بعد “ثورة الألوان”.. هل تعود السينما إلى الأبيض والأسود؟

 

محمد علال

“هل فهمتَ الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مئتي عام لجُنّ من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان”.. إنها مقولة للروائي المصري أحمد خالد توفيق، وهي تعكس أهمية الأشياء التي كلما حاولنا التمعن فيها وجدناها اليوم قد تلونت بالأبيض والأسود، وكلما فكرنا فيها شعرنا أكثر بالحنين إليها.

تلك الألوان الرمادية لا تزال تنافس التطور الذي وصلت إليه تكنولوجيا التصوير ودقة الألوان، وذلك لقدرتها على اختزال المسافة بين الزمن الجميل واللحظة، وهو الأمر الذي يجعلها اليوم تحقق لعدد كبير من المخرجين نجاحات عالمية، وتفتح الأبواب للحديث عن أهمية التصوير بالأبيض والأسود في زمن طرقت فيه الصورة أبواب عالم ثلاثي الأبعاد ينقل أدق التفاصيل، وتموله شركات الإنتاج بملايين الدولارات، وذلك بحثا عن أعلى درجة من الدقة في الألوان والإبهار.

مؤخرا في قائمة الـدورة الـ76 لمسابقة “غولدن غلوب” والدورة الـ91 للأوسكار، دخلت المنافسة وجها لوجه أفلاما صُورت بتقنيات عالية الدقة، على غرار فيلم “الفهد الأسود” للمخرج الأمريكي رايان كوغلر، وفيلم “الرجل الأول” لدميان تشازل، لتقف مقابل أعمال أخرى تبدو فقيرة وشاحبة من ناحية الألوان، ويتعلق الأمر أساسا بفيلم “روما” للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي صُور بالأبيض والأسود، وباستخدام عدسة “65 ملم”.

 

“روما”.. ذكريات بالأبيض والأسود

خرج “روما” كأنه لوحة رُسمت بقلم الرصاص وبهدوء شديد، دون أن تكلف الرسام الكثير من العتاد والألوان، وقد كانت الصورة بذلك الشكل قادرة على توثيق اللحظة، ونَقْلِنا عبر أحداث عاشتها المسكيك بين عامي 1970 و1971، ليسرد المخرج قصة حقيقية لحكاية عاملة المنزل ومربية الأطفال “ليبو”، والتي قدمها المخرج في شخصية “كليو”، ويعيد فتح دفاتر الماضي ليبث روح الحياة في ذكريات حي كبير نشأ فيه المخرج ويعرف أبسط تفاصيله.

لهذا عندما قرر العودة إلى المكان لتصوير الفيلم اختار أن يلون الواقع بالأبيض والأسود، وذلك في مهمة استرجاع الذكريات. هكذا تتحول الصورة كأنها كبسولة الزمن تحط بنا الرحال في المكسيك، وذلك عبر نوستاليجيا (الحنين إلى الماضي) مبهرة تجعل المتفرج يشعر كأنه يتصفح صندوقا يضم مجموعة كبيرة نادرة من الصور القديمة التي يحتفظ به سكان الحي في أدراج الخزائن المنزلية.

ما حققه هذا العمل من نجاح على جميع الأصعدة سواء في المهرجانات العالمية ونسبة المشاهدة على شبكة “نتفليكس” المنتجة للفيلم ليس أمرا جديدا يعكس تفوق الأبيض والأسود على عالم الألوان، فحكاية “روما” مع الأوسكار التي حاز عليها عن جدارة تحيلنا إلى قصة الفيلم الفرنسي “ذي آرتيست” للمخرج الفرنسي ميشال هازانافيسيوس والذي حاز فيلمه على خمس جوائز أوسكار.

 

ذي آرتيست”.. أوسكار القرن الـ21

تدور حكاية “ذي آرتيست” حول قصة الممثل الشهير جورج فالتين عام 1927، وقد صنع العمل مفاجأة كبيرة عام 2012، كونه أول عمل سينمائي صامت صُور بالأبيض والأسود، ونجح في خطف جائزة الأوسكار في القرن الـ21، مما يجعل من المخرج فخورا جدا بالتجربة كما قال في حوار مع مجلة “واردس لاين” الأمريكية “لم يكن لدى أي شخص هذه الفكرة منذ حوالي 80 عاما”.

وتحدث المخرج في حواره عن أسباب اختيار التصوير بالأبيض والأسود قائلا “أحب الطريقة التي تُروى بها القصة في الأفلام الصامتة بالأبيض والأسود، والتي تجعلك كمتفرج تشارك في عملية سرد القصص بطريقة ما، لقد عدت إلى كيفية صناعة الأفلام القديمة لصناعة هذا الفيلم الحديث بنكهة قديمة”.

