“النائمة دوفال”.. كوميديا فرنسية تفوح برائحة الشعر والمسرح

حميد بن عمرة

في قرية تلامس نهر المُوز قريبة من الحدود الفرنسية البلجيكية يعيش “بازيل” أمين مخزن في معمل للحديد مع زوجته “روز” العاطلة عن العمل. تعود الجميلة “ماريز دوفال” ابنة صاحب مقهى القرية خائبة الأمل من باريس، وذلك بعد أن تحطم حلمها في التمثيل.

أما جار “بازيل” فهو صحفي في جريدة محلية وكاتب يبحث عن موضوع نادر يتحول إلى شاهد على حياة تبدو هادئة مثل النهر، لكن سرعان ما تتداعى الأحداث فيها وتجرّ الجميع في اتجاه واحد.

إنها سينما مستقلة لم تكتب حسب السوق الفرنسية، بل من منظور معارض لتيار جارف تتحكم فيه نخبة تمطر وتشمس على من تشاء، فالمخرج “مانويل سانشيز” يعرف النشاط النقابي، ويعرف الصراع بين رأس المال وحقوق المواطن. كتابته هزلية لكنها بعيدة عن الكوميديا الكلاسيكية التي حُبكت بأسلوب ساخر يندد ببؤس يومي باطني.

لا تمثل ورشة العمل بالفيلم العرق اليومي للطبقة الكادحة فقط، بل تتحول إلى مسرح عندما توظف الممثلة “ماريز” كعاملة يدوية يتكلف “بازيل” بتلقينها أسرار المهنة، فيبدو حضورها كنسيم يقلل من صدى المطرقة ولهيب التلحيم في المستودع.

 

صراعات “بازيل” وزوجته.. نافذة مفتوحة على الصحفي الجار

يعاني العامل” بازيل” من زوجة تغرق في انهيار عصبي وتعامله بقسوة لا يقابلها بالمثل، بل يحاول تجنب سهامها عندما تقول له بعد عودته من المصنع: “اذهب واغتسل، إنك تفوح بالصدأ”. فالفقر أكثر الأسباب فتكا بالناس، وأول سبب في الطلاق وفي جرائم القتل العائلية، أضف إليه إدمانا على الخمر، فإنك تخلق مجرما محتملا في كل بيت. وتعتبر شخصية الممثلة تلميحا لحياة المخرج الذي مارس مهنا يدوية، فدورها نوع من التكريم لليد العاملة اليومية.

تطل نافذة الصحفي على بيت “بازيل”، فيتحول إلى مراقب لحياة جيرانه رغما عنه. هل يريد المخرج بهذا الموضوع مضاهاة “هتشكوك” في فيلمه “نافذة على الساحة”، أم أن هذا التلصص حتمي في عصر كل وسائل الإعلام فيه مصممة ومتجهة نحو هذا الهدف؟

تحاول “ماريز” الاندماج في جمعية مسرحية محلية بعيدة عن نجومية النشاط الباريسي، بينما يتحول مكتب الصحفي ببيته إلى حانة يلتقي فيها يوميا مع البطل لمتابعة مباريات الكرة والتنظير في شؤون الحياة اليومية، فهل يستغل الكاتب جاره في كتابة يوميات واقعية، أم أنه يجعل من وحدته وعاء لتشاؤم جاره؟

يغطي الصحفي أحداث المرور ومواضيع اجتماعية عابرة بالقرية الصغيرة، كما يخصص زمنا لتصنيع بيرة محلية يملك سر وصفتها. ينقلب الفيلم في منتصف السرد عندما يبوح البطل بعلاقة مع الممثلة “ماريز” يستعمل فيها كلمات لا نعرف إن كان يقص بها هاجسا خياليا عابرا، أم كابوسا بعد اغتصاب لم يكن مدبرا.

يتصنع السيناريو حالة غيرة زوجته ودخولها في هيستيريا غير مبررة عندما تلتقي بالشارع صدفة بالجميلة “ماريز”، فهل كتب المشهد لإبعادنا عن شكوك زرع “بازيل” بذورها بنفسه؟ تختفي الممثلة من تحضيرات المسرحية ليختفي النور الذي أتت به من أول ظهور لها ويعود الفيلم إلى لونه الداكن.

