“تخطي الحدود”.. الجانب القذر في صناعة الأبطال

محمد هاشم عبد السلام

 

“تخطي الحدود” هو الفيلم التسجيلي الطويل الأول للمُخرجة البولندية الشابة “مارتا بروس” (مواليد وارسو، 1981)، وقد أنجزت بخلاف فيلمها هذا بضعة أفلام روائية وتسجيلية قصيرة دارت أحداثها في بولندا وتحديدًا في مدينتها وارسو. وفي فيلمها الجديد “تخطي الحدود” انتقلت مارتا إلى روسيا -وليس بولندا- لترصد ظاهرة تتجاوز حدود بلدها، ويمكن اعتبارها ظاهرة عالمية نظرًا لأن الرياضة وصناعة الأبطال ليست قاصرة على دولة أو قارة بعينها.

عنوان الفيلم “تخطي الحدود” خادع بعض الشيء، فالفيلم ليس عن مشاكل الهجرة والمهاجرين أو اللاجئين وعلاقتهم بممارسة الرياضة، فالحدود هنا لها معنى آخر يقتصر على الجسد البشري، والقدرة النفسية والطاقة البدنية على التحمل والعطاء.

 

مارغريتا.. بطلة الجمباز المُهانة

تقدم لنا مارتا بروس في فيلمها لاعبة الجمباز الإيقاعي العالمية المُعتزلة الشابة “مارغريتا مأمون” كمثال لما يحدث من تجاوز لا إنساني في سبيل خلق بطل رياضي عالمي، والوصول به إلى أرقى سلالم التتويج وحصده الميداليات الذهبية.

على امتداد الفيلم يصعب على المرء استيعاب إن كانت مارغريتا مأمون ضحية أم لا، فهي ملكة متوجة بالعديد من الكؤوس والميداليات والأوسمة وشهادات التقدير، ويظهر هذا في أكثر من مشهد بالفعل في منزلها سواء في حجرة المعيشة أو حجرة نومها، كما أنها تعيش حياة النجوم وتُعامل كالمشاهير بكل معنى الكلمة.

بالتأكيد مارغريتا سعيدة بكل هذا ويصعب عليها التخلص منه بسهولة، هذا ما تبيناه في أكثر من مشهد في الفيلم، لكن في الوقت ذاته ومع توالي الأحداث لا يملك المرء غير التعاطف مع تلك المُراهِقة التي تلقى شتى صنوف العذاب والإهانات والإذلال والحط من كرامتها وإنسانيتها وتدمير نفسيتها وإفساد حياتها.

على امتداد قرابة الساعة والنصف صاحبت الكاميرا البطلة في كل مكان تذهب إليه، خاصة أثناء تدريباتها التي كانت تقوم بها مارغريتا استعدادا لخوض الدورة الأولمبية في ريو دي جينيرو في البرازيل عام 2016.

مارغريتا بطلة متوجة في الكثير من الميداليات العالمية كما ذكرنا سواء على المستوى الأولمبي أو الأوروبي، لكن تدريباتها هذه المرة تختلف، فهي تسعى لحصد الميدالية الذهبية في الجمباز الإيقاعي (اللعب بالشريط والكرة والطوق)، ومن ثم فالضغوط عليها رهيبة للغاية. لكن المشكلة أن مارغريتا تواجه الكثير من الضغوط الحياتية أيضا، فوالدها الباكستاني الأصل عبد الله مأمون في حالة صحية حرجة، وهو يَظهر في مشهد وجيز بالفيلم بينما يحتضر على فراش الموت في المنزل.

المُدربة المُتطلبة إيرينا التي لا يعجبها أي شيء على الإطلاق مهما أبدعت مارغريتا

 

إيرينا.. المدربة التي لا تُطاق

من ناحية أخرى تُهيمن على الفيلم وعلى مارغريتا المدربة ومصممة الرقصات الإيقاعية “إيرينا فينر أوسمانوفا”، وهي من الروسيات اللاتي مارسن اللعبة، وهي من أقوى المدربات ومصممات الرقص الإيقاعي لتلك الرياضة في العالم، فهي مدربة المنتخب الروسي للجمباز الإيقاعي.

إيرينا شخصية لا تُطاق، فهي عصبية دائما، ويعلو صوتها عند أقل هفوة من أي شخص لدرجة أنها أصيبت في إحدى المرات بنوبة قلبية كادت تُفقِدها حياتها. فمنذ ظهور إيرينا على الشاشة وهي دائمة التوبيخ والإذلال لمارغريتا.

إيرينا مُدربة مُتطلبة على نحو لا يُحتمل، لا يعجبها أي شيء على الإطلاق، ومهما أبدعت مارغريتا فإنها دائما ما تسبّها وتلعنها بأفظع الألفاظ حتى تلك الخادشة للحياء التي يعاقب عليها القانون، ولا يمكن تصور توجيهها لمُراهقة على الملأ، لكن إيرينا لم تكن تعبأ بأي شيء إلا إخراج كل ما لدى مارغريتا من طاقة وجهد، وربما لو طالت أن تمص دمها لتضع مكانه قوة وطاقة وإبداعا حركيا لفعلت.

