“بيليه”.. الأسطورة التي اختطفت كأس العالم ثلاث مرات

يظهر لاعب كرة القدم الأسطورة “بيليه” وهو يدق بيديه على صندوق خشبي محدثا إيقاعات بسيطة يستخدمها عادة صباغو الأحذية لدعوة المارة والعابرين لصبغ أحذيتهم، ويحيل ذلك إلى كونه نشأ طفلا برازيليا فقيرا يمتهن مسح الأحذية في شوارع المدينة لإعالة أهله.

هذا المشهد منقول من قاعة شبه فارغة يجتمع فيها اللاعب البرازيلي -وقد تجاوز الثمانين من العمر- مع معدي الفيلم الوثائقي البريطاني الذي يحمل اسمه “بيليه” (Pelé)، ويترافق مع ومضات تاريخية تجسد أبرز خصاله كلاعب كرة موهوب وكشخصية عامة جذابة.

تتخلل هذه الومضات تسجيلات قديمة تجلي جانبا من الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدتها البلاد خلال مراحل مختلفة من حياته. اللافت في مُفتتح الفيلم أن اسمه وصرخات المشجعين المتعالية له “بيليه.. بيليه..” تكاد تطغى على تلك الأحداث بالكامل.

لقد بلغ “بيليه” من المجد ما لم يكن لأحد من قبله ولا من بعده أن يبلغه، فقد شارك في تتويج بلاده بالكأس ثلاث مرات لاعبا، ثم شهد التتويج الرابع والخامس مشجعا مجيدا، لكن الكأس السادسة هذا العام عاندت هذا العجوز الثمانيني، فسقطت البرازيل قبل أن تقر عينيه من مونديال قطر 2022.

غلبة الملاعب الخضراء على السياسة.. قناعات “بيليه”

انطلاقا من العلاقة الباردة بين اللاعب الأسطورة والسياسة، يقترح المخرجان “بن نيكولاس” و”ديفيد تريهورن” الشروع برسم بورتريه سينمائي لشخصية رياضية ألهمت الشباب والأطفال في كل أنحاء العالم، وشجعتهم على ممارسة لعبة كرة القدم أو حتى احترافها، مهما كانت شدة الظروف التي تحيط بهم، فـ”بيليه” رغم فقر حال عائلته لم يستسلم، بل راهن على موهبته، وتمكن في سن مبكرة من تحقيق حلمه في أن يصبح واحدا من بين أشهر لاعبي كرة القدم في العالم.

لم تغير الانتقادات التي وجهت إليه لقلة تفاعله مع الأحداث السياسية والاضطرابات التي شهدتها البرازيل موقفه من السياسة، كما لم تدفعه للتورط بها، بل ظل على قناعة كاملة من أن خدمته لوطنه تكمن في ما يقدمه على الملاعب الخضراء، ومن خلال إبداعه فيها يمكنه رفع اسم البرازيل عاليا، بدلا من العمل السياسي المباشر.

يبدي “بيليه” في حديثه مع معدي الوثائقي اعتزازه بوطنه البرازيل، ويُقر بأفضالها عليه في شهرته وسطوع اسمه في أرجاء المعمورة.

بيليه يلعب الكرة في حيّه في مدينة باورو، حيث لقب سكّان الحي بـ”ابن دوندينهو”، وذلك لأسلوب لعبه المتميز رغم صغر سنه

يد تحمل الخشب ورجل تلعب الكرة.. نشأة فقيرة

لمراجعة تاريخ “بيليه” الشخصي وما وصل إليه، يستعين الوثائقي بأرشيف يضم صورا فوتوغرافية عائلية وبعض تسجيلات الفيديو النادرة لمدينة باورو التي نشأ في أحد أحيائها الفقيرة.

لا يستنكف “بيليه” من فقره بل يتحدث عنه بتلقائية دون شعور بالخجل منه، حيث يتحدث عن طفولته البسيطة، وعن عربة جَدّه التي كان ينقل الخشب بها، وعن تلك البلدة الواقعة ضمن حدود ولاية ساو باولو التي يراها أجمل مدن العالم، فهو لا يعرف غيرها، وفيها ترعرع وظهرت موهبته في شوارعها.

