“بزوغ الإمبراطورية العثمانية”.. فتح القسطنطينية الذي غير وجه العالم

يُحاكي الوثائقي التركي “بزوغ الإمبراطورية العثمانية” (Rise of Empires: Ottoman) الأحداث التاريخية التي يتناولها بأسلوب يجمع فيه الدرامي بالوثائقي (دوكودراما)، ليضفي صنّاعه على الوقائع التاريخية بعدا دراميا مشوقا، من خلال مساهمة مؤرخين أتراك وأجانب وأساتذة جامعات وكُتّاب عملوا على تحليلها بروح أكاديمية رصينة، تسهل على المُشاهد فهم الأسباب التي تدفعهم لاعتبار لحظة فتح مدينة القسطنطينية نقطة الانطلاق الحقيقية لظهور إمبراطورية إسلامية جديدة، وأيضا كمنعطف تاريخي مهم سيغير وجه العالم لأكثر من ثلاثة قرون.

يقدم المساهمون في الفيلم أجوبة مدعومة بمصادر تاريخية موثوقة على السؤال التالي: لماذا يحيل أغلب المؤرخين الفضل الأكبر في ذلك الانتصار والانطلاق إلى السلطان محمد الثاني؟

تساوقا مع أجوبتهم، يكرس المسلسل الوثائقي -المعروض على شبكة نتفليكس- للسلطان حيزا كبيرا من زمنه (ما يقارب 260 دقيقة)، حيث يراجع من خلاله أحداثا دراماتيكية أثرت في تكوين شخصيته، إلى جانب تجسيده دراميا لشخصيات لعبت دورا في تحقيق ما كان يصبو إليه.

 

وفاة السلطان مراد.. عودة حاكم مانيسا إلى القصر

يعتمد الوثائقي أسلوب تداخل الأزمنة عند سرده لجوانب من التاريخ الشخصي للسلطان محمد الفاتح، بينما يأخذ بالتسلسل الزمني التصاعدي عند ملاحقته الأحداث التاريخية المرتبطة بالدولة العثمانية وصراعاتها قبل فتح القسطنطينية وخلالها.

يفتتح الفيلم مساره بلقطة يظهر فيها الأمير محمد حين كان حاكم مانيسا بإقليم أيجة، وقد أخذ الضجر منه مأخذه، فبدأ يتذمر من وجوده في الإقليم القصي شبه مُبعد عن الحكم، لكن وصول رسالة مستعجلة إليه تبلغه بموت والده السلطان مراد ستُغيّر ذلك الوضع، ليسرع الشاب الطموح (الممثل جيم يغيت أوزموغلو) لأخذ زمام المبادرة، قبل أن ينجح أقطاب الحاشية القديمة في تنصيب غيره سلطانا للدولة العثمانية.

الممثلة التركية الشهيرة توبا بويوكستون بدور مارا خاتون المستشارة المخلصة للسلطان الفاتح وزوجة أبيه

مارا خاتون.. مستشارة السلطان المخلصة وزوجة أبيه

في التسابق الدائر في الملاعب السياسية في القصر تظهر شخصيات جانبية تلعب دورا حاسما في ظهور الإمبراطورية العثمانية، أو حاولت منعها، ومن بينها كبير الوزراء خليل باشا (الممثل سليم بيرقدار)، إلى جانب زوجة والده مارا برانكوفيتش الملقبة بالسلطانة مارا، أو مارا خاتون (الممثلة التركية الشهيرة توبا بويوكستون) التي قامت بالعناية به ورعايته حال وصوله إلى القصر طفلا صغيرا، وستكون له بمثابة المستشار الشخصي حين يصبح شابا تُهدده المخاطر من كل صوب.

لا يتوقف الوثائقي طويلا عند شخصية والدته الحقيقية، فالسلطان الفاتح لا يتذكرها جيدا، لكنه لن ينسى دموعها المنهمرة لحظة توديعها له طفلا وهو في طريقه لقضاء بقية حياته بعيدا عنها في قصر أدرنة بأمر والده السلطان.

 

خليل باشا.. شوكة في حلق السلطان طفلا ويافعا

يجلس السلطان على كرسي الحكم في قصر أدرنة، ويقرر بفضل نصائح مارا خاتون أن يتخذ الدبلوماسية منهجا لحكمه، على الأقل في الفترة الأولى بعد تنصيبه، ليبعد بها الأخطار المحدقة به واحدة بعد الأخرى، ونتيجة لذلك يصبر السلطان على مناكدات وتدخلات خليل باشا في قراراته، رغم تذكره الدائم لمواقفه وقسوة تعامله معه يوم كان طفلا، وسعيه لحرمانه من الحكم بكل السبل وأخبثها.

