب الترحيل القسري الذي تعرض له توفيق والأذى الذي لا يزال يعانيه، وطالب بإعادة فتح الملف الخاص به مجددا.

وفي عام 2017 حاول أحد المحامين هناك مقاضاة الدولة طواعية بالنيابة عن توفيق بتهمة خرق الدولة لقوانين معاهدة جنيف، لكن القوانين هناك لا تسمح بالاطلاع على الأوراق أو فتح أي ملفات بعد مرور عشر سنوات على البت في قضية من القضايا.