“المنفى”.. حكاية الرجل المنفي في ذاته

د. أحمد القاسمي

يُقال “أرض الله واسعة” حين تشتد الأزمات ويضيق المكان، وينسب إلى الإمام الشافعي:

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ
مِنْ رَاحَةٍ، فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ

سافر تَجِد عوضا عمَّن تفارقهُ
وَانْصَبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

يغادر المرء بلاده ليجد لها عوضا في “أرض الله الواسعة” يتخذه منفى، لكن المنافي أنواع ودرجات، فكيف يكون الأمر حين يجد المرء نفسه منفيا في ذاته وسجين أفكاره؟ من سيحرره من نفسه حينها والذات ضيقة مهما اتسعت؟

تلك مأساة “جافير” الكوسوفي في فيلم” المنفى” (Exile) المنتج عام 2020 بالاشتراك بين كوسوفو وألمانيا وبلجيكا.

 

“المنفى”.. أفضل فيلم في مهرجان ساراييفو

يتعرّض “جافير” مهندس الكيمياء الكوسوفي والموظف بأحد المخابر الألمانية إلى مضايقات شتى، تُربكه على المستوى الأسري والاجتماعي والمهني، فينتهي إلى التسليم بكونه ضحية لكارهي الأجانب، وبالمقابل كثيرا ما يتصرف مع الآخرين بغلظة تجعله مزعجا وعدوانيا، لكن ذاتيته وكبرياءه الجريح يمنعانه من الانتباه إلى أخطائه في حق الآخرين.

يمثل “المنفى” ثاني الأفلام الطويلة للمخرج الكوسوفي الألماني “فيسار مورينا”، بعد فيلم “الأب” (Babai) الذي قدّم موهبته للمهتمين بالشأن السينمائي سنة 2015. وأبرز ما يشدنا في عمله الجديد مقاربته المختلفة للتعايش بين المجتمع الألماني والأجانب، ولغته السينمائية المبتكرة التي تعمل على تطويع الديكورات وزوايا التصوير والإضاءة، لتجسيد فكرة الانغلاق والشعور بالاضطهاد بصريا.

لقد كان فيلما مغامرا على مستوى وجهة النظر الفكرية والمقاربة الجمالية على حدّ سواء، ولعل هذا ما أهّله للفوز بجائزة “أفضل فيلم” في مهرجان ساراييفو 2020 “القلب”، ورشّحه للعرض في قسم بانوراما من مهرجان برلين السينمائي للسنة نفسها.

جافير مع زوجته نورا، حيث تأثرت علاقتهما بسبب ارتباكه في العمل، والذي انتقل إلى المنزل أيضا

 

خنق الزوجة.. خيالات العدو المتربص في العمل والمنزل

ينغمس “جافير” في مشاغل يومية تزعجه وتستنزف طاقاته، فقد لا يكترث كثيرا بعلاقة الجفاء التي يواجه بها في محيطه المهني، لكن الأمر أضحى أكثر خطورة، فقد بلغ مستويات بعيدة، إذ تُصلب الجرذان على باب حديقته، أو يُحشى بها صندوق رسائله.

ولا شك أنّ الفاعل الذي يتلاعب بأعصابه ممن يعرفون الفوبيا التي يعانيها بسببها، ولن يكون من خارج وسطه المهني إذن، ويستثنيه زميله المنسق من الرسائل الإلكترونية التي تنظم العمل، ويحجب عنه معلومات مهمة، مما يكلفه إحراجا أمام مديريه وزملائه، أو يحجب عنه بيانات ضرورية يظل عمله منقوصا دونها، أو يتلقى رسائل مبطنة. فماذا يعني أن تحرق عربة ابنه أمام المنزل غير تهديد سلامته الجسدية وسلامة عائلته؟

لهذه المضايقات أثرها على نفسيته، حيث تتفاقم عزلته في محيطه المهني بعد أن انخرط في سجالات غير مُجدية، وكال التهم إلى بعض زملائه دون أن تكون له الإثباتات التي يقنع بها المشككين في رواياته، وينتقل ارتباكه إلى محيطه العائلي، فيشترط حتى يستجيب إلى دعوة حماته، ويحضر عيد ميلادها؛ أن تعلن على الملأ أنها لا تشعر بالخجل لأن ابنتها تزوجت أجنبيا، وتسوء علاقته بزوجته على نحو خطير، وتصل أقصى تدهورها حينما تهجم عليه الخيالات ذات لحظة حميمية، فتجعله يرى فيها عدوا مُتربصا به، ويتحوّل العناق إلى قبضة تشدّ على العنق تكاد تقتل الزوجة خنقا.