 

الأبيض والأسود.. حضور رغم عالم الألوان

لقد خاضت السينما العالمية معركة طويلة من أجل تقديم الأفلام في قالب ملون. وحسب السرد الكرونولوجي (التسلسل الزمني) التاريخي، فإن البداية الحقيقية لدخول الألوان عالم التصوير جاءت بعد اختراع تقنية “التكنوكولار” عام 1916 على يد دانيال فروست كومستوك الذي نجح في تلوين فيلم “الخليج بين” عام 1917، وهو العمل الأول في التاريخ الذي استخدم هذه التقنية، وذلك بعد عدة محاولات بدائية لتلوين النسخ السالبة الأصلية للأفلام عن طريق استخدام الفرشاة، وقد ظهرت المحاولات الأولى بسيطة جدا لكنها نجحت في إبهار العالم، رغم أنها لم تقدم كل الألوان.

القفزة التي حققتها السينما العالمية منتصف القرن العشرين في عالم الألوان، والتي أنجبت أفلاما مميزة مثل فيلم “قصة البحر” عام 1922 وفيلم “الأرملة ميري” عام 1925 و”شبح الأوبرا” عام 1952، لم تمنع من تسجيل الأبيض والأسود حضورا قويا في عالم الفن السابع حتى يومنا هذا. فلا يمكن الحديث عن العصر الذهبي للسينما العالمية دون الإشارة إلى روائع المخرج البريطاني ألفيرد هيتشكوك (1899-1980)، ومنها فيلم “سايكو” عام 1960، وهي نفس الفترة التي قدّم فيها المخرج الألماني إنغمار برغمان أفلاما هامة مثل “لعبة الصيف” عام 1950، و”الختم السابع” عام 1957، فالسينما العالمية لم تشأ يوما إلغاء أهمية التصوير بالأبيض والأسود بشكل نهائي.

 

علواش.. محاورة لسحر الأبيض والأسود

لا يرتبط اختيار الأبيض والأسود بالمواضيع المتعلقة بالذاكرة والماضي فقط، حيث نجد أعمالا تتناول مواضيع لها ارتباط وثيق بالحاضر. فبعد مسار مزدهر بالألوان عاد المخرج الجزائري مرزاق علواش لمحاورة سحر الأبيض والأسود، فآخر أعماله السينمائية قام بتصوريها بالأبيض والأسود، وقال عن فيلمه “تحقيق في الجنة” إن العالم الرمادي هو الأنسب لنقل حكاية عن الجنة، وفتح ملفات الحديث عن عالم لا أحد شاهده بعد.

لقد اختار علواش اللون الرمادي لتتبع خطوات صحفيَين انطلقا في رحلة إعداد تحقيق عن كيفية تأثير أفكار الدعاة السلفيين في المجتمع الجزائري، وقام بإجراء مقابلات ميدانية في عدة مدن جزائرية، بأسلوب سردي تشويقي وخيالي. وفي معرض حديثه عن الفيلم قال علواش في حوار لصحيفة فاريتي “اخترت الأبيض والأسود لأنني أريد محاورة ذلك العالم المجهول، لا أحد يعرف شكل الألون في ذلك العالم البعيد”.

هكذا يختار علواش نهجا يشبه الفلسفة في تفسيره لاختيار ألوان فيلم “تحقيق في الجنة”، والذي عُرض لأول مرة عام 2015 في إطار مهرجان برلين، وقد اختار هذا الأسلوب مرة ثانية لفيلمه الأخير “الريح الرباني” عام 2017، والذي تناول موضوعا آنيا عن حكايات الجهاديين.

 

أفلام تنتصر للأبيض والأسود

الملاحظ حاليا في استخدام المخرجين للأبيض والأسود في أفلامهم هو اختلاف طريقتهم عن كلاسيكيات السينما الإيطالية وحتى المصرية، فالأفلام التي تُصوّر اليوم بالأبيض والأسود هي أفلام لا تحمل روح فيلم “المومياء” الذي يعتبر واحدا من أهم الأفلام المصرية التي صُورت بالأبيض والأسود للمخرج المصري شادي عبد السلام عام 1970، ولا تشبه في بريقها أفلام سعاد حسني ورشدي أباظة وصلاح ذو الفقار، بل هي أفلام تنتصر للأبيض والأسود بطريقة مختلفة تماما.

وهذا ما نلمسه تماما في فيلم “ديكور” للمخرج المصري الشاب أحمد عبد الله الذي أخرجه عام 2014، وقد جاء العمل كنوع من التكريم لأفلام الزمن الجميل عبر قصة المهندس الذي يعشق مشاهدة أفلام فاتن حمامة، وقد نجح مدير التصوير المصري طارق حنفي في خلق أجواء رومانسية بين زمنين لأشخاص عاشوا بين القاهرة والإسكندرية.