“تل أبيب على نار”.. كوميديا تعكس صعوبات الواقع

 

محمد هاشم عبد السلام

نجح المخرج الفلسطيني سامح الزعبي (مواليد 1975) في فيلمه “تل أبيب على نار” في صناعة فيلم جيد للغاية، ويمكن اعتبار الفيلم من أهم وأبرز أفلام الكوميديا الطريفة والساخرة التي صنعت خلال السنوات الأخيرة في السينما العربية ولا تخلو من عمق ومرارة.

عبر توليفة ذكية تجمع بين الكوميديا الساخرة وقصة الحب الملتهبة، والصراع بين نقيضين أو طرفين غير متكافئين وحبكة درامية تخلق الكثير من الإثارة والتشويق؛ بنى سامح الزعبي فيلمه. هذا بالإضافة إلى بعض التمثيل الجيد، وسيناريو مكتوب باحترافية شديدة وذكاء ملحوظ، إلى جانب الكثير من الجمل الحوارية بالفيلم التي تتميز بقمة الترابط والتماسك والسلاسة، والقدرة على إثارة الضحك والسخرية التي تفجرها المواقف المختلفة أو المتناقضة، وكذلك سوء التفاهم بين الشخصيات.

بالطبع لا يمكن القطع بأن تلك التوليفة المطروقة في الكثير من أفلام السينما العربية والأجنبية هي السبب الوحيد في أوجه التميز لفيلم “تل أبيب على نار”، لكن لا يمكن إنكار أن الكوميديا الشديدة السخرية بالفيلم والتي تبلغ في أحيان كثيرة حد الفارس المسرحي؛ يُمكن رؤيتها من ناحية أخرى باعتبارها كوميديا بالغة القتامة. وفي الوقت نفسه وبذكاء بالغ يُحْسد عليه لم يقع سامح الزعبي في فخ التسطيح أو الانجراف وراء تقديم الكوميديا لأجل الكوميديا أو صنع ما يُطلَق عليه “إفيهات” سينمائية تعلق بالأذهان، إلى آخر ما التصق مؤخرا بالأفلام الكوميدية العربية من ابتذال.

 

رسائل سياسية مضمرة

من جهة أخرى -وهذا هو الأهم- فإن فيلم “تل أبيب على نار” ليس مجرد فيلم جماهيري مضحك وساخر وهروبي يدعو للتسلية والتسطيح، بالعكس، فالفيلم يمكن قراءته في ضوء الكثير من الرسائل السياسية المضمرة التي يخفيها والتي غلفتها الكوميديا بذكاء لدرجة لا تظهر معها على السطح، ولا تبدو كرسالة سياسية أو نقدية مباشرة للأوضاع في فلسطين أو أنها موجهة ضد إسرائيل وجيش الاحتلال الإسرائيلي.

وكان العرض العالمي الأول لفيلم “تل أبيب على نار” ضمن قسم “آفاق” في الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (29 أغسطس/آب – 8 سبتمبر/أيلول)، وفاز عنه الممثل الفلسطيني قيس ناشف بجائزة أفضل ممثل.

وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يمكن الزعم بأن الأداء التمثيلي هو أهم ما ميز الفيلم، فالأداء التمثيلي جاء إجمالا على نحو جيد أو فوق المتوسط بقليل. صحيح أن أداء قيس ناشف في دور “سلام” هو الأبرز كبطل للفيلم بالاشتراك مع الممثل الإسرائيلي “يانيف بيتون” في دور “آسي” وذلك مقارنة بأداء بقية الأبطال، لكن تبقى البطولة الأولى في الفيلم للسيناريو الذي كتبه سامح الزعبي بالاشتراك مع دان كلاينمان.

وبخلاف التوليفة التي تحدثنا عنها سابقا، لجأ سامح الزعبي وشريكه في كتابة السيناريو إلى فكرة مطروقة للغاية، وهي ما نطلق عليه “فيلم داخل فيلم” أو “صناعة فيلم عن فيلم”. ففي فيلم “تل أبيب على نار” فإن الاختلاف الطفيف الذي أدخله سامح الزعبي على تلك الفكرة أن الفيلم يدور حول صناعة مسلسل تلفزيوني شهير، وله جمهوره العريض الذي يتابعه يوميا، ويحمل عنوان “تل أبيب على نار”.

 

حظ عاثر على معبر التفتيش

تدريجيا، أدخلنا المخرج في كواليس تصوير وتمثيل وكتابة المسلسل الذي يستعين أحد المنتجين له بقريبه “سلام”، وذلك من أجل العمل على ضبط نطق الحوار باللغة العبرية على لسان الممثلين، والقيام ببعض الأعمال الأخرى التافهة عوضا عن عطالته، وذلك في محاولة لإدخال معنى ما على حياته البائسة الخالية من أي نجاح والمكللة بالخيبات.

تدريجيا أيضا، ينجح سلام في تخطي دوره بوصفه مجرد شخص عابر يستعان به عند اللزوم، وبمحض الصدفة يجد سلام نفسه -وهو غير مثقف ولا قارئ وحتى شبه أُمّي- وقد أُسند إليه كتابة بعض الجمل الحوارية بالمسلسل، ولاحقا مشاهد من المسلسل، وشيئا فشيئا إسناد الأمر إليه كاملا، وهو ما يضعه في حيرة ومأزق بالغَين.