الممثل “دومينيك بينو” بدور “بازيل” الذي يعمل أمين مخزن في معمل للحديد في قرية قريبة من الحدود الفرنسية البلجيكية

 

تذكرة ما قبل الإنتاج.. مساهمات فردية لصناعة السينما القصيرة

أنتج الفيلم بشكل اشتراكي، فقد دفع الناس مبلغ التذكرة قبل أن ينجز الفيلم، وهي طريقة تستعمل في إصدار الكتب كثيرا بفرنسا. المخرج له أفلام قصيرة عديدة؛ الشيء الذي عوده على استعمال ما توفر وليس ما يمكن توفيره.

تنتج الأفلام القصيرة بفرنسا غالبا دون ميزانية، وتعتمد على مساهمات فردية. إنها ثقافة تستقطب حتى كبار النجوم الفرنسيين الذين لا يترددون في الظهور في أفلام المخرجين الشباب، والدعم الرسمي لا يساند حتما فيلما يساري التوجه يطعن في النظام السياسي بصراحة وفصاحة مباشرة، لكن القانون لا يستطيع منع فيلم لمجرد أنه لا يصفق للسياسة الداخلية الفرنسية.

إنه أمر مستحيل بالوطن العربي الذي لا يقبل أي نقد مهما كانت نيته الموضوعية، لماذا بالسينما العربية المقص حاد لا يعترف لا بمنهج النقد الذاتي ولا بكاريكاتور بهلواني يسخر من الواقع، متى نتعلم الضحك من أنفسنا دون أن نجد في هذا شتما وتأنيبا للذات، هل السينما هي أقرب وسيلة لغرس بذرة التفتح على الرأي المخالف؟

 

“الأحذية الحمراء”.. صخب الواقع الفرنسي

يعطي “مانويل سانشيز” زمنا كبيرا للورشة والمعمل، حيث يصور صهر الفولاذ ويدوية الحياة العملية اليومية للطبقة الكادحة، كما يتفرغ بزمن مماثل للكتب الفائضة عند الصحفي الذي لم تسلم حتى قاعة الحمام عنده من تكدس الكتب.

اقتبس السيناريو من كتاب “الأحذية الحمراء” من تأليف “فرانتز بارتولي” الفرنسي الذي اكتشف مثل المخرج عرق ورشات معمل لتصنيع الورق في سن التاسعة عشر.

يتربع كاتب القصة على أكثر من خمسين رواية، وقد حظي عدد كبير منها بمدح النقاد الفرنسيين. يلخص “فرانتز بارتولي” مساره كما يلي: أنا ابن بلد بناه صمت تراص الهضاب فيه الواحدة بعد الأخرى، شبابي احترق وليس لي إلا ذكريات الصيف.

عندما تلامس الرواية الواقع يتلاحم الخيال بيوميات العمال ويقترب من هواجس الحياة السرية لمجتمع لا نعرف عنه إلا صور البطاقات البريدية، لأن فرنسا التي يحلم بها مهاجرو زوارق الموت لا وجود لها إلا في أفلام “ألان ديلون”، أما الحياة الاجتماعية الفرنسية البعيدة عن مدن المتاحف وحفلات عارضات الأزياء فإنها أكثر بؤسا من الحياة في البلاد العربية.

فرنسا التي تبدو مشرقة ومنيرة من الضفة المقابلة ليست في متناول العامل الفرنسي البسيط، وإنما هي متاحة لرأس المال الزاحف باستمرار وبين أيدي اقتصاد فقاعات البورصة، لذا فإن الوهج المنبعث من فرن المعمل بالفيلم يلمح إلى وهج المشاعر والشعر اليومي، وليس فقط تصويرا لمعاناة العمال.

