“الملعب”.. صراعات التنمر والسيطرة في عوالم الأطفال المعقدة

عبد الكريم قادري

الطفولة محطة لا بد أن يمر من خلالها أي فرد ليصل إلى مراحل عمرية أخرى، غير أن أجزاء واسعة من هذه العوالم تبقى ضبابية وغير مفهومة، لهذا وجب توقيف عدسة الكاميرا أمام وجوههم البريئة لقراءة تفكيرهم وسلوكهم وفوضاهم وأحلامهم وكوابيسهم، لمحاولة فهم وتبسيط مصطلح التنمر الذي يؤذيهم، ويترك فيهم ندوبا غائرة لا تُشفى بسهولة، بل إنها تتراكم وتشتبك في عقولهم، ليكون لها الأثر البالغ على مستقبلهم.

لقد ذهبت المخرجة البلجيكية “لورا فونديل” لتكتشف هذه المساحة وتستقرئها سلوكيا عن طريق فيلمها الطويل الأول “الملعب” (بالإنجليزية: Playground، بالفرنسية: Un Monde)، الذي عرض في مسابقة “نظرة ما”، وفاز بالـ”فيبرسي” في مهرجان كان السينمائي 2021.

“نورا” و”آبيل”.. دفاع الأخت الصغرى عن شقيقها

يتتبع فيلم “الملعب” (72 دقيقة) خطوات “نورا” رفقة شقيقها الأكبر “آبيل” إلى المدرسة، لكن هذه الطفلة الصغيرة ذات السنوات السبع تتغير حياتها رأسا على عقب، عندما ترى أخاها يتعرض للتنمر والسخرية من قِبل أطفال آخرين، حيث تندفع لحمايته، فيتطور الأمر أكثر، وتصبح وكأنها طرف في هذا الموضوع الطفولي الشائك، فقد حاول أخوها أن يدافع عليها، وبالتالي أصبح هدفا لرفقائه المتنمرين الذين وجدوا فيه الطفل المناسب لممارسة فعل التنمر عليه من خلال ضربه والسخرية منه أمام باقي الزملاء الذين يدرسون معه في المدرسة نفسها.

 

تطور الأمر مع الوقت وزادت وقائع الاعتداء، وكانت “نورا” شاهدة عليها بشكل مستمر، غير أن “آبيل” يجبرها على التزام الصمت كي لا تخبر والدهما، لتبقى هذه الطفلة الصغيرة عالقة بين أن ترى أخاها وهو يُعنّف ويتعرض إلى أنواع التنمر، أو توفي بوعدها ولا تشي به.

تماهي المُشاهد مع الشخصيات.. تورط عاطفي

اقتربت المخرجة وكاتبة السيناريو “لورا فونديل” من نفسية الأطفال وعوالمهم، بل استطاعت أن تتمازج معهم وتنقل آلامهم وآهاتهم بإحساس عال، وكأنها تعود من خلال هذا الفيلم إلى طفولتها وعوالمها الشخصية، لأنه من الصعب على الكاتب أو المخرج أن ينجز عملا بهذه الدقة والحرفية دون أن يعود إلى الذات والطفولة التي تسكن فيه، أي أنه مهما استعار من الخيال وحياة الآخرين يبقى ماضيه هو الأساس الذي يبنى عليه الحاضر وتفاصيله السينمائية، حتى أن المشاهد يجد نفسه متورطا عاطفيا في أحداث الفيلم، ويعود من خلاله إلى تفاصيل الماضي والطفولة والدراسة، سواء كممارس لفعل التنمر أو كمتلقٍّ له، وفي بعض الأحيان كملاحظ، أي أنه يعرف هذا الفعل وإفرازاته النفسية.

من هنا يتحرك فضوله لمعرفة تفاصيل العمل، وأكثر من هذا يتورط عاطفيا مع شخصياته، لتصبح المتمدرسة “نورا” (الممثلة مايا فاندربيك) أو أخوها “آبيل” (الممثل غونتر دوريت) صورة سلوكية متعددة لواحدة منهما أو كلاهما، تنعكس مع المشاهد بطريقة أو بأخرى.

حضور الأب بشكل مستمر للمدرسة ساهم في خلق مظاهر التنمر وعقد مشاكل الطفلة نورا

 

وأكثر من هذا يثبت الفيلم بأن المخرجة/كاتبة السيناريو “لورا فونديل” تملك مرجعية نظرية في علم النفس أثثت بها قصتها، وجعلتها ذات منطلق علمي معرفي، مسندة بمنطلقات الفعل وردة الفعل التي تبنى عليها الحياة عامة، لهذا صنعت مقدمة فيلمية سريعة، وبدأت عرض الأحداث وتطورها، ثم ذهبت إلى النتيجة الخطيرة التي وصل لها فعل التنمر الممارس في المدرسة، والأذية التي يمكن أن يتركها في سلوك وقلب أي طفل، وكيف يغير هذا الأمر السلوك ويبني الشخصية ويحرض على العنف والكراهية، أي أنها لفتت نظر الجمهور لمشكلة خطيرة جدا، وهي أن هذا الفعل يؤدي بصاحبه إلى ممارسته بشكل ما.