“نورا” زوجة “جافير”، وهي التي تتحمل حملا ثقيلا وتحاول انتشال زوجها من دائرة أوهامه

 

“نورا”.. محاولة انتشال الغريق في ضحضاح ذاته

من البديهي أن يكون للشعور بالرفض من قبل الآخر على أساس عرقي والإمعان في الاعتداءات المجانية تبعات نفسية جمّة، منها الشعور المرضي بالخجل، والانكفاء على النفس، واليأس من الآخرين، وفقدان الثقة بهم، وكثيرا ما تتبنى الضحية وجهة نظر المعتدي فتفقد بدورها احترامها لذاتها، وتغرق في اكتئاب يُغذّي الانفصال عن البيئة الاجتماعية، ويهدم الحياة الأسرية.

وهذا شأن “جافير” الذي يغرق في هذه التفاصيل المدمّرة، وتهتز ثقته بنفسه وبمدى وفاء زوجته “نورا” التي تتحمل حملا ثقيلا، وتعتني بأطفالهما الثلاثة، والحال أنها تنهمك في إعداد أطروحة دكتوراه تقتضي التفرّغ التام وصفاء الذهن.

وتحاول “نورا” أن تنتشل زوجها من دائرة الوهم، وأن تخرجه من حالة الانكفاء، لتفتح عينيه على تصورات أخرى يمنعه انغماسه في ذاته من إدراكها، فلعلّ محيطه لا يرفضه لأنه أجنبي، وإنما لأنه صدامي وعنيف، ولعلّ المعضلة تكمن فيه هو لأنه لا يحسن الظنّ بالآخرين، كما فعل مع الشرطي الذي سأله مازحا لما كانت عربة الأطفال تحترق أمام منزله إن كان من جنوب ألمانيا، فالرّجل لم يكن يسخر منه حتى يواجهه بتلك الكلمات المهينة، وإنما كان يستحضر قصة المتسول الذي ضُبط وهو يشعل بعض العربات، وفي المحكمة قال إنه يعتدي على سيارات الجنوبيين تحديدا لأنه لا يحبهم.

 

“لو كنت ذا ملامح عربية لفهمت حدوث ذلك”

هل نعتبر جافير ضحية أم معتديا؟ شيئا فشيئا نكتشف أنّ مورينا المخرج المهاجر يتخذ مسافة نقدية ممّا يصوّر على أنه معاناة للمهاجرين، وهذا ما يؤكده لاحقا في حواره مع “سيني أوروبا”، إذ يقول: لخلق الشخصية الرئيسية والأدوار الثانوية أيضا، أخذت في اعتباري بعض الميزات الخاصة للناس الذين أعرفهم، أو الذين صادفتهم في حياتي، فقد كان من المهم بالنسبة إلي أن أجسّد كائنا بشريا بنقائصه لمنح صورة الشخصية بُعدا واقعيا، فارتكاب الأخطاء ليس إلا جزءا من الحياة.

لكنّ الفيلم وهو يعمل على تفهّم مواقف المجتمع الألماني وينفي عنه العنصرية، لم يخل من أقوال عنصرية تسيء إلى العرب، فحين تحاول الزوجة أن تبدّد شكوكه تقول له في عبارة متعسّفة “لو كنت ذا ملامح عربية لفهمت حدوث ذلك”.

وجه التعسّف والإسقاط هنا أنّ “جافير” يعاني من معاداة زملائه في العمل الذين يعرفون أصوله الكوسوفية، ولا يتعرض إلى اعتداءات في الشارع من قبل من يجهلون هويته، ووجه الإشكال في إجابة الزوج:”هل يتعين عليّ عندما أعاني من الصداع أن أشكر الله لأنه مجرد صداع وليس سرطانا؟

فمهما قلبنا الحوار وحاولنا أن نربطه بسياقه، أو أن نحسبه على إدانة عنصرية المجتمع الألماني ضد العرب، وعلى حساسية جافير المفرطة؛ يظل الكلام فظّا يفتقر إلى الذوق السليم.

الكوسوفي المهاجر جافير يعتدي على زميله في العمل أورس، مما يجعل الأخير ينتحر في مكان عمله

 

مفاجأة ابن العاملة الكوسوفية.. كما تدين تدان

تثبت مختلف الأحداث في الفيلم الأطروحةَ القائلة إن “جافير” يتعرض إلى اعتداءات عنصرية تخرجه عن طوعه وترسم له صورة الضحية، ويتهم زميله “أورس” أساسا بتدبيرها، وقد يجد المتفرّج في أخذه سلة الجرذان الميتة إلى مكتب “أورس” وإفراغ محتواها عليه تحقيقا لعدالة مّا، ويظل المخرج يحشد التعاطف لبطله على مدار الفيلم عندما يرسّخ في أذهاننا أنه ضحية لتآمر زملائه في العمل وجيرانه ورفض حماته وخيانة زوجته المحتملة. لكن هل يكفي التعاطف لنقاسمه الألم؟