“بازيل” يجلس مع الممثل “باسكال تيمو” الذي قام بدور الصحفي الذي تطلّ نافذته على منزل “بازيل”

 

“سينما الشعر”.. تشريح في عبثية الزمن الفارغ

الصحفي بالفيلم هو الراوي والشاهد الأول على حياة مدينته والمدون والحافظ ليومياتها، وليست سينما الشعر بالضرورة تصويرا لحدائق الأقحوان وفساتين العرائس وخرير المياه، وإنما هي تشريح لقلوب الشخصيات وتعرية لأجسادهم بحياء واحترام، وسينما الشعر التي يقدمها “مانويل سانشيز” قافيتها مطرقة المعمل ووزن بحرها طويل ممتد حسب نهر الموز.

ليس الشعر بالسينما دوما غناء ورقص، فقد يكون في عبثية الزمن الفارغ، وكيف يجعل المخرج من يوميات معمل في قرية منسية في عمق أوروبا قصة مثيرة للفضول.

يمتد نهر الموز الضيق على 950 كلم من فرنسا مصدره الأساسي ليتجه عبر بلجيكا وهولندا كي يصب في بحر الشمال، ويعتبر هذا النهر من أقدم الأنهار على الأرض، وتربط الدول المذكورة اتفاقية مفادها حمايته واقتسام موارده وعدم التفرد بامتيازاته.

أما في البلاد الأفريقية فإن النيل سيكون حتما سبب حرب بين مصر وإثيوبيا التي أنجزت سدا يقلص من سيل الماء بشكل خطير على الحياة الزراعية المصرية. لماذا الأوربيون يجدون أرضية خصبة لاتفاق دون أن يتضرر جانب أو آخر؟

“النائمة دوفال”.. وردة جديدة في ألبوم سينما الأنهار

يمكن مقارنة فيلم “النائمة دوفال” بفيلم “عروس النيل” (1963) من بطولة لبنى عبد العزيز في دور “هاميس” ابنة “آتون إله الشمس” ورشدي أباظة في دور عالم آثار، وهو من إخراج فطين عبد الوهاب، ويمكن تسمية هذا النوع بسينما الأنهار التي نجد منها عددا كبيرا من الأفلام التي تبعثرت عبر التاريخ والقارات.

هناك فيلم “ابن الدنوب” (1934) الذي يروي أيضا قصة غيرة امرأة تقاوم انجذاب زوجها لغيرها، وفيلم “النهر” للمخرج الفرنسي “جان رونوار” الذي يعتبره النقاد الفرنسيون أهم مخرج عندهم، بل من كبار المخرجين في العالم.

وقد عانى المخرج الفرنسي كثيرا لتمويل هذا الفيلم الذي تدور أحداثه على ضفاف نهر الغانج الهندي، وقد طلب المنتجون من المخرج الفرنسي أن يكون بالفيلم رماح ووحوش ونمر ورقص.

لقطة عامة لنهر المُوز وقريته القريبة من الحدود الفرنسية البلجيكية

 

نهر الموز.. اقتباسات ذات إيحاءات مختلفة

بفيلم “النائمة دوفال” هناك كلب اختفى اسمه “فلوبيلر” -كناية للكاتب الفرنسي الشهير-، وليس هناك وحوش سوى وحشية مدير المعمل الذي يقرر غلق المعمل رغم الأرباح السنوية، فيقرر العمال إضرابا احتجاجيا لا ينضم إليه “بازيل” لغرقه في ديون زوجته التي احتال عليها مدرس البيانو.

هناك “ماريز” التي تستحم في نهر الموز وتعانق أعماقه، لكنها لم تكن تعرف أنها ستتنفس تحت الماء وستغرق. عندما يقول ” هيراكليتس” في القرن السادس:” أنا لا أستحم في ماء نفس النهر مرتين” فإنه يؤكد على التغير المستمر للحياة.

تتكرر لقطات نهر المُوز عندما يتنزه الصحفي بحثا عن كلبه الذي اختار أن يغيب تزامنا مع الجميلة “ماريز”، فيستغل المخرج هذه الحجة للتوقف عند صياد عجوز يترقب صنارته ليضع في فمه نقدا لاذعا للشرطة الفرنسية حيث يقول العجوز: لم أر شيئا منذ الصباح، لكن إذا ذهبت للشرطة فقد يبحثون عن كلبك بين سكرتين و لا تتوقع منهم أن يقلعوا المروحية من أجله.