ولعدم قدرتهم على إسقاطه مباشرة، حاول الرومان ابتزازه وإجباره على دفع الجزية من خلال التلويح له بقدرتهم على إشعال حروب داخلية، والتهديد بتحريك أعوانهم لأخذ زمام الحكم منه.

داخل القصر ينجح السلطان في تحييد خليل باشا بوصفه ممثلا للمحافظين والبيروقراطيين الراغبين في الحفاظ على علاقة جيدة مع القسطنطينية ضمانا لمصالحهم، لكنه مع ذلك لم يبادر لإبعاده رغم معارضته الدائمة له ووقوفه ضد مشاريعه.

هذا الوضع لم يدم طويلا، فبعد سنوات قليلة يقرر السلطان الشاب السيطرة على مضيق البوسفور وكل السفن المارة عبره، من خلال بنائه حصنا جديدا يقع في الطرف الآخر من مدينة القسطنطينية. وخلال أقل من خمسة أشهر أتم المشروع الذي أطلق عليه اسم “ناحرة الحلق”، واعتبره المحافظون بيان إعلان حرب ضد الإمبراطور الروماني قسطنطين الحادي عشر (الممثل توماسو باسيلي).

 

المدفع العملاق.. استعدادات العثمانيين والرومان للحرب

مع توارد أخبار حشد السلطان محمد جيشا بلغ تعداده حوالي 80 ألف جندي، والإعلان عن رغبته في غزو القسطنطينية ليحقق حلمه وما عجز عن تحقيقه أسلافه من قبل؛ تدخل العلاقة بين الرومان والعثمانيين مرحلة تاريخية تمهد لبزوغ إمبراطورية إسلامية جديدة.

يظهر في تلك اللحظة المهندس المَجري أوربان وابنه ياكوب معه، ويعرضان عليه مشروع بناء مدفع عملاق مقابل حصولهما على مبلغ كبير جدا، وقد وافق السلطان على العرض وشرعا بتنفيذه.

يتحدث المحللون والمؤرخون عن أهمية ذلك المشروع، وعظمة المدفع بالمقارنة مع الأسلحة المستخدمة في ذلك الوقت، بالمقابل كان لدى قسطنطين سلاح سري خاص اسمه “جيوفاني جوستنياني” (الممثل بيكان سوكولو). الجندي المرتزق النبيل، والقرصان مهاجم السفن المصرية بشكل خاص، والمدان من قِبل حكومة “جنوة”، المعروف بشجاعته، لكن أيضا بتخصصه بالدفاع عن المدن الحصينة، وقد عرض خدماته على الإمبراطور، فوعده بمنحه جزيرة ليمنوس حال إفشاله الهجوم العثماني.

خلال تلك الفترة كان الطرفان يخططان لحشد أكبر قدر من التأييد لهما، فالإمبراطور قسطنطين ينتظر تعزيزات البابا، والسلطان محمد يُعَوّل على تحييد جيوش المجريين والصرب.

الإمبراطور قسطنطين عند أسوار مدينة القسطنطينية قبل حصارها في عام 1453

حروب الصدمة والترويع.. القسطنطينية تحت الهجوم المدفعي

الميزة الأكبر حسب المؤرخين للجيش العثماني الذي بدأ بالتحرك لحصار القسطنطينية في عام 1453 تتمثل بمركزية قيادته، بعكس الجيش الروماني الذي كانت وحداته متعددة الولاءات. فقد شكل الإنكشاريون الأشداء نُخب وحدات الجيش العثماني، وكانوا موالين بالمطلق للسلطان.

قبل الهجوم على المدينة واقتحام أسوارها أطبق العثمانيون حصارا شديدا عليها، ومع مرور الوقت كانوا يبعثون برسائل تطلب من قادتها التراجع عن مواقفهم حفظا للدماء ورحمة للمدنيين العُزّل، وعقب كل رفض لمناشداتهم السلمية، يباشر العثمانيون بدكّ أسوار المدينة ليل نهار.

يصف المؤرخون المشاركون في وثائقي المخرج التركي “إمري شاهين” هجمات شهر أبريل/نيسان من عام 1453 بأنها من أكبر النقلات النوعية في تاريخ الحروب، فخلال قرون لم تتعرض أي مدينة مُحصّنة في العالم إلى هجوم بالمدافع كما تتعرض له القسطنطينية في تلك اللحظة. يقاربونها بأحد مبادئ الحروب الحديثة المُسمى “الصدمة والترويع”.

الممثل بيكان سوكولو بدور “جيوفاني جوستنياني” الجندي المرتزق النبيل الذي حاول إضعاف معنويات الجيش العثماني

مرتزقة الإمبراطور.. إضعاف معنويات الجيش العثماني

تكشف الهجمات المكثفة عن ذهنية عسكرية متوقدة يمتلكها السلطان محمد، وبرؤية إستراتيجية نادرة تعمل على إحداث تشتت نفسي وذهني في صفوف الخصم، وتنشر الرعب في أوصاله.