لا شك أن مأساة “جافير” أعمق مما تدرك زوجته على الأقل، فلتفهم أكثر معاناته، يروي لها قصة الفلاح الألباني الذي سقط من فوق شجرة التفاح، وطلب أن لا يزوره إلا من سقط من فوق شجرة تفاح، أي من عاش تجربته ويقدر حجم معاناته، ثم نصل إلى مرحلة النهاية التي تتخذ منحى مفاجئا مناقضا لمسار الأحداث، وهو أشبه بحدّة المنقلب في السرد الوجيز، حيث يزور منزل عاملة التنظيف الكوسوفية، وعند مغادرته تلقى عليه بيضة فتلطخ ثيابه، وإذا المعتدي هو ابن العاملة.

مع هذه الواقعة نكتشف وقوعنا في الفخاخ التي نصبها لنا المخرج المبدع ليلاعبنا، ولا نملك إلا أن نعجب من غفلتنا عن العلامات التي تجعلنا نقرأ الأحداث قراءة صحيحة، والحال أنها ملقاة على قارعة الشاشة، أو أن نتدارك فنعيد تقييم المواقف كليا، فكل تلك الاعتداءات كانت من فعل ابن عاملة التنظيف الذي ينتقم لشرف والده المهدور، فقد كان “جافير” يستغلّ ظروفها الاجتماعية القاسية وإعاقة زوجتها لمعاشرتها، أي قسوة يكون المتفرّج قد أتاها بتعاطفه مع “جافير” وصورته البشعة تتوضّح فجأة، فهو يشك في خيانة “نورا” له رغم تضحياتها الجسام، ويسمح لنفسه بالمقابل بأن يبتزّ العاملة البسيطة جنسيا، ويشوه سمعة “أورس” بين زملائه باتهاماته الباطلة ويدفعه إلى الانتحار.

أشد ما يحاول المخرج أن يتحكّم في مشاعرنا ويستدرجنا عبرها لنقاسمه أفكاره وتصوّراته، فبقدر ما كنّا نتعاطف مع “جافير”، ها نحن نحنق عليه وعلى أمثاله من المهاجرين، وقد غدونا من ضحاياه، وربما رأينا في المخرج نموذجا للمهاجر المندمج مع ثقافة البلد المضيف، وقد أضحى من مواطنيه وفاعليه الثقافيين.

جافير في قاعة مُكتظة تنقل الشعور بالاختناق للمتفرج في فضاء يشبه المتاهة التي توحي بالتيه والضياع

 

عصف التيه.. صناعة المتاهة البصرية لتقمص دور البطل

رغم بساطة الأحداث وخطيتها فقد جعلت النهاية المفاجئة -التي تعصف بتوقعات المتفرّج وتقلبها رأسا على عقب- من الفيلم متاهة حقيقية عمل المخرج على تشكيلها بصريا، فقد بدا حريصا على تجويد لغته السينمائية، والتعبير بالصورة المبتكرة بدل التعويل على ثرثرة الحوارات الطويلة، فكان يحشر “جافير” في قاعات مكتظة تنقل الشعور بالاختناق إلى المتفرّج، أو يجعل الكاميرا تقترب منه وهو يتوغل في الممرات الضيقة حين تظل الخلفية فارغة، فإذا الفضاء وقد غدا أشبه بالمتاهة، مما يدعو المتفرّج إلى الانغماس في حالة التيه والضياع وهو يتأول الأحداث على غير ما ستكشف لنا النهاية.

يذكرنا هذا على نحو ما بالفيلم الرائع “دوار” (Vertigo)، فقد جعل المخرج “ألفريد هيتشكوك” كل ما في الفيلم يبعث على الدوار، وذلك لينقل معاناة شخصية “سكوتي” منه بعد موت أحد زملائه وهو يحاول إنقاذ حياته.

ويكشف “مورينا” أنه واع تماما بهذه الاختيارات الجمالية، حيث يقول: “أردت المناوبة بين الغرف الخالية تماما والغرف المكتظة، وكان التصوير في الممرات مهما جدا للإيحاء بصورة المتاهة، لقد اشتغلت بطريقة معتبرة مع مدير التصوير “كريستيان غولدباك” لخلق هذه التباينات الممكنة”، فكانت الصورة تبعث على الاختناق، وتُجسّد الشعور بالضيق الذي تعيشه الشخصية، وتحث المتفرّج على تقمص حالتها، وتقاسم مشاعر الاضطهاد معها، تمهيدا لإدانتها عند تجلي الحقيقة في النهاية.