يعود المخرج بمشاهد أخرى إلى نفس المكان عندما تنادي أم المفقودة ابنتها متوسلة النهر أن يأتيها بخبر عنها، ويرتبط النهر دوما بفقدان الآخر لأنه يستعمل المكان في حادث مرور يغطيه الصحفي لجريدته، وهي ذريعة لربط شخصيته بمحقق سيعطيه حصرية وفاة الممثلة لاحقا.

لا توجد بالفيلم شخصية بوليسية هامة نتابع من خلالها مستجدات البحث، لكننا نعرف من تحريات الصحفي ومصادره المقربة إلى أين وصل التحقيق.

 

“النائمة دوفال”.. حل عقدة الفيلم بقصيدة شعرية

عندما تغيب الممثلة يذكر اسم عائلتها أكثر من لقبها الشخصي في حوارات الجيران وبمقهى أبيها الذي يحمل بدوره اسم “دوفال”. إن هذا الاختيار له دلالته المرتبطة بعنوان الفيلم المقتبس هو الآخر من قصيدة للشاعر “أرتور رامبو” التي هي  بعنوان” النائم دوفال”.

كتب الشاعر الفرنسي هذه القصيدة عام 1870 وهو ابن 16 عاما بعد أن كان شاهدا على وفاة جندي في معركة سيدان التي منيت فرنسا فيها بهزيمة يوم 3 سبتمبر/أيلول من نفس العام.

إن علاقة المخرج بالشاعر والكاتب يعبر عن هوس باطني وبحث مستمر عن هوية شعرية مبكرة. تصف أبيات قصيدة “رامبو” موت جندي هرب من الصفوف وأعدم، ويأتي في أهمها ما يلي:

“في مقتبل العمر عسكري

فم مفتوح ورأس عار

في برودة النهر عنق تدلى كالورد

ينام محمولا في خضرة النهر

شاحب مفترش يمطر النور عليه

مناخيره لا تشم عبق الورد

ينام ويده على قلبه في الشمس

هادئ، ثقبان حمراوان على جنبه الأيمن”

أي أن اختفاء الممثلة ومعرفة القصيدة يسمح بتكهن مقتلها، لذا بالسينما وبالنقد لا يمكن الاكتفاء بالمعطيات المعروضة وإنما البحث عما توحي إليه لفهم نية الفيلم الباطنية.

المخرج الفرنسي “مانويل سانشيز” الذي قدّم الفيلم بطريقة كوميدية تسخر من الواقع

 

“مانويل سانشيز”.. عبقرية صناعة الحبكة السينمائية

تقود السينما والتاريخ المشاهد والقارئ إلى استفهامات تفتح عنده شهية الفضول والبحث حتى لا تتحول الشاشة والنقد إلى مواد استهلاكية عابرة يكتفي المتتبع بقراءة عناوينها والتعليق عليها دون اكتشاف أسرارها.

يحترم “مانويل سانشيز” جمهوره لأنه لا يريد صيته بتقديم الملعقة إلى الفم بل يعطيه الفرصة لتحضير الوجيه بنفسه، فالسينما الكسولة تشبه الراديو المصور فتشجع المشاهد على كسله.

ليست سينما “مانويل سانشيز” مغرية لا بملصقها ولا بتجارب أدائها ولا حتى بموضوعها، لكن عندما تفتح الفيلم ولا تحاول استباق معطياته وتتركه يقودك نحو مجرى وفياضات شخصياته تشعر حينئذ أن الفيلم مركب بشكل دقيق وأن نيته غير مرتجلة، وأن الممثلين في الفيلم يتعاملون مع نص كتبت كل كلمة تطفو على سطحه حسب وزنها.

كل شيء مرتبط ومتداخل عند “مانويل سانشيز” الذي لم يكتفِ بتصوير فيلم أرضيته السرية وترك أحداثه الدرامية تسيل وتتدفق كلها في مصب الشاعر الفرنسي “رامبو”، بل وأسس جائزة سينمائية مستقلة سماها (Les Rimbaud du Cinéma) عام 2019 كرد على جوائز “السيزار” الفرنسية التي تعد نظيرة لجوائز الأوسكار الأمريكية.

