“بوبي فيشر ضد العالم”

“بوبي فيشر ضد العالم”.. عنوان وثائقي المخرجة الأمريكية ليز غاربوس يُعَبر لوحده والى حد كبير عن إستثناية ذلك الرجل الذي أثار إنتباه العالم وحفزه لمعرفة حقيقة الإلتباس والتعقيد الكامنيّن في شخصيته؛ فهو وعلى مدى سنوات ممارسته اللعبة وصف بالعبقري واللاعب الأهم في تاريخ الشطرنج وعلى ذات القدر كانت صفتي اللاتوازن العقلي والنفسي لصيقة به، فيما ظل، دون هذين الوصفين المتناقضين والمثيرين، الجدل حول مواقفه السياسية وبخاصة موقفه السلبي من اليهود وبلده أمريكا دائرا حتى بعد وفاته في منفاه الآيسلاندي، وربما بسببيهما، على الخصوص، وجد نفسه وحيدا في مواجهة العالم؟ وربما لذات السبب وفي محاولة منها لرسم بورتريت سينمائي دقيق له، يبرر فكرة فيلمها وعنوانه!، سعت الى الإحاطة بالظروف السياسية والإجتماعية التي نشأ وسطها بوبي فيشر وأثرت به مع الذهاب في تفاصيل الحدث الذي إنشغل به العالم كثيرا عام 1972، حينما تحدى الروسي بوريس سباسكي  ودعاه الى مباراة حاسمة للفوز بلقب بطل العالم للشطرنج لتتحوَّل المباراة بعدها من رياضة الى صراع سياسي وأيديولوجي ساخن بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية أبان فترة الحرب الباردة.
لقد تحولت تلك المبارة، كما أظهرت ليز غاربوس في وثائق كثيرة جمعتها، الى نقطة إنعطاف حاسمة في حياة فيشر وبمقدار أكبر الى شهادة تاريخية نادرة أقرت إنتقال الهيمنة السوفيتية المطلقة على اللعبة الى الولايات المتحدة، والأخيرة أرادت لهذا الفوز بأي ثمن أن يعادل، إعلاميا وسياسيا، على الأقل، هزيمتها الوشيكة في فيتنام. المخرجة  ليز غاربوس من بين الوثائقيين المهميّن في الولايات المتحدة، ويكفي التذكير بأن فيلميها “الحقل، 1988” والأخير “بوبي فيشر ضد العالم” قد رشحا لجوائز الأوسكار الى جانب فوز الكثير من أعمالها الوثائقية بجوائز مهرجانات مهمة ولهذا فمرجعيتها “الأمريكية” في صنع الوثائقي، أهلَتها لتَقديم عمل بمستويات تقنية عالية وبمجهود كتابي يمنح مشاهد العرض متعة إكتشاف الحقائق وقد تحولت الى مادة بصرية. طيلة الشريط لم نَتَعرف على حياة فيشر وفق تسلسلها التاريخي ولا عبر شهادات أشخاص عرفوه فحسب، بل عبر صورة واسعة  للعالم وصراعاته.

