“المجتمعات الدينية”.. سحر الغوص في أديان شعوب الشرق الأقصى

 

 صفاء الليثي

كنت أردد عبارة “الديانات السماوية” توصيفا لليهودية والمسيحية والإسلام، دون أن أعرف المعنى الدقيق لذلك، حتى شاهدت المسلسل الوثائقي “المجتمعات الدينية”، بداية من حلقة البوذيين، حتى عرفت السبب عبر شرح المعلق في حديثه عن الديانة البوذية، إذ قال: “خلافا لغيرها من الأديان، لا تركز البوذية على العلاقة بين الإنسان وربه، بل على التطور الروحي للإنسان نفسه”.

وسمعت من الراهب مدير مركز الثقافة البوذية في تايلاند أن بوذا ليس الله ولا ابن الله ولا رسولا ولا نبيا، فهو نفسه قال أنا إنسان أقف على قدمي، محاولا أن أحقق هدفي الأخير، وهو الاستنارة.

 

وعبر 52 دقيقة، يمكن للمشاهد أن يتعرف على إحدى الديانات غير السماوية، من حيث فلسفتها وتاريخ نشأتها وتغلغلها في الحياة الاجتماعية المعاصرة لمن يعتقدون بها.

فلسفة البوذية.. تغلغل الدين في الفن والرياضة والعلاقات الإنسانية

وفرة المعلومات وتلاحقها تصلنا من خلال تعليق قادم من خارج الصورة محمل بوجهة نظر صناع الفيلم، ويستكمل بالمتحدثين كمديرة مسرح ألّفت عملا مسرحيا يعتمد على الفلسفة البوذية التي تشرح عنها وهي تواجه الكاميرا.

ثم يقطع المخرج على المشاهد لتطبيق فني لهذه الفلسفة، من خلال لاعبة رياضية تشرح كيف تستفيد من تمارين التركيز البوذية لتحقق تفوقها في اللعبة.

 

بداية المسلسل نموذج شديد النجاح لتناول الحياة الاجتماعية لمجموعة ترتبط بعقيدة ما، ففي حلقة البوذيين نشاهد كيف يتغلغل الدين في الفن والرياضة والعلاقات الإنسانية.

أديان الشرق الأقصى.. سلسلة تستقصي العوالم الروحية

رغم الجهد الذي يبذله المشاهد كي لا تفوته معلومة من هذه المعلومات الغزيرة، فإنه يتشوق ليكمل الحلقات فيتابع حلقة “اليهود الشرقيون” و”الموارنة” و”البروتستانت” و”الشيعة” و”الهندوس” و”الأرثوذكس” و”الزرادشتيون” و”الدروز” و”السيخ ” و”السريان” و”الأقباط”.

 

تضم السلسلة 12 حلقة تغطي المجتمعات الدينية في الشرق الأقصى والأوسط، مستفيضة في الشرح غالبا وشحيحة في تناول جوانب ما.

وحتى لا تحتار مثلي أيها القارئ فسوف أختار عرض ما يتعلق بالمجتمعات الدينية في الشرق الأقصى ودياناتهم الأرضية.

“كلها وسيلة للوصول إلى براهمان الإله الواحد”.. ديانة الألف إله

قبل أن أمضي في مشاهدة حلقة الهندوس، تذكرت زيارة عمل للهند في بداية عام 2005، وسألت مرافقا في الزيارة كان اسمه “آميت” عن ديانته، فأجاب بفخر شديد “هندو”، وهو يضم الواو في نهاية الكلمة.

تبدأ حلقة الهندوس بالتعليق بقول: نجد في الهندوسية ألف إله وإله، وكلها وسيلة للوصول إلى براهمان الإله الواحد. وهي ديانة تعكس ثقافة شعبها وتختزل تنوعه.

 

ولكي نستوعب الهندوسية، نتابع لقاءات مع عازفة تقول إنها تصلي للموسيقي (رقصة الإله شيفا الكونية)، ولقاء مع أستاذ لاهوت يشرح أن الهندوسية تؤمن بالإله الواحد، أما الآلهة الأخرى فهي تجلٍّ لهذا الإله. ثم نقابل مجموعة من الدراويش، يحدثنا أحدهم لنستكمل الصورة.