الهدف الأساسي لهذه الجائزة هو تتويج السينما الفقيرة التي تنتج خارج الصناعة السينمائية الكلاسيكية بعيدا عن الشبكات الإعلامية، بل من خلال تضحيات شخصية. إنها طريقة لإعلاء سينمائيين لا يغردون مع السرب.

الكوميديا الفرنسية مثل الإيطالية تتسم بالسخرية من الحياة اليومية فيضحك المشاهد فيها من واقعه المر. إنها سينما التنفيس التي لا تثقل السرد بالمشاهد الجدية، غير أن هذا السرد القريب من الكاريكاتور في صيغته النقدية اللاذعة يسهل استيعابه لاستعماله مفردات حادة، لكنها لا تضخم ولا تبالغ في التعبير عن الأشياء البسيطة.

الجميلة “ماريز دوفال” ابنة صاحب مقهى القرية التي عادت خائبة الأمل من باريس بعد أن تحطم حلمها في التمثيل

 

“ماريز”.. انجذاب مختل وولع بالمستحيل

تصل الممثلة “ماريز” متأخرة لتدريبات المسرحية التي تحضرها جمعية القرية، ولا تعطي أذنا للوم المخرج الذي يظهر غرورا غير مبرر. تؤدي “ماريز” مشهد اغتصاب ينبئ بما سيحدث لها، فهل يعيد “مانويل سانشيز” إطلاق صفارة الإنذار لأنه يعتقد أن المشاهد لم يربط بين عنوان الفيلم ومضمون قصيدة “رامبو” والاسم العائلي للممثلة “دوفال”؟

هناك تصادم بين الحضور المشرق للممثلة بالمعمل وبين رفيقات العمل المسنات اللاتي أسدل الدهر عليهن كل نور، فتتحول “ماريز” فجأة إلى أيقونة يولع بها “بازيل” ويرتبك في كل حركاته أمامها مثل المراهق.

تشبه هذه العلاقة قصة “البشع والجميلة” للكاتب الفرنسي “فيكتور هوغو” التي تدور أحداثها بالكنيسة الباريسية نوتردام. هل استعمال لقب “ماريز” يضيف إلى شخصية الممثلة طابعا أيقونيا دينيا يذكر بالعذراء مريم؟

تستقطب قصص الحب في الشعر المشاهد والقارئ لكونها مستحيلة، وليس لأن الأبطال يختلفون عن العامة. لماذا نولع بالمستحيل أكثر مما هو في متناولنا، وهل بهذا الانجذاب غير المنطقي نفقد غالبا ما يستحق فعلا الوقوف عنده من أجل وهم وسراب؟

 

كل ممنوع مرغوب.. سراب يدفع للجريمة

الممنوع المرغوب تعامل صبياني لا نفقد تطبيقاته البدائية فيبقى راسخا في جدول تفكيرنا عندما نتقدم في السن، فهل إشراق “ماريز” في حياة الكادح “بازيل” سراب ممنوع يدفع به إلى الجريمة؟

الاغتصاب دوما ناجم عن حب ورغبة مفرطة يعرف صاحبها أن الآخر ليس في متناوله. ما الفرق بين نية الاغتصاب والقيام به فعلا؟ العين تزني وغض البصر يجنب ضعيف النفس الغوص في تيار جارف.

يفقد السيناريو جرة ويقتفي جرة أخرى فيقترب من الأسلوب البوليسي دون التمكن من خصوصيات هذا النوع، فيستعمل الفيلم أدوات التحقيق البوليسي في خلق مشاهد يشتد فيها التصادم بين شخصيات مختلفة مع الضحية حتى تختفي الورقة القاتلة فعلا، لذا فقد تكون الزوجة هي القاتلة وقد يكون الكاتب هو من تورط في قتلها، وقد يكون “بازيل” نفسه.

عندما يبوح “بازيل” بعلاقة خاطفة مع الممثلة فإننا لا نعرف إن كان من نسيج الوهم أم حقيقة مبالغ فيها أو أن السكر هو الراوي الحقيقي لما يقول، أو أنها انتحرت فعلا لفشلها في التمثيل بباريس، لكن هذا الاحتمال لم يحضر له السيناريو أرضية كافية ومقنعة كي نبتلع صنارته.