في أحيان كثيرة يتعجب المرء كيف لمخلوق أن يتحمل كل هذا، ناهيك عن مراهقة لم تكمل العشرين من عمرها بعد، والمثير في الأمر أنه كلما أبدعت مارغريتا تلقت المزيد من الإهانة والسُّباب من جانب إيرينا. بكاء الفتاة وحزنها ووجومها لهم السيادة في أغلب فترات الفيلم بشكل أكبر من لحظات فرحها وسعادتها. فيكفي سماع صراخ المُدربة من حين لآخر قائلة “إنك لست إنسانة بل رياضية”، وتلك جملة قد تكون مُهذبة ومُحفِّزة بعض الشيء مُقارنة بالألفاظ الشنيعة الأخرى.

في النهاية ولأنها لم تحصل بعد على ما تريد، تستغل إيرينا مرض والد مارغريتا وكونه يحتضر جراء إصابته بالسرطان، وتُطلعها على مدى سوء حالته وتجعلها تُشاهده بالصوت والصورة، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار الفتاة كليا، خاصة وأنها كانت بعيدة عن المنزل ويُصعب عليها رؤية والدها. أيّ قسوة وانعدام للمشاعر والإنسانية هذه؟ لكن كما ذكرنا إيرينا لا تعبأ بأي شيء عدا الحصول على النتيجة المرجوة.

تسافر مخرجة الفيلم مع مارغريتا إلى ريو دي جانيرو وتصاحبها في تدريباتها هناك، وتظل معها بكاميراتها حتى لحظة دخول الفتاة إلى الملعب أو البُساط. المُدهش في الأمر أن مارغريتا تُبدع فعلا وتحصد الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية عام 2016 وهي في الـحادية والعشرين من عمرها، لكن المُؤسف أنه بعد تتويجها بيومين توفي والدها وهي بعيدة عنه.

تصنع مارغريتا لنفسها المجد ولبلدها، وفي العام التالي لفوزها تُقرر اعتزال اللعبة كليا وهي لا تزال في الثانية والعشرين من عمرها.

مارغريتا تتلقى اللوم والتوببخ والسباب من مدربتها إيرينا

 

القسوة طريقا لصناعة الأبطال.. وجهة نظر

لا يرصد الفيلم حياة البطلة الشابة على نحو يُبرزها كنجمة أو بطلة شهيرة، فهي بالفعل نجمة وبطلة عالمية وأولمبية، لكنها أيضا ضحية كما نرى. الأمر بالطبع مُثير للجدل كثيرا، فالبعض يجد أن ما فعلته مُدربتها إيرينا وما قد تفعله مع غيرها أو حتى ما يقوم به أمثالها من المدربين في غيرها من اللعبات له ما يُبرره، فقد فازت في النهاية وربحت الميدالية الذهبية. إذن المهم هو النتيجة النهائية بصرف النظر عن سبل الوصول إليها أو الكيفية التي تحققت بها.

البعض الآخر يرى الأمر على نحو مُختلف، فهو يراه شيئا تدميريا وغير إنساني أبدا، ولا يمكن قبوله، ويمكن أيضا رؤيته وتفسيره كنوع من الاستفزاز المُبرر لإخراج أقصى ما لدى الإنسان من طاقة وإبداع، والضغط عليه لتجاوز حدوده وقدراته ومن ثم الخروج بأفضل ما يُمكن تصوره، أي أن الأمر يشبه من قريب أو بعيد ما حدث في الفيلم الروائي المعروف “ويبلاش” للمُخرج الأميركي داميان شازيل.

لاعبة الجمباز الإيقاعي العالمية المُعتزلة الشابة “مارغريتا مأمون” خلال إحدى تدريباتها

 

البطل.. تتويج أيا يكن الثمن

إخراجيًا، لم نلحظ على الفيلم أي شيء جديد أو مغاير، فهو مُجرد إخراج عادي وسرد سينمائي خطي تتبعت فيه المخرجة مارغريتا حتى لحظة تتويجها بالميدالية. ليس في هذا بالطبع ما يعيب الفيلم، فاختيار الموضوع كانت له الأولوية لدى المُخرجة، وفي النهاية فإن الغرض من الفيلم ورسالته قد وصلا بكل تأكيد بصرف النظر عن الطريقة.

والمهم في هذا الفيلم التسجيلي الشائق والممتع رغم قسوته إطلاعنا على الكواليس الخاصة بكيفية صناعة الأبطال في مُختلف اللعبات، فإن كان هذا حال لعبة رياضية تُعتبر رقيقة وغير عنيفة فما بالنا بغيرها من اللعبات.

بالتأكيد ليس جميع المدربين على شاكلة إيرينا ولا كل اللاعبين خاضعين ومستسلمين مثل مارغريتا، لكن قطعا ثمة من يرغب -سواء المدرب أو اللاعب- في تحقيق الانتصار والتتويج مهما كان