كان والده لاعب كرة معروفا في منطقته، ومنه انتقلت إليه عدوى حب الكرة، حيث تأثر بوالده حتى في طريقة لعبه، لهذا كان يسميه سُكّان الحي وهم يراقبون أسلوب لعبه المتميز رغم صغر سنه بـ”ابن دوندينهو”. أما أخته “ماريا لويسا” فتتحدث عن شغفه منذ طفولته بالكرة، وكيف كان يحب اللعب مع أصدقائه حافيا في شوارع الحي فور عودته مباشرة من المدرسة.

صباغ أحذية في صفوف المنتخب.. أمجاد المراهقة

بسبب إصابة والده وعجزه عن اللعب قرر “بيليه” العمل كصبّاغ أحذية ليُعيل عائلته، لكن لم يمنعه العمل في شوارع المدينة من ممارسة هوايته.

وقد شجعه والده للانضمام إلى نادي سانتوس، وفي عام 1956 -أي حين بلغ 16 عاما- سُجّل رسميا في النادي بعد أن لاحظ المشرفون عليه ما يتمتع به من موهبة فطرية لا تحتاج إلا القليل من الصقل.

كان “بيليه” يتمتع بشخصية قوية، ويملك جاذبية لافتة، فهو مقدام لا يخشى الخوض في الصعاب، لهذا فعندما عرض عليه اللعب في صفوف المنتخب الوطني وهو في سن المراهقة؛ فإنه قبل مباشرة بلا تردد.

عام 1958 شارك بيليه كأصغر لاعب في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في السويد، أي قبل بلوغه سن الرشد

“كلكم سواسية داخل الملعب”.. أصغر لاعب في كأس العالم

سيكتب التاريخ أن “بيليه” في عام 1958 أصبح أصغر لاعب يشارك في بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في السويد. لم يكن قد بلغ سن الرشد يوم نزل لأول مرة إلى الساحة، لكن كانت كلمات والده ترن في أذنيه: “ثق بقدراتك الشخصية، فكلكم سواسية داخل الملعب”.

يتذكر “بيليه” أول مرة يغادر فيها بلده نحو أوروبا، ولم تكن البرازيل معروفة خارج حدودها في ذلك الوقت، فكان الناس يستقبلونهم في السويد باستغراب. أما الصحافة المحلية فوجهت انتقادات لإدارة المنتخب لضمها لاعبا لم يكتسب الخبرة الكافية حسب رأي محرريها.

ماسح الأحذية الهداف.. اختطاف كأس البرازيل الأولى

خلال البطولة وبعد عدة مباريات تقدمت البرازيل إلى المراكز النهائية، وسطع اسم “بيليه” لمهارته في اللعب وقدرته على تسجيل الأهداف.

وفي المباراة النهائية تغلبت البرازيل على الدولة المُضيفة، وخطفت لأول مرة كأس العالم، وحينها استُقبل اللاعب الصغير في بلده استقبال الأبطال، ونسي الناس عمره، وظلوا يتعاملون معه بوصفه الشخص الذي وضع اسم البرازيل على الخارطة الدولية.

حينها اعتبر الناس فوز المنتخب بكأس العالم فوزا لأمة بأكملها، ومَثَّل وجود لاعب أسمر البشرة فقير الحال في المنتخب علامة على انفتاح البرازيل وتسامحها المجتمعي، أما بالنسبة لفقرائها فقد صار “ماسح الأحذية” الموهوب مثالا وقدوة لهم يحتذون بها.

“بيليه” يُقبّل صديقه اللاعب البديل “أماريلدو” الذي كان سببا في فوز البرازيل بكأس العالم عام 1962 في تشيلي

“هذا يومك يا فتى”.. كأس العالم للمرة الثانية

يعود الوثائقي ليوثق بعض يوميات “بيليه” وهو في سن الثمانين، حيث يرافقه في زيارته لنادي سانتوس ليقابل عددا من زملائه القدماء الذين لعبوا معه ورافقوا مسيرته، وتسجل الكاميرا مزاحه معهم وذكرياتهم المشتركة.

يبدو “بيليه” رغم إعاقته الجسدية حيويا مرحا مُحاطا بأصدقاء عمر وزملاء يتشاركون معه ذكريات جميلة لم تخلُ من أحزان. يتوقف عند كأس العالم عام 1962 في تشيلي ليُذَكر بها. ففي إحدى المباريات أُصيب إصابة بالغة، وبسببها جرى استبداله بلاعب آخر، ومع ذلك تمكن المنتخب من الفوز بكأس العالم للمرة الثانية.