اللوحة الأصلية للفنان البريطاني “جون افريت ميلاس” الذي رسم شخصية ملحمة “هاملت”، والفيلم هنا يُحاكي هذه اللوحة بجثة “ماريز”

 

جثة “ماريز”.. اقتباس دور الميتة في ملحمة شكسبير

تعثر الشرطة على جثة “ماريز” بنهر الموز، فيصورها المخرج في وضع شكسبيري ناسخا بشكل متطابق لوحة الفنان البريطاني “جون افريت ميلاس” عندما رسم عام 1851 “أوفيليا” شخصية ملحمة “هاملت”.

تبدو “ماريز” نائمة كأنها تمثل دور الميتة عند شكسبير وفي اللوحة لا يعرف القارئ والمشاهد إن كانت “أوفيليا ” تنام على الماء أم أنها ميتة، فالموت هجرة أبدية لا يعود منها أي راحل.

هل يربط السيناريو شخصية “أوفيليا” وشخصية الجندي المعدم في قصيدة “رامبو” بشخصية “ماريز” ليجعل منها أيقونة شعرية ومسرحية متعددة الوجوه، وهل الشاعر الفرنسي “رامبو” استلهم قصيدته من مسرحية “هاملت” وأنه لم يعش إطلاقا حادث الإعدام المزعوم، وهل المخرج “مانويل سانشيز” يضع نفسه مكان “رامبو” أو “شكسبير” لكون المسرح جزءا من الفيلم؟

يتجنب الفيلم مشهد التشريح لمعرفة سبب الموت، لكن النقد يشرح مكانه في بعض الجوانب ويترك البعض الآخر للمشاهد، وهل ترمز الممثلة “ماريز” إلى المدينة الميتة التي ترفض البؤس المتراكم عليها من جراء إغلاق المصانع كما يسميه الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار” في “أوفيلية المدينة “؟

عندما يأتي الصحفي بالخبر إلى أم “ماريز” يؤكد لها أنها لم تغتصب وأن بكارتها لم تنتهك، وهذا الإلحاح على هذه النقطة بالذات يضيف طابعا عذريا مقدسا، فهل يحمل الفيلم في جوفه رسالة دينية خفية؟

يستعمل الصحفي في رثاء المفقودة قصيدة “آرثر رامبو” لتحويل معناها وإسقاط محتواها على الراحلة، فتتحول الضحية إلى أيقونة شعرية. يصور “مانويل سانشيز” جثة “ماريز” ممتدة في نهر ويصر على جمالها كأنها محنطة مثل جندي قصيدة “رامبو”.

تضاهي اللقطة في ألوانها وتركيبة إطارها اللوحة الزيتية لتقدم لنا سينما لا تعتمد على التقاط الصور فقط بل تتعدى ميكانيزمات الكاميرا لتدخلنا إلى المتحف.

“روز” زوجة “بازيل”، والتي ظهرت بصورة الشخصية الهستيرية المعرضة للسخرية

 

صورة الزوجة في الفيلم.. نقد مبطن للكنيسة

لماذا يجعل المخرج من زوجة “بازيل” شخصية هستيرية معرضة للسخرية تُخدع من طرف أستاذ بيانو محتال يستعمل كل مدخول البيت في المطاعم والتنزه بحجة إخراجها من الانهيار العصبي؟ هل في هذا نية لا شعورية في الرواية وفي السيناريو لتقديم الزوجة بوجه ساذج ينفر منه المشاهد من أول لقطة، أم هو نقد سري للكنيسة لكون أستاذ البيانو كان رجل دين قبل مهنته الجديدة؟

كيف تتقمص “مارينا تومي” دورا بهذه البشاعة حتى نشعر بأنها شخصية واقعية لا مجرد دور سينمائي، وقد نالت بهذا الدور عدة جوائز بمهرجانات كبرى، فهل الهستيريا بالسينما والمسرح أداء منفعل يحتاج إلى مهارة شخصية أم أن الأدوار الصامتة هي الأصعب تأدية؟