على الجانب الآخر يعرض المشاركون جانبا من قوة المرتزقة في الدفاع عن المدينة، حيث يتوقفون عند قرار جوستينياني بالخروج مع جنوده من خلف الأسوار، ومهاجمة الجيش العثماني بأسلوب مبتكر يعتمد على تشكيل وحدة من حملة الدروع على شكل مُدرّعة يمشي بقية الجنود خلفها.

وقد أضرّت تلك الأساليب بالجيش المُهاجِم، وخسر الكثير من قواته، كما اعتمدوا على خطة وضعها الجنوي بنفسه لبناء الأجزاء المتهدمة من الأسوار أثناء الحصار.

أضعفت إطالة أمد الحصار لأسابيع معنويات الجيش العثماني، فكان على قائده شحذ همم جنوده بخُطب حماسية يؤكد المؤرخون على قوتها، وتكشف مضامينها عن قدرة خطابية وبلاغية رائعة لديه.

الصعوبات اللوجستية كانت تعيق دخول الجيش المُحاصِر للمدينة، وتحديدا الخنادق المائية المُحيطة بالقسطنطينية

خنادق الماء.. “ادرس إخفاقات أبيك حين حاول غزو القسطنطينية”

كانت الصعوبات اللوجستية تعيق دخول الجيش المُحاصِر للمدينة، ومن أشدها صعوبة الخنادق المائية العميقة المحيطة بالقسطنطينية، فهذا النوع من الحواجز لم يعتد عليه الجيش الإنكشاري المكوّن عادة من رماة رماح وأسهم.

الخطر الآخر يتمثل في وصول الإمدادات الخارجية عن طريق البحر، والخوف من قدوم جيوش مُساندة للرومان من خارج أسوارها. ولمعرفة ما يُبيّته المترددون من قادة المجر والصرب؛ كلّف السلطان محمد مارا لتكون له عينا هناك في ولاية والدها الصربي، وقبل سفرها نصحته بالتالي: ادرس إخفاقات أبيك حين حاول غزو القسطنطينية، وحتى أولئك الذين سبقوه، فهزائمهم ربما تقدم لك درسا بليغا.

السلسلة الفولاذية الضخمة البالغ طولها 800 متر داخل مياه البحر، وهي التي أعاقت العثمانيين من دخول القسطنطينية

وصول سفن البابا.. فشل خطة القرن الذهبي

يحلل المؤرخون والكُتّاب ما توصل إليه السلطان عند دراسته لتاريخ وخرائط حروب أسلافه، حيث كانت المياه هي نقطة ضعفهم، مثلما كانت هي نقطة قوة المدينة حينما غفل عن دراستها، فقد قرر -بعد تحليله العميق لمخططات الحروب السابقة- السيطرة على منافذ المياه المطوقة للقسطنطينية، وفكّر بالدخول من المنفذ البحري المؤدي للقرن الذهبي.

المشكلة الجدية لتحقيق ذلك الهدف تمثلت بوجود سلسلة فولاذية ضخمة طولها 800 متر داخل مياه البحر، يمدونها إذا اقتربت سُفن العدو من مدينتهم، ويُخفضونها حينما يريدون السماح لبقية السفن بالدخول.

كل السفن المتوقفة عند السلسلة اضطرارا كانت تتعرض لهجمات مكثفة تؤدي إلى غرقها. فقد أمّن هذا النوع من الدفاعات البحرية حماية قوية للأسطول الروماني وللسفن الداخلة لمرفأ القرن الذهبي، ولا مفر أمام السلطان في هذه الحالة إلا بمهاجمة السفن الداخلة إليها وإغراقها، حتى يمنع وصول الإمدادات الغذائية والمساعدات العسكرية عن المدينة المحاصرة.

خطّط السلطان لمهاجمة أربع سفن جاءت لدعم المحاصرين داخل أسوار القسطنطينية، وأوكل للقائد الإنكشاري بالتوغلو سليمان قيادة أسطوله البحري، لكن المهمة انتهت بالفشل، ووصلت السفن المرسلة من البابا إلى هدفها النهائي.

هذا الإخفاق المُذل سيثير حمية المحافظين، وبشكل خاص خليل باشا، حيث يدفعه لإقناع السلطان بوقف هجماته وفكّ حصاره عبر توقيعه معاهدة هدنة مع الإمبراطور قسطنطين الذي ظهر كقائد شديد التمسك بمدينته.