يتذكر اللاعب البديل “أماريلدو” التشجيع الذي تلقاه من “بيليه” عند نزوله للملعب، إذ يقول: همس في أذني وقال لي: هذا يومك يا فتى.

عصر السياحة والازدهار.. ثمار كرة القدم

يربط الوثائقي بين الفترة التي فاز فيها المنتخب بكأس العالم للمرة الثانية وبين الازدهار الذي عاشته البرازيل آنذاك، ففي أوائل الستينيات برز اسمها كواحدة من البلدان الناشطة في حقل الإنتاج الصناعي والزراعي.

ومع انتشار التلفزيون والسينما وصلت صورة جديدة عنها إلى العالم، فأقبل الناس إلى زيارتها والتعرف عليها، وقد نشطت السياحة بفضل الكرة التي صارت جزءا من هوية البرازيل القومية، واقترن اسم “بيليه” بالنجاح والازدهار، وهذا ما نقلته مشاهد ومقاطع من عدة مباريات لعبها داخليا وخارجيا، حيث أحرز خلالها أهدافا كثيرة، وغطّت صورته أغلفة المجلات وعناوين الصفحات الرياضية.

لكن هذه الصورة الرومانسية التي رسمتها البرازيل عن نفسها لم تستمر طويلا، ففي عام 1964 قام الجيش بانقلاب على الديمقراطية الناشئة، وأوقف مسيرتها بمجازر دموية.

“بيليه” يتحدث عن أهمية الحياد وعدم الانحياز لأي طرف من أطراف الصراع في البرازيل

“الخطر الشيوعي”.. لاعب الكرة الحيادي في عصر العسكر

أشاع جنرالات البرازيل المنقلبون كذبة “الخطر الشيوعي” لتبرير انقلابهم على الديمقراطية، وتنفيذهم مخططا أمريكيا أراد السيطرة على أمريكا اللاتينية سياسيا واقتصاديا، من خلال مساعدة بعضهم للوصول إلى الحكم.

شهدت البرازيل حملات إبادة وتصفية للنشاطين والسياسيين اليساريين، وتراجعت معها مظاهر الحياة المدنية، لكن في وسط كل هذه الفوضى السياسية ظل “بيليه” ثابتا على موقف الحياد، ولم ينحز لطرف.

يسأل معد الوثائقي “بيليه” عن ما إذا كان عالم الكرة وحياته كلاعب لها قد تأثرا بالمتغيرات الدراماتيكية والانقلابات العسكرية التي تشهدها البلاد؟ فأجابه بالنفي، وأنه اختار شخصيا الحياد وعدم الانحياز لطرف ما من أطراف الصراع. بالمقابل يشير الوثائقي إلى محاولات السلطات العسكرية استغلال حياديته لغرض دعم موقفها وتثبيت سلطتها.

من حفل زفاف “بيليه” على زوجته “روزا” التي أحبها، لكن انشغالاته الرياضية كانت سببا في فتور علاقتهما الزوجية

إخفاقات الزواج والرياضة.. نكبات البرازيل

يتطرق الوثائقي الذي أنتجته منصة نتفليكس باقتضاب إلى حياة “بيليه” الزوجية وعلاقته بـ”روزا” التي أحبها، وأراد تمضية حياته معها.

يعترف “بيلي” بتقصيره في التواصل مع زوجته بسبب انشغالاته الرياضية، مثل سفره الدائم والتزاماته بتنفيذ عقود الدعاية والترويج للشركات، فكل ذلك كان سببا في فتور علاقة زوجية لم تتوفر منذ البداية على مشتركات قوية.

انعكست الأجواء العامة والحياة الشخصية على وضع المنتخب الوطني الذي خرج من بطولة كأس العالم عام 1966 في لندن بخسارة مدوية تركت آثارها على الشعب وعلى الأمة البرازيلية بأكملها، وقد تزامن ذلك مع انقِلاب عسكري جديد عام 1968 أعاد البلاد إلى الوراء.