لماذا بالسينما العربية العويل والنواح يدرج في مرتبة التمثيل العالي الجودة ولا نعير أي اهتمام للحضور الخافت، هل الممثل يحتاج إلى كل هذا الفيض من الانفعالات كي يصل إلى مصداقية تجعل المشاهد يثق بمشاعره وبالتالي يتقمص شخصيته؟

“اختيار الممثل.. إشكالية توزيع الأدوار

الفيلم الناجح هو الذي يريد مشاهده أن يعيش دور الممثلين مكانهم. هل انتقاء الممثل المناسب للدور المناسب مسؤولية المخرج أم أن مدير تجارب الأداء هو صاحب الرؤية التي بها توزع الأدوار بشكل دقيق، ما نسبة الصحبة والعشيرة والقبيلة والانتماء العرقي في إهداء الأدوار أو حرمان بعض الممثلين منها في السينما العربية؟

في فيلم “النائمة دوفال” تتعامل “دلفين دوبارديو” التي تمسك بشخصية “ماريز” و تقدمها أمام الكاميرا برقة ورشاقة سرية كأنها لا تبذل أي جهد. أين تبدأ تعليمات المخرج وأين ينتهي اجتهاد الممثل، هل المخرج ديكتاتور يأمر والممثل دمية تنفذ كما يقر به “هتشكوك”؟

أم أن ديكتاتورية الممثل عندما يكون نجما هي التي تفرض حتى اختيار التأطير؟ وقد يتعدى ذلك إلى طرد المخرج من التصوير كما حدث في فيلم “سبارتاكوس” حيث غير النجم “كيرك دوغلاس” المخرج الكبير “أنتوني مان”، واستبدله بمخرج غير معروف في ذلك الزمن وهو “ستانلي كوبريك”.

سينما المؤلف بعيدة عن تأثير شباك التذاكر في البنية التحتية لفريق العمل لأن كل شخص أمام أو خلف الكاميرا فيها مؤلف بدوره ويسعى مثل كل الفريق إلى إتمام العمل. هل إنجاز الفيلم أهم من تسويقه، وهل السينما ثقافة وليست تجارة، أم أن الجانب التجاري هو الذي يسمح بتواصل إنجاز الأفلام؟ بفرنسا هناك ضرائب على كل تذكرة تقطع لفيلم تجاري تستعمل في دعم سينما المؤلف.

ويعتبر هذا استثناء فرنسيا خاصا يسمح بالتصدي للغزو الأمريكي للقاعات الفرنسية. لماذا لا يوجد بالوطن العربي مفهوم شباك التذاكر على النمط الفرنسي؟ تستثنى من ذلك مصر التي تحافظ بعناء على شبكة التوزيع فإن باقي البلاد العربية تحتاج إلى سياسة عاجلة في استرجاع الشاشات المخطوفة. وتعطي سياسة المغرب السينمائية الحالية للفيلم المغربي فضاء يستحق التنويه ويستحسن الاقتداء به.

 

تداخل الأحداث والشخصيات.. ألغام سردية في سلسلة محكمة

ما يهمنا في سيناريو “النائمة دوفال” هو تداخل الشخصيات والأحداث لتتحول إلى كومة متناسخة من الوجوه، يتعذر عزل الطيب فيها من الخبيث وكيف يبني “مانويل سانشيز” حبكة تبدو بسيطة في ملخصها الدعائي المصحوب بالفيلم، وكيف يتوصل إلى طرز حوارات منسوجة بخيوط دقيقة مع كاتبة السيناريو “موريال سانشيز حرار”.

كل الشخصيات بالفيلم تنتظر حياة جديدة لا تحدث مما يبرر هيامهم في دوامة وروتين متكرر. إن مهنة أمين المخزن تحمل في مفرداتها الفرنسية أصلا عربيا، لأن كلمة (Magazine) تعني مخزن، أي أنه قريب إلى مهنة الصحفي أو من يمارس مهنة تعتبر الوجه الخفي لمهنة جاره، هل كان هذا مقصودا أم أننا نصل إلى هذه القراءة التسلسلية من خلال تداعي الرموز؟

عندما يحذر “بازيل” الممثلة “ماريز” أن تتفقد دائما محتوى العلب حتى تتأكد من تطابق المعلن بالعلبة وما هو موجود فعلا بها، فإنه يغتنم الفرصة في سياق الثرثرة لتسريب كونه يساريا، وأنه لا يمكن أن يسرق أي شيء من المخزن.