سلام لم يسبق له الكتابة من قبل، ولا يعرف كيفية صياغة الحوار، وفقد حبيبته السابقة لأسباب كثيرة من بينها خواء شخصيته وعدم قدرته على التعبير أو البوح.

من ناحية أخرى يضطر سلام يوميا من أجل الذهاب للعمل في موقع التصوير إلى المرور على المعابر وتفتيش سيارته. وذات يوم يوقعه حظه العاثر في يد الضابط الإسرائيلي “آسي” الذي يمارس كافة أنواع السخافات غير المبررة مع سلام، حتى يفهم بطريقة خاطئة أن السيناريو الذي عثر عليه بسيارة سلام يخصه، وأنه هو الكاتب الحقيقي لمسلسل “تل أبيب على نار”، ذلك المسلسل الذي تتابعه أسرة الضابط وخاصة زوجته. يحاول سلام توضيح دوره للضابط لكن الأخير يقتنع بأنه كاتب سيناريو المسلسل، ومن ثم يأخذ في مطالبته بوضع بعض الجمل الحوارية على لسانه بالمسلسل أو يعطيه صورته الشخصية ليضعها على أحد الأرفف بديكور المسلسل كي تقتنع زوجته أنه صاحب السيناريست كاتب المسلسل.

ببعض الذكاء والمهارة والخفة ينجح سلام في كتابة الكثير من الجمل الحوارية والمشاهد الناجحة، لكن تلك الجمل في معظمها شريكه الأساسي فيها هو الضابط الإسرائيلي الذي بات يفرض شروطه من أجل تغيير حبكة السيناريو، وهو السيناريو الذي يتناول دور فلسطينية فدائية تقوم بعمل مخابراتي من أجل قتل ضابط إسرائيلي كبير في الجيش الإسرائيلي في ستينيات القرن الماضي. وكذلك تغيير الحبكة، وجعل الجاسوسة تحب ضابط الجيش بل وتتزوجه، ويدور الكثير من الشد والجذب بين سلام والضابط. من ناحية أخرى، تتوتر العلاقة بين سلام والمنتج والمخرج وطاقم العمل لأنه من غير المنطقي أن تتزوج فلسطينية فدائية من ضابط إسرائيلي، لكن سلام يحاول إقناعهم بالأمر على أن هذا هو مكمن التجديد والإبداع.

الممثل قيس ناشف الذي قام بدور البطل “سلام” في فيلم “تل أبيب على نار”

 

فيلم مشحون بالعمق والسياسة

الأمر في الحقيقة ليس متعلقا بالمرة بالتجديد من عدمه، بل بالطريقة المهينة التي تعامل بها آسي مع سلام ذات يوم بعدما خالف أوامره بشأن المواقف والجمل الحوارية، مما أدى إلى سحبه لهويته، وعجزه عن عبور المعبر. ومن ثم يستخدم سلام بعض التحايل والذكاء كي يسترد هويته من ناحية، وكي يتخلص من الضابط الإسرائيلي إلى الأبد. بالفعل يحدث أن يستعيد هويته ويسترد حبيبته، لكن هل انتهى صراعه مع الضابط “آسي”؟ كلا بالطبع. ففي مشهد ختامي نرى أن ثمة تتمة لمسلسل “تل أبيب على نار”، لكن “آسي” هذه المرة يقوم بالتمثيل فيه.

الخاتمة السابقة على طرافتها البالغة تعني أن الأمر لم يتوقف عند حد كتابة أو المشاركة في كتابة السيناريو بل تخطاه إلى التمثيل، فطموح “آسي” سواء فيما يتعلق بالشهرة أو الفن قادته في النهاية إلى التمثيل. وهذا قطعا حدث عبر سلام الذي رضخ وساعده في هذا لوقوعه تحت ضغوط أخرى لم يبرزها الفيلم. من هنا، وعبر تلك الخاتمة التي هي خير تجسيد للعبة القط والفأر بينهما طوال الفيلم، تجلى ما رغب سامح الزعبي في قوله أو إيصاله للجمهور عبر فيلمه.

بالتأكيد ثمة تعايش ما -وإن كان اضطراريا- بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وثمة تعاون وعمل ومصالح وأموال وحياة مشتركة في أوجه عدة. لكن رغم كل هذا ثمة لعبة شد وجذب كامنة تحت السطح بين الطرفين لم تنته بعد، قطعا يضغط فيها الطرف الأقوى على الأضعف بغية الحصول على أكبر وأكثر مكاسب ممكنة. ولذا لم يخل “تل أبيب على نار” من العمق ولا السياسة مطلقا، بالعكس. وهنا تكمن خطورة الكوميديا واستخدامها كسلاح لتمر عبرها الكثير من الرسائل التي يرغب أي فنان في إيصالها، وأظن أن رسالة سامح الزعبي قد وصلت، وبطريقة سلسلة وممتعة للغاية تخلو من الابتذال.