“المنشطات-سري للغاية”.. في محاكم الرياضة يستوي الجاني والضحية


يتوصل الوثائقي الألماني “المنشطات-سري للغاية.. مذنب” (Doping – Top Secret: Guilty) من خلال متابعته لنتائج بحوث علمية يقوم بها معهد الطب العدلي الألماني في مدينة كولون، وبإشراف طبيب مختص بالسموم؛ إلى حقائق مذهلة يمكن أن تُحدث انقلابا جذريا في أساليب الكشف عن المنشطات، وتُعيد النظر في الأحكام التي تصدرها اللجان المختصة بحق الرياضيين المتهمين بتعاطيها، وغالبا ما تكون حاسمة وغير قابلة للمراجعة القانونية.

من بين أخطر ما تكشفه الدراسة التطبيقية التي أُجريت على مجموعة عشوائية من الرياضيين، أنه بالإمكان تعريض الرياضي -لأسباب تخريبية متعمدة- إلى أنواع من المواد الكيميائية من دون علمه، وبالتالي تتعرض سمعته للتشويه، ويتوقف مستقبله الرياضي حال ظهور نتائج الفحص المختبري لعينات من دمه أو بوله.

تطرح نتائج البحث أسئلة أخلاقية ومهنية حول الأحكام الصارمة الصادرة عن وكالة مكافحة المنشطات “وادا” التي لا تقبل الركون لغير النتائج المختبرية، ولا يهمها ما إذا كان الرياضي بريئا، أو أنه ضحية محاولات متعمدة لتخريب سمعته ومستقبله. فهل هذا يتوافق مع مفهوم العدالة والقيم الرياضية والأخلاقية؟

“شينا جاك”.. سبّاحة متهمة تصارع في المحاكم

لا يقدم الوثائقي جوابا حاسما من البداية على تلك الأسئلة، بل يترك الاختبار العلمي يأخذ وقته المطلوب، وفي تلك الأثناء يذهب لعرض حالات تعرّض فيها رياضيون إلى ظلم لمجرد ظهور نتائج إيجابية في عينات الفحص التي أخذت منهم، وبعدها لم تنفع احتجاجاتهم وادعاءاتهم بعدم معرفة مصدر تلك المواد الكيميائية، وكيف وصلت إلى أجسامهم.

يأخذ المخرج الألماني “هاجو سيبيلت” حالة السبّاحة الأسترالية “شينا جاك” الحائزة على عدد من الميداليات الذهبية، فقد كاد مستقبلها الرياضي أن ينتهي بالكامل عام 2019، وذلك عندما أصدرت لجنة مكافحة المنشطات قرارا بتوقيفها عن ممارسة الرياضة لمدة أربع سنوات، بعد ظهور مادة “ليجاندرول” في عينة البول التي سلمتها للمختبر.

كادت السباحة أن تستسلم وتترك الرياضة نهائيا، بل إنها شعرت بإحباط شديد وفكرت بالانتحار، لأن لا أحد يصدق قصتها وادعاءها بأنها لم تتناول المنشطات أبدا، لكن محاميها استأنف الحكم وطلب من المحكمة إجراء فحص جديد بعد تأكده من موكلته أنها قد تناولت قبل الفحص عقارا طبيا خاصا، وبكمية محدودة جدا، حيث أظهر الفحص الجديد أن مكونات الدواء تحتوي على نسبة قليلة من مادة كيميائية محظورة، لكن السبّاحة لم تأخذها لغرض التنشيط.

قررت المحكمة خفض فترة عقوبة المنع من أربع سنوات إلى سنتين، أما اتحاد السباحة الأسترالي ووكالة مكافحة المنشطات الدولية “وادا” فطالبا باستئناف الحكم، لكن الاتحاد والوكالة كليهما أبقيا على قرار المنع لمدة أربع سنوات.

لمسة تشجيع خفيفة تكفي لتسريب المادة الخطيرة في داخل جسم الخصم

“سيمون غيزمان”.. براءة في محكمة سويسرية بعد أعوام

حالة لاعب كرة اليد السويسري “سيمون غيزمان” مشابهة تقريبا لحالة السباحة الأسترالية، فقد ظهر في بوله نسبة من المادة المدرة لبول “هيدروكلوروتيازيد” التي تُدرج ضمن المواد المحظورة، لكن “سيمون” ادعى أنه أخذ حبوبا لتخفيف أوجاع العضلات.

تأكده من نفسه ومن عدم أخذه أي منشطات دفعه للمطالبة المستمرة بإعادة فحصه ثانية، لكنه احتاج أعواما لإثبات براءته، وخلالها ترك الرياضة وتشوهت سمعته، وعانى كثيرا من العزلة وقوبل بالكراهية، ومع ذلك أصرت وكالة مكافحة المنشطات على قرارها، لكن المحكمة السويسرية برأته.