كل هذه الألغام السرية الخاطفة قد تفوت المشاهد العادي، لكن تبقى المفاهيم لا شعوريا لتغرس في ذهنيته فكرا سليما يسعى الفيلم لتقديمها بنزاهة عالية.

الممثل الفرنسي “دومينيك بينو” الذي تلبس شخصية “بازيل” في الفيلم بانهماك

 

“دومينيك بينو”.. تاريخ طويل ولامع في السينما الفرنسية

لقد استطاع “دومينيك بينو” أن يتلبس شخصية “بازيل” بانهماك، إنه ممثل يقدس مهنته ويحمل في حقيبته عددا كبيرا من الأفلام والمسرحيات.

بدأ يظهر وجهه المميز مع “جون جاك بينكس “عام 1981 في فيلم “ديفا”، ومثل في كل أفلام “جان بيير جونيه “بين أول فيلم قصير له “فوتيز”، وفيلم “خطوبة يوم أحد طويل”، كما مثّل للجزائري عبد الكريم بهلول في فيلم “شاي بالنعناع” عام 1984، وما زال جدول عمله مبرمجا لشهور مسبقا لجديته وسهولة العمل بجانبه.

يحتاج المشاهد العربي لمتابعة السينما الفرنسية لقدمها، ولأنها تحمل أسلوبا نقديا للمجتمع يختلف جذريا عن قواعد اللعبة في السينما العربية، فالسينما العربية لا تحتاج إلى نسخ هذا الأسلوب وتقليده، بل استيعاب المفاهيم لاكتشاف طرق التفكير والتعامل مع الواقع عند المخرجين الفرنسيين.

بوستر فيلم “النائمة ديفال” الحائز على 43 جائزة من مهرجانات عالمية

 

“النائمة دوفال”.. 43 جائزة لسينما تطرق الواقع

نال فيلم “النائمة دوفال” 43 جائزة من مهرجانات عالمية، وهذا رغم انعدام لوبي دعائي يروج للفيلم بفرنسا وخارجها. يحضر “مانويل سانشيز” خمسة أفلام مقبلة كمخرج وبعضها كمنتج فقط.

التحضيرات المقبلة لحفل “جوائز رامبو السينما “متقدمة، حيث ستعقد بين (4 و7 ديسمبر/كانون الأول 2020) بمدينة “شارل فيل مازيار” مدينة الشاعر “رامبو”، وتخصص هذه الدورة ملفا خاصا حول السينما الأفريقية.

إن فيلم “النائمة دوفال” لا يمثل السينما الفرنسية المتشعبة الاتجاهات، وإنما هو قريب إلى سينما فقيرة تنجز بوسائل محدودة تعبر عن مقاومة ونضال يومي للمواطن العادي، لذا فإن “مانويل سانشيز” لا يقدم سينما استهلاكية مدة صلاحيتها مرتبطة بعدد المشاهدين، بل سينما نقابية بطلها ونجمها الأول هو العامل الكادح.

بدأ “مانويل سانشيز” السينما بالالتحاق بفريق عمل المونتيرة “مارتين باراكي”، التي كانت مسؤولة المونتاج الخاصة للمخرج الفرنسي “فرانسوا تريفو”، لذا يعرف “مانويل سانشيز” الفرق بين ما هو مصور وما هو غير ظاهر بالفيلم، ويفرق بين المعنى المقصود والمعنى الخفي، لكن ما يبقى خفيا دوما هو أن المخرج عامل يجهد كل يوم أكثر من غيره في التنقيب عن شخصيات فيلمه المقبل ويطرق أبواب المنتجين وأصحاب الدعم باستمرار، وليست لحظة السجادة الحمراء إلا وهما عابرا يدوم زمن الصور الملتقطة.