حج الهندوس.. رحلة العراة المتقشفين إلى الصفاء الداخلي

وتنتقل الكاميرا بنا لمدينة فارفاس أوبيناريس، حيث مكان الحج عند الهندوس، فنقابل السادو النساك المعروفين بالفلاسفة العراة الذين يعيشون في تقشف شديد، متحررين من كل الممتلكات والمسئوليات، فالرحلة إلى الصفاء الداخلي تجعل النور يشع في داخلهم.

 

52 دقيقة -هي زمن الحلقة- يصحبنا فيها فريق العمل لرحلة عبر الأماكن والبشر، نفهم ما هي الكارما ونعرف من هم الجورو (المعلمون)، وما هي كتب الفيدا التي تعطي فكرة عن المجتمع الهندي قبل أربعة آلاف عام.

طبقية أبناء الدين الواحد.. ميلاد السيخ

تعرج حلقة الهندوس أيضا على “المهاتما غاندي” من خلال لقاء مع حفيده الذي يقول: إن “غاندي” قديس سياسي جعلته التنشئة الروحية للهندوسية يبحث عن الله في كل إنسان.

ولا يفوت صانع الفيلم الإشارة إلى أحد الانتقادات التي توجه للهندوسية عن التمييز الطبقي وطبقة المنبوذين التي بسببها ظهر “السيخ”، حيث تختصر مبادئهم في خدمة الآخرين، وكيف أن معلمهم حارب عدم المساواة الناجمة عن النظام الطبقي الهندوسي وهو المعلم “باجات أوران سينغ” المنحدر من أسرة ثرية في البنجاب. كما نقابل رئيسة مؤسسة “بينجالورا” التي تحدثنا عن مجزرة للسيخ أرغمتهم أن يلجأوا إلى الهند عند تقسيم باكستان والهند.

 

وبنفس المنهج تصلنا الصورة كاملة عبر اللقاءات مع شخصيات عديدة. وبالتنقل بين أماكن دارت فيها الأحداث، وبالاستعانة بالمنمنمات والصور التراثية، نعرف عن معلمي الجورو العشرة، وعن كتابهم “جورو جرانت صاحب” الذي يعد الجورو الأخير، أي الجورو الحادي عشر لمجتمع السيخ.

ديانة التوحيد.. مزيج عبادات الإسلام وطقوس الهندوس

من شرح واف على خريطة تظهر إقليم البنجاب مهد الحضارة الهندية القديمة الذي تطورت فيه الهندوسية المتحجرة في كتب الفيدا. وينظر البعض لديانة السيخ على أنها مزيج من الهندوسية والإسلام، فبعض طقوس العبادة كما هي في الإسلام، حيث الصلوات الخمس والإيمان بالإله الواحد الأحد. ولكن أستاذ اللاهوت ينفي أن تكون السيخية مزجا من ديانات أخرى، بل يؤكد أنها ديانة قائمة بذاتها.

 

بدأ الجورو الأول “ناناك” بفكرة أن كل الناس متساوون أمام الله، وأن السيخ يعتمد على وحدانية الله وإخوة البشر.. وتتخطى حلقة السيخ زمن 52 دقيقة بدقيقتين على الأقل، نتعرف خلالها على واحدة من أحدث الديانات التي تؤمن بالتوحيد ملتزمة بنظام صارم وإلغاء للطبقية. ويحاول السيخ الانخراط في حياة الهند المعاصرة، وحاليا نجد أول رئيس وزراء للهند من طائفة السيخ.

تنوع الأديان.. سحر الهند الروحي يجتذب الغرب المادي

أفهم الآن ما لهذه المجتمعات الدينية من جاذبية لدي السائح الغربي بشكل خاص، حيث يهرب لأيام من حضارة مادية تضغط عليه إلى عالم روحانيات لا تشغله فيها صراعات المادة والتفكير في الحفاظ على ممتلكاته، وينسى فكرة الثواب والعقاب، بل يسعى إلى الوصول لحالة من الصفاء الروحي التي تقرب الإنسان إلى صورة الإله الواحد، وحين ينشد المتعبد التسابيح ينسى نفسه ويتحد بالإله.

 

مجتمعات دينية تذكّر الواحد منا بفكرة الصوفية في الإسلام، وتجعلنا نصل إلى حقيقة أن الله واحد تصل تجلياته لكل مجموعة من البشر حسب مجتمعاتهم بقدر من الاختلاف في الطقس، وتبقى حقيقة الوجود واحدة، إله واحد محبوب ومعبود من بشر يحاولون الاقتراب من صورته الكاملة.