 

 

رفض المهاجر السوري.. انقلاب الموقف الشعبي في ألمانيا

يُعيد الفيلم طرح العلاقة بين الألمان والأجانب من زاوية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مواقف الألمان المتحفظين من استقبال بلادهم للأجانب، فما فتئت الدراسات تؤكد أن المجتمع الألماني غدا من أكثر الشعوب الأوروبية معاداة لموجات الهجرة هذه، حتى أن رئيسة الدائرة الأوروبية لمراقبة العنصرية والمنظمات المعادية للأجانب بالاتحاد الأوروبي صرّحت أن نصف هذا المجتمع تقريبا لا يؤيد هجرة الأجانب إلى بلاده، وأن نحو ثلثيه لا يؤيدون وجود أقليات دينية تعيش بينهم، وكشفت دراسة أجرتها جامعة لايبزيغ أن الألمان باتوا يشعرون بأنهم أجانب في بلدهم الأم “بسبب وجود المسلمين”.

ورغم أنّ الفيلم يطرح حكاية كوسوفي يتعسّر عليه الاندماج في المجتمع الألماني، فإن السياق التاريخي يوجه البوصلة إلى اللاجئين السوريين أساسا، فهم من يمثل آخر موجات اللجوء إلى ألمانيا، بسبب الحرب الأهلية في بلادهم، ويصل عددهم اليوم إلى نحو 800 ألف نسمة.

وحول استفادة اللاجئين السوريين من الدعم الحكومي ومن “أموال دافعي الضرائب” يُثار لغط كثير، وقد يعتقد القارئ أن استدعاءنا لصورة المهاجرين السوريين محض تأويل أو مجرد تخمين، غير أنّ المخرج “فيسار مورينا” نفسه يؤكد هذا المذهب في القراءة في حواره المذكور أعلاه، حيث يقول: في البداية، وفي سنة 2015 كنّا مقتنعين بضرورة مساعدة اللاجئين، وكنا نشعر بالارتياح لهذا الاختيار، ثم في 2016 تغيّر كل شيء جذريا، فالاعتداءات على النساء عشية تلك السنة من قبل الرجال العرب حوّلت الرأي العام، وقد تأثر بالإعلام والجو السياسي إلى شعور معاد، وفي فيلم “المنفى” حاولت أن أصور الشعور بأن يكون المرء سجين وجهة نظره الشخصية، مما يعمينا عن رؤية باقي المشهد.

 

 

منفى الذات.. دعوة للنفاذ في ذهن البطل

يبدو المخرج أكثر تفهما لامتعاض الألمان من موجات اللجوء وما تكلّفهم من الإزعاج، ويعتبرها حركة ارتدادية معقولة نتيجة لخيبة فشل اللاجئين في تحدي الانسجام مع الثقافة الألمانية، فقد كان يلحّ على هذه الفكرة الرئيسية فنيا، فالعنوان “منفى” لا يتحدث عن منفي يعيش غربة قسرية عن وطنه، فبإمكان “جافير” العودة إلى كوسوفو والعمل هناك متى شاء، وقد حاول إقناع زوجته بهذه الفكرة بالفعل، وعليه يغدو المنفى مجرد حالة نفسية وذهنية يغوص فيها هذا الأجنبي، فتحول بينه وبين محيطه.

وهي الفكرة نفسها التي عليها مدار الملصق الدعائي، فقد كان “جافير” يجلس مستندا بظهره إلى باب ضخم متطاول أشبه بطريق سريعة دون أن يحاول الدخول، وكأنّ اليأس يدفعه إلى الاعتقاد خطأ بأن باب المجتمع الألماني مغلق، وأنّ الطريق إليه مسدودة، والألوان الصفراء -التي ترمز غالبا إلى المشاعر السلبية كالكراهية أو الغيرة- تغلب على الملصق، وتوشح كتابة “منفى”، لكن ما مصدرها؟

هنا يجيبنا المشهد الأول الذي يرد في شكل لقطة مصاحبة تتحرك فيها الكاميرا لتتابع مسار المشي الطويل لـ”جافير”، وتركز على صورة مُقرّبة تشمل رأسه وكتفيه، بحيث يكون المجال من حوله غائما لنحو دقيقة، ويكون مرفوقا بنقرات موسيقى بطيئة باعثة على التشنج.

والسؤال الذي يُطرح على المتفرّج عبر هذا التقطيع الفني هو فيم يفكر “جافير”؟

وبذلك يدعونا المخرج إلى النفاذ إلى ذهن الشخصية، فكل ما يقع من إساءات إنما يقع في رأسه وفي مخيلته، لا في العالم الخارجي، فقد أضحى هذا الرأس منفى إذن، وأضحى هذا المهاجر أسيرا لوجهة نظره الخاصة ولتقييمه الذاتي.