تأثر الضحية بأساليب الجلاد.. مشهد النهاية

هذا ما حدث مع “آبيل” الذي أصبح يمارس التنمر على الآخرين، فقد اختار الشخصية الضعيفة في المدرسة، وبدأ يمارس حولها كل أشكال هذا التنمر، لتطرح “فونديل” سؤالا في غاية الأهمية عن جذور العنف وممارسته، ثم تخرج بنتيجة مهمة تفيد بأن العنف لا يولد سوى العنف، ومعنّف اليوم هو ممارس للعنف يوم غد، ولا يمكن للمرء أن يتوقع حجم هذا العنف الذي يمكن أن يكون خطيرا جدا وحتى إجراميا.

تختم المخرجة فيلمها بمشهد في غاية الأهمية، وهذا حين يقوم “آبيل” بوضع كيس بلاستيكي على رأس طفل آخر، وكلما مر الوقت في هذا المشهد ازداد قلب المشاهد خفقانا، فقد أحس بأن هذا الطفل سيموت، لكن قدمت المخرجة إشارات صغيرة على أنه لا يزال على قيد الحياة.

مشهد من مشاهد التنمر بين الأطفال في المدرسة، حيث تحوّل هذا المكان إلى مكان لتوليد الكراهية والحقد والعنف

 

فمن خلال هذا المشهد القاسي دقت ناقوس الخطر بضرورة الانتباه بشكل جيد لما يدور في المدارس، لأن هذا المكان يمكن أن يتحول إلى منطلق أساسي لتوليد الكراهية والحقد والعنف، والدليل ما وصل له “آبيل” بعد الضغط والعنف والتنمر الممارس ضده، فقد أصبح في الأخير يمارس هذا السلوك كمحاولة منه للتنفيس عن غضبه ورفضه لهذا الواقع، وهو ما دفعه لصنع وخلق واقع موازي يكون فيه الجلاد لا الضحية.

منظومة التدريس.. شرخ عنيف بين بناء الجسور وهدمها

تعكس الطفلة “نورا” شخصية الملاحظة البعيدة عن صناعة الفعل الذي يمارسه الآخرون ضد أخيها الذي انعكست شخصيته كردة فعل، وتحوله فيما بعد إلى صانع له، لكن هذا البعد والمراقبة من بعيد لم ينجِ قلبها الهش من هذه الضربات النفسية، بل انتقل لها الأمر، وأصبحت هي الأخرى عنيدة، بل عنيفة مع معلمتها الجديدة التي لم تحاول أن تفهمها وتفهم سبب عنادها، بل راكمت هي الأخرى الأمر وعاقبتها.

وفي الوقت نفسه أدانت المخرجة منظومة التدريس التي ساهمت هي الأخرى في تدوير عجلة العنف، من خلال انتهاء عقد المعلمة التي صنعت علاقة وجسر تواصل مع تلاميذها، لتأتي معلمة أخرى لا تعرف عنهم شيئا.

الطفلة “نورا” انعكس فعل التنمر الذي يُمارس ضد أخيها على شخصيتها، فقد أصبحت عنيدة في الصف الدراسي

 

من هنا يحدث الشرخ ويتراكم شعور الرفض والعنف وعدم التقبل، أي أن الأمر يخضع لسلسة غير منتهية من الأسباب التي تؤدي دائما إلى نتائج تولد العنف، والدليل هو الأرقام المذهلة لنسب التسرب المدرسي المبكر، والعنف في المدارس، وعدد الضحايا وحتى القتلى بسبب هذا السلوك.

“مايا” و”غونتر”.. موهبة تصل حد الاحتراف

تعامل الطفلان الممثلان “مايا فاندربيك” و”غونتر دوريت” تعاملا بكل احترافية مع الشخصيتين اللتين أدياهما في الفيلم، إذ لا يمكن القول إن “مايا” تجاوزت “غونتر” أو العكس، فكل واحد منهما قدّم مجهودا كبيرا في التمثيل، وكأنهما في هذا الفيلم يعيشان حياتهما العادية.

وقد يصل بنا الأمر إلى القول إن كاميرا “لورا فونديل” صورتهما بدون علمهما، لأنهما توحدا مع أدوارهما إلى حد التطابق، سواء من ناحية تقاسيم الوجه أو حتى السلوك النفسي، إذ يتنقلان من عاطفة إلى أخرى، مثل القلق والغضب والعناد والظلم والخوف وغير ذلك من الانفعالات البشرية الأخرى بكل راحة وإقناع.