إنها براءة دفع ثمنها غاليا، ومع ذلك استمرت المنظمة بالعمل بنفس أساليبها السابقة، ولم تراجع أنظمتها المتبعة في الفحص والحُكم.

نتائج الفحص المختبري لعينات من دم أو بول الرياضي، والتي بناء عليها يُحكم توقف مستقبله الرياضي حال ظهور

منع الغش.. محاكمات خارج إطار القانون المدني

إصرار الجهات الرسمية المعنية بمكافحة المنشطات على صحة أساليبهم المتبعة بفحص الرياضيين، والحُكم عليهم بعد ظهور النتائج المختبرية دون أن تأخذ بعين الاعتبار الحقائق العلمية والعوامل الخارجة عن إرادة الرياضي المُدان؛ دفع الوثائقي لسؤال حقوقيين عن صحة ما تقوم به تلك الجهات قانونيا.

جاء الجواب ليؤكد أن تلك الأساليب يُراد بها منع الغش، لكنها لا تراعي الجوانب القانونية المتبعة في المحاكم المدنية، وفيها يأخذ القضاة النظر في الدوافع، وما إذا كان الجاني متعمدا في فعلته أم لا، وبعدها يصدرون حكمهم.

أما محاكم المنشطات فإنها تنظر فقط في النتائج المختبرية، وبعد ظهورها مباشرة تصدر أحكامها من دون مراعاة لتفاصيل كثيرة، لكنها ربما تظلم بتجاهلها المتعمد لها الرياضي، وتشوّه سمعته من دون وجه حق.

اللون الأخضر الذي اتخذته المسحَة التي تشبه مراهم الجلد، والتي تحتوي على نسبة خفيفة جدا من مادة كيميائية محظورة تتسرب من الجلد إلى جسم الرياضي

المسحات الكيميائية.. لحظة غفلة عابرة تفسد المستقبل

يذهب الوثائقي إلى مدينة كولون ليقابل الطبيب العدلي “مارتين جوينر”، ويفهم منه طبيعة دراسته، والدوافع التي شجعته على المضي بها.

يكشف الخبير العدلي حقائق أولية ظل يحتفظ بها ولم ينشرها انتظارا لظهور تجاربه التطبيقية التي يريد بها التأكد من إمكانية حدوث تخريب متعمد ضد الرياضيين بدافع المنافسة والغيرة، أو لأسباب أخرى مختلفة، ويطلق على تلك العمليات السرية اسم “التخريب بالمنشطات”.

في تجربته يُعرّض 12 رياضيا إلى اختبار دقيق، يتمثل بتعريض أجسامهم دون علمهم إلى مَسحات تحتوي على نسبة خفيفة جدا من مادة كيميائية محظورة تتسرب من الجلد إلى الجسم، وهي تشبه كثيرا مراهم الجلد العادية، ولتوضيحها بدقة أمام المُشاهد لوّنها الوثائقي باللون الأخضر.

بعد أسبوعين سلّم المشاركون عيّنات من بولهم، وجاءت النتائج كلها إيجابية، وبالتالي سيُحكم عليهم لو عرضت نتائجها على الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات بالمنع المؤقت، أو الإيقاف التام عن ممارسة الرياضة.

وقد تفاجأ جميع المشاركين بالنتائج لأنهم كانوا على ثقة تامة من عدم أخذهم أي منشطات خلال فترة الاختبار، لكنهم لم يشعروا بالمسحات الخفيفة وهي تنقل المواد المحظورة إلى أجسامهم، كما لو أن شبحا غامضا قام بذلك الفعل واختفى.

رسوم توضيحية لعمليات التخريب المُتعمد في المختبرات

مرهم يحمي الجاني ويفتك بالضحية.. عمليات التخريب

يجسد الوثائقي عمليات التخريب المتعمد برسومات توضيحية، وبإعادة تمثيل لمَشاهد متخيلة تظهر سهولة إمكانية نقل المُخرِّب للمادة المحظورة إلى جسم المنافس، لكن المفارقة التي يشير إليها الخبراء هي أن الرياضيين هم أكثر الناس تعرضا للاحتكاكات الجسدية خلال اللعب، أو حتى المصافحة أثناء التهنئة بالفوز والتشجيع.

أما عن أساليب إخفاء المخرب لجريمته ومنع انتقال المادة الكيميائية إلى جسده، فيكشف العالِم للوثائقي عن استخدامهم عادة مادة عازلة عبارة عن مرهم يضعه الجاني على باطن كفه، ثم يضع فوقه المادة المراد تسريبها لجسم الخصم.