مرفأ القرن الذهبي الذي امتلأ بالسفن المتوقفة اضطرارا، والتي كانت تتعرض لهجمات مكثفة تؤدي إلى غرقها

سفن البر.. أعظم الخطط العسكرية في تاريخ الحرب

تمضي أسابيع عدة على القسطنطينية وهي تحت الحصار، ورغم كل الهجمات المدفعية العنيفة واندفاع حشود الجيش نحوها فإن المحاصَرين لم يستسلموا، ولم تضعف إرادة المرتزقة الجنويين عن مهاجمة الجيش العثماني وإلحاق خسائر كبيرة به.

قفزت في ذهن السلطان فكرة جهنمية يعدّها المؤرخون واحدة من ألمع وأذكى الخطط الحربية التي عرفها العلم العسكري، وقرر لتجنب السلسلة الحديدية المانعة للعبور؛ نقل سفنه عبر البر إلى الجهة الثانية من المياه المحيطة بالقسطنطينية. لكن أنى للسفن أن تسير على الأرض؟

ذلك هو السؤال والتحدي الأكبر الذي أراد السلطان تنفيذه بأكبر قدر من السرية، والحرص على أن لا يتسرب أي خبر عما يبيته إلى العدو.

السلطان محمد الفاتح الذي عُرف بمرونته ودبلوماسيته التي تكشف عن رؤيته الإستراتيجية العميقة

حلف زعيم غلطة.. ثغرة الإمبراطور التي استغلها السلطان

يقدم المحللون صورة عن حجم انتشار التجسس في تلك الفترة، ودور الجواسيس المهم في حسم الكثير من الأمور العسكرية والسياسية.

شجعت المستشارة المخلصة مارا السلطان على المضي في خطته بعد معرفتها بنيّة المجريين والصرب في التحالف مع الإمبراطور قسطنطين ضده، ودفعت معلوماتها السلطان محمد لإقامة تحالف مع زعيم مدينة غلطة (مستعمرة التجارة الجنويّة عبر القرن الذهبي من القسطنطينية) التي كانت تقع في حدود الطريق الذي خطّط محمد لمرور سفنه عبره، وكانت المنطقة حينها مرتعا للجواسيس، وفي مقابل صمته وعدم تسريب أخبار التحرك السري؛ وعده السلطان بالحصول على مغانم خيالية.

يتوقف المحللون عند مرونة ودبلوماسية السلطان الشاب التي تكشف عن رؤية إستراتيجية عميقة، حيث استثمر معرفته باللغات وما اكتسبه من معارف علمية من أجل تحقيقها.

يكرس الوثائقي وقتا لشرح خطة نقل السفن برا بأسرع وقت قبل وصول الدعم الخارجي للقسطنطينية. فما إن أفاق القسطنطينيون من نومهم حتى وجدوا مياه البحر المواجه لهم وقد امتلأت بسفن العثمانيين. فمن أين جاءت؟

معارك طاحنة استمرت لأسابيع بين الجيش الروماني والجيش العثماني، والذي انتهى بسيطرة الثاني على القسطنطينية

“السيطرة على القسطنطينية تعني السيطرة على العالم بأسره”

أصابت المفاجأة قادة الرومان بصدمة أدركوا بعدها أن مدينتهم لم تعد مُحصّنة، وبعد ذلك الاختراق العظيم الذي أدى إلى إحراق أسطولهم البحري، تشجع الجيش العثماني على شن هجوم بري كاسح بقيادة الجيش الإنكشاري، وقد أسفر عن كسر الترسانات الدفاعية، ودحر الجيش الروماني، وهروب القائد الجنوي المرتزق جوستينياني بعد إصابته بسهم في رقبته.

يحسم الوثائقي اللغط التاريخي حول خيانته لقسطنطين إثر لقاء مباشر جرى بينه وبين السلطان محمد الذي عرض عليه إغراءات كبيرة مقابل تركه القسطنطينية والوقوف إلى جانبه، غير أن الجنويّ رد بالرفض كما يثبت الوثائقي، لكنه لم يستمر في دفاعه عن المدينة عند اقتحام الجيش العثماني لأسوارها، بل قرّر الهرب مع عشيقته على متن سفينة، ولم يكتب له النجاة لأن جرحه كان بليغا وأدى إلى موته.

وبدخول السلطان الفاتح إلى القسطنطينية يسدل الوثائقي الستار عن المعارك التي جرت حولها طيلة ما يقارب شهرين، لكنه يُنبه عبر المؤرخين إلى بداية تشكل إمبراطورية إسلامية جديدة ستكتب فصلا جديدا من تاريخ طويل يمتد لأكثر من ثلاثة قرون تَغيّر خلالها وجه العالم بفعل قوة إرادة سلطان شاب أدرك مبكرا أن “السيطرة على القسطنطينية تعني السيطرة على العالم بأسره”.