الطفلان الممثلان “مايا فاندربيك” و”غونتر دوريت” في مهرجان كان السينمائي 2021

 

ويعود هذا كله إلى جهوزيتهما وموهبتهما بدرجة أولى، ثم يأتي بعدها دور “فونديل” التي كسبت ثقتهما، وبالتالي سيّرتهما كما ينبغي، فقد استخرجت منهما تلك المواهب والطاقة من خلال المعايشة، وأقنعتهما بالدورين، وبضرورة عيشه والتوحد في تفاصيله، لهذا نجد ذلك الانسجام الكبير بين ما قاما به وبين تفاصيل القصة، ولا نرى أي تعارض في الشخصية، أو نزول في مستوى التمثيل، وأكثر من هذا فهما لديهما ملامح قوية جدا، مما يبشر ببقائهما طويلا في عوالم السينما، ودخولهما عوالم الاحتراف قريبا، وستفتح لهما أبواب هذا الفن على مصراعيها.

تركيز العدسة.. مجازفة فنية في حيلة سينمائية ذكية

اعتمدت المخرجة في معالجتها السينمائية على التركيز بشكل كبير على سلوك البطلين “مايا” و”غونتر”، حتى أنها وجهت المتلقي لملامحهما ودوريهما وأفعالهما، وهذا عن طريق تضبيب الموجودات الأخرى في الإطار البصري، كأن تقوم مثلا بتغطية ملامح باقي التلاميذ أو المديرة أو المعلمة أو الأثاث الذي قد يثير الانتباه، وكل هذا حتى يُركز المشاهد على ما تريده المخرجة أن يركز عليه.

وقد رأى بعض الملاحظين بأن هذا الأمر مزعج ومرهق بصريا، لكن من ناحية أخرى ضمن عدم تشتت الذهن وفهم بؤرة الإطار البصري بشكل أعمق، ويمكن اعتبار هذه المعالجة وطريقة العمل شجاعة كبيرة من المخرجة الشابة “لورا فونديل”، خاصة أنه فيلمها الروائي الطويل الأول، ويمكن وصف الأمر بأنه مجازفة فنية، وذلك لأنها استعملت تقنية لا يمكن توقع نتائجها من ناحية التلقي، لكن يبدو بأنها فهمت جيدا بأن التحديث في السينما هو مجازفة دائما يمكن أن تنجح فيها أو يكفيها التجريب.

مخرجة فيلم “الملعب” البلجيكية البلجيكية “لورا فونديل” التي تأهل فيلمها للأوسكار عام 2022

 

نظرا لذلك فإنها جربت حظها الفني ونفّذت حيلها السينمائية لخدمة موضعها بشكل عام، وقد ساعد في هذا الأمر طريقة البناء التي اعتمدتها، فقد وزعت من خلالها القصة بطريقة مدروسة، ليقوم بعدها المونتاج بضمان هذا الانسجام ومدّه بخيط سرد أكثر حيوية ليربط المَشاهد ببعضها وفقا لسياق القصة ومقتضيات العمل.

“لورا فونديل”.. رحلة الفيلم الطويل الأول إلى الأوسكار

فيلم “الملعب” (72 دقيقة) هو فيلم بلجيكي عميق ومدروس ومُقدّم بطريقة ذكية وفنية، فقد ترك بصمة في قلب كل من شاهده، لأنه قدّم موضوعا غاية في الحساسية والأهمية، وشارك في عدد من المهرجانات العالمية المهمة، ونال بعض جوائزها، كما اختارته بلجيكا ليكون ممثلا لها في جوائز الأوسكار التي ستنظم عام 2022، كما شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي (عقدت دورته الخامسة في الفترة 14-22 أكتوبر/تشرين الأول 2021).

ونالت الممثلة “مايا فاندربيك” التي أدت دور “نورا” جائزة أفضل ممثلة، ويعد هذا الأمر إنجازا، نظرا لكون الفيلم هو أول تجربة في الأفلام الطويلة للمخرجة “لورا فونديل” التي ولدت عام 1984 في بروكسل، لكن كانت لديها علاقة طويلة مع مراحل التكوين وتأثيث المرجعية السينمائية، إذ درست السينما في معهد الفنون، وهناك قامت بتصوير أول فيلم قصير لها، وهو فيلم “الجدران” (Murs) الذي اختير للعرض في مهرجانات عدة من العالم، ثم تبعه فيلم “أو نيجاتيف” (O Négatif) و”الأجساد الأجنبية” (Les Corps Étrangers) الذي نافس في مهرجان كان السينمائي 2014.