لا يتوقف الوثائقي عند هذا الحد، بل يذهب لعرض حالات أخرى تؤكد واقعية النتائج، فقد قابل رياضيين أدلوا بشهاداتهم، وعرضوا ما تعرضوا له خلال حياتهم الرياضية أمام الكاميرا، وكم كانت صدمتهم كبيرة بعد اطلاعهم على نتائج الدراسة التطبيقية.

أعادت لهم النتائج ذكريات الأمس، يوم أنكروا تعاطيهم المنشطات رغم إيجابية الفحوص، ولم يصدقهم أحد، فوجدوا أنفسهم بعد الفضيحة في وضع لا يحسدون عليه، فهم يعانون من ظلم فادح، ويعجزون عن إثبات براءتهم.

واحدة من أساليب التخريب المُعتمدة، حيث توضع المادة الكيميائية داخل عبوة معجون الأسنان، فتصل المادة المُنشطة إلى جسم الرياضي عبر المعجون

تغلغل السموم في المتعلقات الشخصية.. أيادي الخبراء والمخابرات

لتوسيع مساحة بحثه واستقصائه يُراجع صانع الوثائقي حالات خاصة ذات طابع سياسي أو دعائي يلجأ إليها المخربون لمنع المنافس من الفوز بميدالية ما أو لقب يريدونه لأنفسهم، ومن تلك الوسائل الجهنمية التي يؤكد عليها علماء، سموم في الغالب من صُنع جهات خبيرة، فوصول مادة مُنشطة لجسم رياضي عبر معجون أسنان تُدلل كمثال عليها.

حدث هذا للعدّاء “ديتر بارمان” الذي مُنع من ممارسة الرياضة بعد اكتشاف تركيز عال لمادة “نوراندروستيرون” المحظورة في جسمه، فقد بيّن الفحص الجنائي أن وضع المادة الكيميائية داخل عبوة معجون الأسنان وإحكام غلقها ثانية لا تقدر عليه سوى جهة مختصة، والتي غالبا ما تعود لدول أو مؤسسات طبية كبيرة.

يراجع الوثائقي تاريخيا ممارسات كشفت عن تعمّد مخابرات ألمانيا الشرقية سابقا تسريب مواد مُنشطة محظورة إلى داخل أجسام الرياضيين الذي هربوا منها إلى الغرب لأسباب سياسية.

ذهول رياضي بعد الاطلاع على نتائج البحث الذي أثبت براءة الكثير من الرياضيين المُتهمين بتعاطي المنشطات

ما بعد كشف النتائج.. وهم تحقيق العدالة الرياضية

لم يكتفِ الوثائقي الاستقصائي بنتائج الدراسة الجديدة، ولا بالحالات الفردية التي أثبتت المختبرات فيها براءة المتهمين، بل ذهب إلى معرفة ردود فعل مسؤولي المنظمات المعنية بالمنشطات ومحاربتها، وقد أربكتهم النتائج التي وضعها الوثائقي أمامهم، ومع هذا أصرّ بعضهم على انتهاج نفس الخط السابق، لأنه -حسب رأيهم- يحقق العدالة الرياضية المطلوبة، بينما يؤكد قسم قليل منهم على ضرورة إعادة النظر في الإجراءات المتبعة، وبشكل خاص بعد النتائج التي ظهرت في الدراسة العلمية. فهل سيتحقق ذلك قريبا؟

يرى المحامي الرياضي “ريتشارد ماكلارين” المختص بقضايا المنشطات أن تغيير الوكالة الدولية لأنظمتها المتبعة ليس بالأمر الهيّن، لأنها لو أخذت بنتائج الدراسة، وراحت تدرس التفاصيل المحيطة بحالة كل رياضي يخضع للفحص، ويثبت تعاطيه مختبريا، إلى جانب قيامها بتحقيقات دقيقة لمعرفة مصدرها والجهات التي تقف وراء تسريبها إلى جسم الرياضي من دون درايته أو تعمده فعل ذلك، فإن هذا كله سيؤدي عمليا إلى انهيار النظام السابق بأكمله، والاعتراف ضمنا بأن الهدف النبيل الذي يعملون من أجله لم ولن يتحقق، إلا على حساب بعض الرياضيين.

يتساءل الوثائقي بدوره: هل يصحّ أن نُضحّي بسمعة ومستقبل رياضيين أبرياء فقط من أجل الحفاظ على أساليب عمل قديمة يثبت العلم والواقع أنها بحاجة إلى تغيير حقيقي يحفظ حق الرياضي وسمعته قبل شيء؟