مباراة فيشر مع الروسي سباسكي

لتحقيق التوازن المطلوب لهذين الجانبين لجأت ليز الى ربط الصور والتسجيلات الأرشيفية الخاصة به بأصوات محرري القنوات التلفزيونية والإذاعية وهم يعلقون على جوانب من حياته وشخصيته أو ينقلون أخبارا عما يجري في البلاد وخارجها، لنكتشف بهما سوية أن بوبي فيشر ومع صمته وإنطوائه الشديدين كان متأثرا بالمناخ الذي أُحيط به وأن بدا ظاهرا متفرغا للشطرنج وغير عابيء بشيء أخر سواه. وعلى مستوى أخر أعادتنا غابراس الى حياته العائلية وأَثَر تربية والدته في تكوينه النفسي. فالأم ريجيتا تَبَنت وطوال حياتها أفكارا يسارية، وخوفا من ملاحقة أجهزة المخابرات الأمريكية لها أنكرت ديانتها اليهودية وأخفت عن وَلَدها شخصية والده الحقيقي. وعلى المستوى النفسي تأثر فيشر بإبتعادها عنه وتفرغها للعمل والنشاط السياسي لهذا وجد في الشطرنج تعويضا عن حرمانه العائلي، ومن خلاله أراد إعلان وجوده للعالم، فعوالم السرية والحيطة التي عاشها وَجَدت تطبيقاتها المكبوتة على رقعة الشطرنج، وفي المجد المُنتَظر عَثَر على التعبير الحقيقي عن وجوده ككائن لم يَهُزم تماما رغم عزلة طفولته ووحشتها والتي تكررت ثانية وأشد عندما قرر الإختفاء وترك اللعب بعد تتويجه بطلا للعالم. هذا السلوك ظَلَ غامضا وغير مفهوم وهو ما زاد اللغط حول غرابة شخصيته وشذود تصرفاته.
في “بوبي فيشر ضد العالم” تُركت هذه الفترة من حياته غامضة، غموض قرار رجل في ذروة مجده، الهروب الى الظل والإختفاء لسنين طويلة عن أنظار الناس، بإستثناء مقابلات قصيرة مع مقربين له تحدثوا عن إرتباك فظيع في تصرفاته وميل نحو أفكار غيبية ممزوجة بمخاوف أقرب ما تكون الى شيزوفرنيا، والغريب أن انقطاعها ترافق مباشرة مع تصريحات خطيرة أدلى بها للصحافة عَبَر فيها عن نقده لسياسة بلاده الداخلية والخارجية وإشهار كراهيته لليهود معتبرا إياهم مصدر الشر في الأرض، مع أنه يهودي من طرف الأم. ثمة إشارات قصيرة الى أن إنسحاب فيشر قد وَفَر له فرص متابعة ما يجري في بلاده وأمريكا عبر نشرات الراديو ولكنها قطعا غير كافية لفهم وبشكل دقيق مصدر التحولات، إلا إذا قبلنا، وهذا ما نظن أن ليز غاربوس أرادته منا، العودة الى المباراة التاريخية مع سباسكي ثانية والإحاطة بكل تفاصيلها التي ستوصلنا الى نتيجة أن اللاعب الشاب قد شَعَر بعد مدة من إنتهائها إن عبقريته قد أستُغلت لأغراض سياسية، لعب مستشار الأمن القومي حينها هنري كيسنجر دورا كبيرا فيها، وحالما إنتهت لعبته أُهمل فيشر تماما.
هذه المعطيات تعطينا تفسيرا معقولا، الى حد ما، لأسباب إنسحابه عن اللعب والعالم، ومن المنطقي كما يتوافق مع ما قدمه الشريط أن تكون ردود فعله عنيفة ضد السياسة الأمريكية وضد اليهود، يضاف اليها تربيته العائلية المشبعة بروح النقد للرأسمالية وسياستها. بعد هذة المرحلة من التصادم الشديد،  والتي وصلت الى درجة رحب فيها بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، ينتقل الوثائقي الى مستوى لعبت فيه الكاميرا دورا أكبر بكثير من دور الأرشيف، متولية تسجيل مراحل الصراع الطويل بين فيشر والإدارة الأمريكية، التي استَغَلت مشاركته في مباريات حاسمة للشطرنج نظمت في يوغسلافيا وإعتبرتها خرقا قانونيا منه لقرار الأمم المتحدة بمقاطعة هذا البلد، ولهذا إضطر للبقاء خارج بلاده حتى اُلقي القبض عليه في اليابان بتهمة خرق قوانين الفيزا، وأرادت تسليمه الى بلاده ليحاكم فيها، لولا تدخل آيسلاندا وتقبله لاجئا عندها، فظل فيها حتى وفاته ملتزما بأفكاره وقناعاته وأن إختلط فيها الكثير من الهواجس والشكوك. من أكثر إضافات عمل ليز نباهة، تنويهها بأهميته التاريخية في الولايات المتحدة كونه الرجل الذي جَعَل من الشطرنح  لعبة يمارسها الملايين من الناس بعد أن كانت شبه مجهوله عندهم، فيما سيبقى محبوها يتذكرون اسم بطلها الأمريكي: بوبي فيشر، الذي وقف يوماً ضد العالم بسلاح لم يزد عن رقعة شطرنج ونبوغ إستثنائي!