الديكتاتور “إميليو ميديسي” الذي أراد استغلال حُب الناس لكرة القدم من أجل التغطية على جرائمه

“إميليو ميديسي”.. دعوة من عاشق الكرة الديكتاتور

برز خلال تلك الفترة السوداء من تاريخ البرازيل السياسي اسم الديكتاتور “إميليو ميديسي” الذي أراد استغلال حُب الناس لكرة القدم من أجل التغطية على جرائمه، فقد حرص على حضور أغلب مباريات المنتخب، وأراد تلميع صورته المرعبة من خلال ظهوره المستمر وتشجيعه للكرة، وتدخله المباشر في تفاصيل عمل المدربين.

لا يُخفي “بيليه” عدم ارتياحه لتلك التدخلات ولا ينكرها، لكنه يؤكد على ضعف تأثيرها عليه كلاعب لم ينفِ سماعه بما يجري من عسف وقمع للناس والمعارضين، ويتذكر الرقابة المشددة التي كانت تفرض عليهم أثناء وجودهم في الخارج ومراقبة رجال المخابرات لتحركاتهم وإقامتهم في الفنادق. مع كل ذلك يترك “بيليه” الباب مواربا للسياسيين ولا يغلقه، وحجته في ذلك أن كل طرف متورط في الصراع يعرض موقفه ويدافع عنه، ولا يعرف هو بالضبط أيهما هو الصحيح؟”.

كان “بيليه” دائما ما يحافظ على موقف محايد ليبعد بذلك الشبهات عنه، لكن تلبيته لدعوة الرئيس وظهوره معه على شاشة التلفزيون رفع منسوب الاحتجاجات السياسية ضد مواقفه المتساهلة مع الديكتاتور، ويقارن المعارضون بين مواقفه وبين موقف الملاكم محمد علي كلاي المعروف بشجاعته ومناهضته للسلطات الأمريكية.

اللاعب رقم 10 بيليه يُسجل الهدف الألف في مسيرته الكروية

حلم الهدف الألف.. أسطورة الجوهرة السوداء في البرازيل

في خضمّ الصراعات ووسط كل الاضطرابات لا يمل الناس من البحث عن البطل، وفي البرازيل وجدوا في “الجوهرة السوداء” كما يلقبونه هناك البطل البديل عن الخراب الحاصل في البلد.

يصور الوثائقي انغماس الناس في متابعة تحقيق حلم “بيليه” في تسجيل هدفه الألف، فقد وجدوا في إنجاز ذلك مصدرا للفرح والخروج للحياة ثانية بعد طول إغلاق، لقد عثروا فيه على أسطورتهم التي طالما بحثوا عنها ولن يتخلوا عنها بسهولة.

سيتجسد ذلك الشعور بقوة خلال بطولة كأس العالم في المكسيك عام 1970 التي كان “بيليه” قد أعلن قبلها اعتزاله اللعب مع المنتخب.

بيليه يُقبّل كأس العالم بعد فوز بلاده للمرة الثالثة باستحقاق في المكسيك

عودة بعد الاعتزال.. كأس البرازيل الثالثة في المكسيك

بعد إعلان اعتزال “بيليه” اللعب مع المنتخب قامت مطالبة جماهيرية بعودته ثانية للعب مع المنتخب، وساندتها تدخلات الجنرال من خلف الكواليس، وصادف ذلك هوى في نفس “بيليه” وهو رغبته الشخصية في نسيان خيبة كأس العام 1966، كل ذلك ساهم في إقناعه باتخاذ قرار العودة.

تفاقمت مشاكله مع المدرب “سالدينهو” بإصرار المدرب على إبعاده، حيث أعلن عن قناعته بعدم لياقة اللاعب جسمانيا بعد طول انقطاع، وبضعف بصره أيضا، وقد كَذَّب “بيليه” مزاعم المدرب، وانضم إلى المنتخب بتدخل غير مُعلن من قبل الرئيس.

ينقل الوثائقي تفاصيل البطولة، وكيف أعاد “الجوهرة السوداء” صورته القديمة الراسخة في الأذهان كلاعب أسطورة خطف مع فريقه كأس العالم للمرة الثالثة باستحقاق، وقد كان انتصار المنتخب انتصارا معنويا للبرازيل كلها، أما بالنسبة للاعب “بيليه” فكانت لحظة تألق عظيمة تكفي لتذكير العالم كله بأنه ذلك اللاعب الأسطوري الذي لا مثيل له في عالم كرة القدم.